ربما لا يعرف الكثيرون أنّ سبب التحوّل الحادّ الطارئ في شخصية "دراكولا" الفارس الترانسلفاني، هو مقتل محبوبته "مينا" إثر مؤامرة ضبابية حيكت أثناء قتاله جحافل الأتراك، في أوروبا إبان القرن الخامس عشر. ذلك ما تروية قصة الكاتب الإيرلندي برام ستوكر، المقتبس عنها جميع أفلام دراكولا.
الفارس المقدّس، الغارق بدماء أعدائه، العائد منتصراً عليهم، يكتشف أنّ حبيبته رمت بنفسها من فوق أسوار القلعة لاعتقادها أن حبيبها قد قُتل في المعارك. لكن من يعلم، لربما انتحرت مينا لإدراكها أن حبيبها سفّاح وقاتل متمرّس ليس في قلبه رحمة لا غير؟ وهل يتطلّب موت مينا الغامض أن يمتلئ قلب دراكولا بالقنوط، ويكفر بالربّ ويشرب من دماء المسيح المقدسة في الكيسة ويدهمها، فيهيم على وجهه في انتقام مريع من البشر ويستحلّ دمهم كقربان في طريقه إلى الخلود، مرتكباً شروراً وفظائع لا يمكن نسيانها؟ أم كان ذلك مبرّراً للكونت فلاد لاستكمال رغبته في سفك الدماء؟
يبدو أن منتصراً ما قد كتب قصة الكونت الروماني ليعطي تبريراً ضمنياً لرغباته الدموية، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، تلك حقيقة، وكذلك القصص يتوارى فيها مجاز غامض عن شيء أعمق من مجرد سياق الأحداث. ويبدو لي مجاز قصة دراكولا مألوفاً في زمننا الحاضر، مجاز الشر المطلق في جنوح الجنس البشري نحو القتل والتدمير.
تتحجّر المآقي، وتجِف العيون في تحديقها نحو المجزرة المستمرة، فأيّ قدر اختار لنا هذه البلاد المكلومة، فقضي علينا أن نمضي سنين عمرنا بين حرب ولجوء؟
دراكولا اليوم
استخدمت إسرائيل في فظائعها (مجازاً) مأساة اليهود (الضحية التي لم يكن للعرب ولا للفلسطينيين يدٌ فيها) ذريعة لاحتلال فلسطين، ويستخدم جيش الدفاع الإسرائيلي والغرب من وراء هجوم السابع من أكتوبر ذريعة لسفك دماء الفلسطينيين. تتحوّل أمريكا وإسرائيل، ومن ورائهما الغرب، في هذا المجاز إلى دراكولا بكل الإحالات الواقعية لما يحدث مع الفلسطينيين. وكما الحال في معركة دراكولا، فإما أن يمتصّ دمك حتّى الموت أو أن تختار التحوّل إلى مصاص دماء، وتشارك بيديك أو بقلبك في امتصاص دماء الفلسطينيين.
إنه القنوط ما يذكرني بقصة دراكولا، وربما ليس مكاناً مناسباً ولا زمناً مناسباً لتلك المقارنات الأدبية، لكن ما الذي يمكن فعله أمام شر مطلق يتكاتف بين شمال العالم وجنوبه، حتى ليبدو أفظع من قصص وحوش الفانتازيا في الروايات والأفلام. فهل ينقذ الغناء والهتاف آلاف المحاصرين تحت القنابل؟ لم ينقذ السوريين ولا من قبلهم الفلسطينيين ولا حتى السكان الأصليين في القارة الجديدة. يبدو أنّ هناك زمنين عند ارتكاب المجزرة، الأول هو زمنها الفعلي، حيث يعيش الناس وقائع القتل الرهيب من تصفية جسدية وترهيب نفسي بشتى الوسائل، وزمن آخر مواز هو زمننا نحن، زمننا العادي، اليومي، نمارس فيه حياتنا. نضحك، نأكل، نشرب، ننام، نتكاثر، ونخصّص جزءاً من نقاشاتنا وحواراتنا ومشاعرنا لأولئك المعذبين، فكيف سيلتقي الزمنان إذن؟
إنها معضلة أخلاقيّة مستمرة مذ فكّر الإنسان بفردانيته وبأنّ النجاة لا يمكن أن تكون جماعية، في التنافس حول الموارد والفرص وتضخم الأنا الذي لا يعود يتسع لأي أحد آخر. لكن هنالك كثيرين ممن يكرسون أنفسهم للنجاة الجماعية، منكرين ذواتهم أشد