شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"لم يكن هٌنا أي مكانٍ يقدّم الأكل العربيّ"... سعاد المغربية ومطعمها في شمال إسبانيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 11 ديسمبر 202112:13 م

 يصدح صوت كاظم الساهر، مُعلناً أن حُبّها أدخله "مدن الأحزان"، وأنا أختار طاولتي بعنايةٍ في مطعمٍ مغربيٍّ تديره سيّدة وارفة، عرفت في ما بعد أن اسمها سعاد.

لفتتني الواجهة الخارجية بزخارفها التي حاكت بألوانها ونقوشها تصاوير الشرق، في مدينةٍ تبعد آلاف الأميال عن المكان الذي أتيت منه.

أخطو إلى الداخل جذلةً، يصحبني صوتٌ مألوف، وأحبّه. كانت الكلمات من لغتي، والألحان تُعمّق مواطن الشجن في قلبي؛ موسيقى من الشرق، جذبتني إلى بهوٍ فسيحٍ، ذات أمسيةٍ هادئةٍ وجافّةٍ في مدينةٍ تحترف البرد والمطر.

ومن بعيدٍ، أقبلت تُحيّيني.

"أعدّ نفسي إسبانيةً، بقدر ما أنا مغربية، وربمّا أكثر. أحبّ المغرب بشراسةٍ، لكني لا أتصوّر نفسي أعيش هناك".

"من لبنان، أم من سوريا؟"، سألتني مبتسمةً بعربيةٍ تشوبها الإسبانية، بعد أن بادرتها من دون قصدٍ بـ"مرحبا"، عوضاً عن Buenas Tardes، التي اعتدت عليها.

"من بلد المنسف!"، أجيب بسرعةٍ، وأنا أُوصيها بمعدتي التي تعبت من "النواشف"، خيراً!

وفي انتظار الطبق الذي أوصت به سعاد الكطيبي (55 عاماً) واختارته، وجدتني أتجوّل في المطعم الأنيق الذي يحتلّ موقعاً مهماً في إحدى أهم الجادات التجارية، على قلّتها، في بامبلونا. تلك المدينة الإسبانية التي اخترتها لإقامتي. تقع بامبلونا في قلب الشمال الإسباني، وهي عاصمة مقاطعة نافارا التي تحتضن عدداً لا بأس به من الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث ذات الصيت العالمي، والتي تُعدّ وحدها من أهم عوامل الجذب، بالإضافة إلى جمال المدينة، ووقوعها على طريق الحجّ المسيحي؛ "طريق القديس يعقوب" camino de Santiago Compostela، وهو درب يمتدّ ويتعرّج كشبكةٍ من طرق الحجّاج، إلى مقام القديس يعقوب بن زبدي في غاليثيا، شمال غرب إسبانيا.

"ما الذي جاء بك إلى هنا؟"، تسألني سعاد، بلكنةٍ مغربيةٍ محبّبة، بعد أن وجدتني أتأمّل من قربٍ أواني الفضة المذهّبة التي اختارت لها صاحبة المكان زاويةً ظاهرةً للعيان، في وسط المطعم الذي يحمل اسم "السفير العربي".

"لا أصادف الكثير من العرب في مدينتي هذه، وإن حدث وعرفت بعضهم، فهم على الأغلب من المهاجرين الذين رمتهم ظروفهم القاسية هنا، عابرين لا مستقرّين"، تحدّثني مضيفتي، وهي تحاول بجدٍّ أن تجعل عربيتها مفهومةً لي قدر الإمكان.

"لم لا تحدثيني أنت عن قصّة المطعم، والأطباق، والمكان؟"، أسألها، وأنا أنتظر طاجن الخضروات، كلقيّةٍ ثمينة في هذه البلدة، وهو محمول على الأكفّ في طريقه إلى طاولتي.

"لم تكن الرحلة سهلةً"، تجيب سعاد، الزوجة والأم لثلاثة أبناء وُلدوا وعاشوا في المهجر. وتتابع: "أعدّ نفسي إسبانيةً، بقدر ما أنا مغربية، وربمّا أكثر. أحبّ المغرب بشراسةٍ، لكني لا أتصوّر نفسي أعيش هناك".

تكمل سعاد مسهبةً في شرح كيف وصلت، في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، إلى بلباو، وهي مدينة إسبانية تبعد مسافة ساعتين عن بامبلونا، مستقرّها الحالي، أو ما تعدّه الآن، وفق كلماتها، "الوطن".

"ساعدتني معرفتي المسبقة بالإسبانية، على التأقلم في مجتمعي الجديد. نحن في المغرب ندرس اللّغة الإسبانية كلغةٍ ثانيةٍ في معظم المدارس. تخرجت من مدرسة جابر بن حيان، حيث تعلّمت الإسبانية، لذا لم يكن من الصعب عليّ البدء بالتواصل بسرعةٍ مع جيراني وزملاء العمل. كنت محظوظةً على ما أعتقد، وربمّا ما ساعدني أيضاً، أنني قدِمت إلى هنا في عمرٍ غضّ".

كيف جاءت فكرة "السفير العربي"؟

أسأل سعاد، قبل أن تستأذن منّي للترحيب بمجموعةٍ من مرتادي المطعم المعروفين على ما بدا لي. كانوا جميعاً من الإسبان، ومن عائلةٍ واحدة، وكانت من بينهم فتاةٌ جميلةٌ شديدةُ الحماسة، اختالت أمامنا برداء رقص ملوّن، قبل أن تختفي عن النظر. وبعد أن استقرّت المجموعة الصاخبة على إحدى الطاولات الموزّعة في صالةٍ داخليةٍ رحبة، عادت سعاد لتكمل الحكاية.

"لطالما كنت شغوفةً بالمطبخ! عملت جدّتي طاهيةً في أحد مستشفيات المغرب الحكومية، ومنها ورثت مهنتها الأثيرة"

"لطالما كنت شغوفةً بالمطبخ! عملت جدّتي طاهيةً في أحد مستشفيات المغرب الحكومية، ومنها ورثت مهنتها الأثيرة. لا زلت أطورّ وصفاتها التقليدية، وأجرّب صنوفاً جديدة. رائحة التوابل كانت ولا تزال تشعل حواسي الخمس. في البدء، عملت لدى شابين من ليبيا، كانا يديران مطعماً في بيلباو، وتعلّمت من أسامة وجمال كيفية إعداد الكثير من الأطباق العربية. أمضيت ما يقارب من خمس سنواتٍ هناك، وفي تلك الفترة أيضاً التقيت بزوجي فضيل. كان حينها يعمل في مطعمٍ آخر، وكانت قد مضت على وجوده في إسبانيا خمس وأربعون سنةً أنفقها في باملبونا تحديداً، وكان من أوائل العرب الذين وصلوا إلى المدينة الخضراء! حدّثني كثيراً كيف كان يشعر بالغربة أحياناً، لكنه أحبّ المدينة التي يشقّها نهر أرغا بما يفوق التصوّر، لذا قررت الانتقال للعيش معه هنا".

ويومئ لنا زوجها من على بعد خطواتٍ، لكنه يؤثر ألا يتحدث كثيراً، فهو كما تصفه سعاد خجول وهادئ.

"فضيل كانت تعجبه المدينة بزاف! (أي، كثيراً بالدراجة المغربية)، لكني لا أهوى المدن بلا بحر"، تقول سعاد بلهجتها المغربية، بعفويةٍ مطلقة. "ولدت وترعرعت في العرائش شمال المغرب، لذا أعشق البحر. لكن زوجي كان مفتوناً بهدوء بامبلونا، واحتفالاتها الموسمية، خصوصاً موسم سان فيرمين San Fermines، حيث تنطلق الثيران في الأزقّة المرصوفة للبلدة القديمة، ويتقاطر السيّاح من كل مكان".

"وكيف جاء الاسم؟"، أسألها، بينما تحيّي من جديدٍ مجموعةً أخرى قدمت للعشاء، ويقودهم زوجها إلى طاولتهم المعهودة، كما أسعفني سمعي لالتقاط الأمر.

"راهن الكثيرون على فشلنا"

"لم يكن في بامبلونا أي مكانٍ يقدّم صنوف الأكل العربيّ، لذا كنّا متحمّسين للفكرة، كما أنّنا وجدنا أن هذه المغامرة تستحقّ التجربة، فالطبخ والضيافة هما ما نجيده أنا وزوجي. افتتحنا مطعمنا هذا في 1995، ولا زلت أذكر كيف راهن الكثيرون على فشلنا المحقَّق، ونصحنا كثيرون من المعارف بألّا نقدّم مطبخاً مختلفاً، فلا يفضّل الإسبان التوابل والبهارات التي تعجّ بها الأطباق العربية، والمغربية على وجه الخصوص. لذا أخذت هذا الأمر في الحسبان، وبدأت بتعديل وصفاتي التقليدية لتناسب أذواق الأوروبيين في الطعام".

"حمّص وشاورما Por favor"، يأتينا صوتٌ من طاولةٍ في الزاوية، يحتلها ضيف متوسط العمر، حضر ورفيقته كما أخبراني لاحقاً، لمشاهدة العرض الراقص الذي تقدّمه سعاد في مطعمها، نهاية كل أسبوع.

"أرى أنهم يفضلّون الحمّص كثيراً"، أمازح صاحبة المطعم قبل أن تبدأ بتعداد الأطباق التي تبرع في إعدادها، ويطلبها زبائن المطعم.

"يحبّون الحمّص نعم، وكذلك الفلافل، والطاجن، والكسكسي، والمذاقات اللبنانية والأردنية... لا نصنّف مطبخنا قادماً من المغرب فحسب. أحضّر أطباق الشرق الأوسط اللذيذة طوال الوقت، ومن هنا جاء الاسم: 'السفير العربي'. نحن لا نقدّم الطعام فحسب، بل أجواءً من الشرق الذي أتينا منه، كالموسيقى وحسن الاستقبال، واليوم، هو يوم الرقص الشرقي".

"لم يكن في بامبلونا أي مكانٍ يقدّم صنوف الأكل العربيّ، لذا كنّا متحمّسين للفكرة، كما أنّنا وجدنا أن هذه المغامرة تستحقّ التجربة، فالطبخ والضيافة هما ما نجيده أنا وزوجي. افتتحنا مطعمنا هذا في 1995، ولا زلت أذكر كيف راهن الكثيرون على فشلنا"

وإذ تسهب مضيفتي في الحديث عن عشقها لكل ّ قطعةٍ في المكان الذي تملكه وتديره، أجول بنظري متأملةً التفاصيل الصغيرة التي أضفت على الداخل جوّاً من الحميميّة والدفء؛ شراشف الطاولات المطرّزة بعناية، والمشغولةِ بخيوطٍ زرقاء وفضّية مستوحاةٍ من ألوان مرّاكش، المدينة والتراث، ولوحات الحائط الترابية اللون، التي تحمل كلّ منها رسماً لنخلةٍ، أو قبةٍ معمارية، والفوانيس المضاءة المدلّاة من سقوف متوسطة الارتفاع، وصورٌ ملونةٌ، وأخرى بالأبيض والأسود لمناظر طبيعية من المغرب العربي، وسيوفٌ فضّيةٌ بأغمادها المزخرفة تعتلي الجدران، وطرابيش حمراء منثورةٌ على الطاولات.

تقول لي سعاد بفخرٍ إنها للحظة تأتي بالتوابل خصيصاً من المغرب، كما تستورد بعض المكوّنات من تجار عربٍ وسوريين في برشلونة، وآخرين يقطنون في مدريد.

بين البيت والغربة

"لم أشعر يوماً بالغربة هنا، كما حافظت على طقوس الثقافة العربية في منزلي الصغير، وأتحدث العربية طوال الوقت مع أبنائي؛ سامية، ونذير وحسين، وأكبرهم في الخامسة والعشرين من العمر. كما أحرص على حثّهم على صيام رمضان، وتوثيق علاقاتهم مع عائلتهم الممتدة في المغرب".

ما الذي تشتاقين إليه هناك؟

"أحنّ إلى الصخب، واجتماعات العائلة، والحفلات الكبيرة بطقوسها الأصيلة، كما أن والدي لا يزال يقطن العرايش، لذا أزوره بانتظام".

هل فكّرت يوماً في العودة؟

"لا، أحبّ ما صنعته في هذا المكان، وأعشق عملي فوق التصوّر، وأقضي هنا أكثر من نصف يومي. لا أأتمن أحداً على مطبخي، وأقوم بتحضير جميع الأطباق منذ أكثر من ستةٍ وعشرين عاماً، كما أتحدث دوماً إلى الزبائن، وأناديهم بأسمائهم، الغالبية هنا أصدقائي. لا أشعر أبداً بالتعب".

ألم تفكري في دمج المذاقات العربية بتلك الإسبانية يوماً؟ أسأل مضيفتي، وهي تسعفني بقدحٍ دافئ من الشاي المغربيّ الأخضر، قدّمته لي في كأسٍ أنيق.

" أبداً!"، تجيبني سعاد.

"أريد أن يشعر زبائني بأنهم يتعرّضون لتجربةٍ عربيةٍ خالصة، من الأنغام التي تستقبلهم على المدخل، إلى الديكورات الدافئة التي تذكّر بشوارع المغرب، وطرقاتها، وانتهاءً بالأطباق التقليدية التي أفخر بأنّي وحدي من يقدّمها في بامبلونا. ما أفعله هنا، لا يقتصر على إطعام روّاد المطعم، وتعريفهم بثقافتنا فحسب، عبر الأطباق الكثيرة على قائمتنا، إن الأمر يعدو هذا بكثير، نحن في  'السفير العربي' نقدّم الابتسامة الدافئة قبل كوب الشاي، ونُرفق فناجين القهوة بـ (مرحباً، وشكراً، وصحتين، وتبارك الله)، وهي كلمات عربية بسيطة، تصنع الفرق كله".

"ما أفعله هنا، لا يقتصر على إطعام روّاد المطعم، وتعريفهم بثقافتنا فحسب، عبر الأطباق الكثيرة على قائمتنا، إن الأمر يعدو هذا بكثير، نحن في  'السفير العربي' نقدّم الابتسامة الدافئة قبل كوب الشاي، ونُرفق فناجين القهوة بـ (مرحباً، وشكراً، وصحتين، وتبارك الله)، وهي كلمات عربية بسيطة، تصنع الفرق كله"

"سامية جمال الإسبان"

وإذ أتجوّل بنظري في الواحة العربية المغلقة، ألمح الضيوف وهم يأخذون مقاعدهم تحضيراً للعرض الشرقي الراقص الذي تنظّمه سعاد وزوجها في مطعمهما، منذ أكثر من عشرين عاماً.

وأغتنم الفرصة حين ألمح الفتاة العشرينية الضاحكة التي وصلت قبل قليل، برفقة مجموعة كبيرة، وهي تتحضّر لأداء عرضها الراقص، وأحدّثها في الكواليس، وهي تدندن بالعربية كلماتٍ لا تفهمها بالكامل.

ما الذي دفعك لتعلّم فنون الرقص الشرقي؟

"أحب الرقص بأشكاله المختلفة"، تخبرني ماريا، قبل أن تسهب في الشرح: "بدأت أولاً بتعلّم الرقص المعاصر، قبل أن أقع في غرام الإيقاعات الشرقية. أريد أن أصبح يوماً سامية جمال الإسبان!".

واذ تجدني أمدح لفظها الاسم، وأثني على معرفتها بفراشة السينما المصرية، تخبرني بأنها تبحث عن مقاطع مصوّرة لفنّانات الرقص الشرقي من مصر، ممن افتُتنت بحركاتهنّ، وعذوبة رقصهنّ.

"أدرّس صباحاً أطفال الروضة في مدرسة الحي الذي أقطن فيه، وأتابع شؤون منزلي معظم الوقت، لكن الرقص وحده هو ما يجعلني سعيدةً حقاً، وهو المساحة التي أشعر بأنها لي بالكامل"، تخبرني الشابة الإسبانية التي وُلدت ونشأت في بامبلونا، ولم تغادرها أبداً.

"لم يتسنّى لي أن أزور بلاد الشرق من قبل، وعلى الرغم من أني لا أفهم جميع كلمات الأغاني التي أتدرّب للرقص عليها، إلا أني أميل إلى الأغاني الكلاسيكة القديمة"، وإذ تستحثّها صاحبة المكان لبدء العرض، بينما تتسرّب الألحان الأولى لأغنية أعرفها، أدرك أن ماريا اصطحبت زوجها، ووالديها، وقلة من الصديقات، لحضور أمسيتها الراقصة هنا، وتفاجئني الصبيّة الضاحكة من جديد، وهي ترحّب بمطلع الأغنية قائلةً إنها تحبّ الاستماع إلى وائل كفوري كثيراً! "لا يقتصر الأمر على صوته الجميل، لكني أشعر بأن إحساسه العالي يصلني على الرغم من حاجز اللغة".

"لم أشعر يوماً بالغربة هنا، كما حافظت على طقوس الثقافة العربية في منزلي الصغير، وأتحدث العربية طوال الوقت مع أبنائي؛ سامية، ونذير وحسين، وأكبرهم في الخامسة والعشرين من العمر. كما أحرص على حثّهم على صيام رمضان، وتوثيق علاقاتهم مع عائلتهم الممتدة في المغرب"

"كأنهما فردان من عائلتي الصغيرة"

وإذ تدلف غنجةً لتبدأ عرضها في الصالة الداخلية لمطعم "السفير العربي"، أتنقل أنا بين الطاولات، وبإسبانيةٍ متوسطةٍ، يبدو أن ضيوفي تلقّفوها من دون الحكم على جودة اللغة. أسأل بعضهم عن رأيهم في العرض، والمذاق، ومالكي المكان العربي الأول والوحيد في مدينتهم الصغيرة.

"لا أحضر هنا من أجل الطعام فحسب، بل من أجل رؤية فضيل وسعاد. أشعر وكأنهما فردان من عائلتي الصغيرة"، يخبرني إغناسيو، وهو إسبانيٌّ في العقد الرابع من العمر، وهو يوضح لي كيف ينظر السكان المحليون إلى أصحاب المطعم ذوي الأصول المغربية.

"الحق يقال أني أشعر وكأنهم إسبان! فقد نجحت هذه العائلة الدافئة في الاندماج بصورةٍ كاملةٍ ومذهلةٍ في مجتمعنا الصغير، ويتقنون اللّغة، ويجيدون العادات، ويحترمون وجودهم بيننا إلى أقصى درجةٍ، ولعلّ هذا بالنسبة إلى الكثيرين من سكّان المنطقة يُعدّ أمراً جميلاً، ويستحقّ التقدير".

وإذ أسأله ما الذي يعنيه بذلك، يتردد إغناسيو الذي يعمل في مجال العقارات، قبل أن يخبرني بأن هذه العائلة العربية المقيمة بينهم، غيّرت كثيراً من نظرته الأحادية الجانب السابقة إلى العرب.

"لا أستطيع أن ألوم أياً ممن لم يحالفه الحظ في التعرّف إلى أشخاصٍ من ثقافتكم ومنطقتكم من العالم"، يوجّه الكلام إليّ قبل أن يضيف: "لك أن تتخيلي ما الذي يفعله الإعلام الذي تحرّكه الأجندات الغربية بالكامل". يكمل هازّاً رأسه بأسى، بينما تحاول زوجته محاكاة تماهي ماريا مع النغم.

ما الذي تفضّلينه هنا؟

"عدا عن أمسيات الرقص، لدي إدمان من نوعٍ خاص على التبّولة التي تحضّرها سعاد! جرّبت إعدادها بنفسي أكثر من مرة، وكدت أن أنجح، لكني أفضّل تناولها هنا، حيث يصبح للطبق أياً كان مذاقه الخاص، حين يُقدّم في مكانه"، تجيبني رفيقته الفنزويلية التي تدير عيادتها الخاصة لطبّ الأسنان في المدينة.

"لا توجد جالية عربية هنا، ليس بالمعنى الدقيق، معظم من يصلون إلى بامبلونا، وهم قلة قليلة، يعبرون المدينة لا أكثر، ومعظمهم من المهاجرين الأقل عمراً، ويصلون إلى بامبلونا والمدن القريبة مدفوعين بأملٍ في حياةٍ أفضل، لكنّهم لا يطيلون البقاء، فطبيعة المدينة الصغيرة والمنغلقة على نفسها، لا توفّر مناخاً مثالياً للتأقلم"

وماذا عن روّاد المطعم من عرب؟

أتوجّه بالسؤال ثانيةً إلى سعاد، محاولةً التعرّف على أوضاع الجالية العربية في بامبلونا، والمدن المحيطة، ومدى تأثيرهم في المجتمع المضيف.

"لا توجد جالية عربية هنا، ليس بالمعنى الدقيق، معظم من يصلون إلى بامبلونا، وهم قلة قليلة، يعبرون المدينة لا أكثر، ومعظمهم من المهاجرين الأقل عمراً، ويصلون إلى بامبلونا والمدن القريبة مدفوعين بأملٍ في حياةٍ أفضل، لكنّهم لا يطيلون البقاء، فطبيعة المدينة الصغيرة والمنغلقة على نفسها، لا توفّر مناخاً مثالياً للتأقلم، ولا الكثير من فرص العمل. أشعر بالأسى عليهم، وأتفهّم ما الذي يدفعهم نحو الهجرة، لكنّي أدرك تماماً كيف أنه من الصعوبة بمكانٍ على الأفراد، أن يعيشوا في أوطانٍ تتدهور أوضاعها بالجملة".

وتتابع: "لذا أشعر معظم الوقت بالامتنان لكوني هنا، وللمكان والمجتمع المحلي الذي منحني وعائلتي فرصة الاندماج الكامل. يعاملني الجميع على أنني منهم، الأمر الذي يجعل من بقائي بينهم أسهل، ويقدّم لي تجربةً إنسانيةً أكثر غنى، ويشعرني بصورةٍ أو بأخرى بأنه عليّ رفد المجتمع الذي أقيم فيه، قدر استطاعتي، بتجربةٍ مختلفةٍ عما عهدوه".

وعمّا تقدّمه سعاد وزوجها فضيل، للمجتمع الذي باتا جزءاً منه، تخبرني كيف أنها تستقبل العديد من طلبة الجامعات الذين يدرسون تخصصات الضيافة، وفنون الفندقية في جامعات بامبلونا، والذين يأتون للتدرب في "السفير العربي"، كجزءٍ من متطلّبات تخرّجهم، كما تقدّم بالتعاون مع المجلس البلدي للمدينة دروساً موسمية في تعلّم فنون المطبخ المغربي.

"ليس من السهل أن تكوني أمّاً وزوجةً وصاحبة حلمٍ ومشروع، وأن تجدي الدعم المعنوي والمادي لملاحقة شغفك طوال الوقت".

ماذا لو بقيت في المغرب؟

وأسأل مضيفتي قبل المغادرة: ماذا لو لم تهاجري إلى هنا؟ ماذا لو بقيت في المغرب، هل كان سينتهي بك المطاف تديرين مشروعك الخاص أيضاً؟

"لا أدري"، تجيب. وتتابع: "ليست الأمور بهذه السهولة في ذاك الجزء من العالم، أعتقد أن الأمر كان سيكون أكثر صعوبةً، نظراً إلى التحديات العملية والحياتية الكثيرة التي تواجه النساء العربيات. ليس من السهل أن تكوني أمّاً وزوجةً وصاحبة حلمٍ ومشروع، وأن تجدي الدعم المعنوي والمادي لملاحقة شغفك طوال الوقت".

وإذ أهمّ بالمغادرة، بعد أن صفّقت طويلاً للعرض الرائق الذي قدّمته ماريا قبل أن تسألني بكلّ براءةٍ إن لمحت فيه بصمة سامية جمال، تستوقفني سعاد سائلةً إن كان في بلدي بحر.

"عنّا بحر، والكثير من الشمس!"، أجيب مبتسمةً.

"أحبّ لو أسافر أكثر"، تقول. وتتابع:"أخطط لزيارة كل المدن التي تقع على الشواطئ".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image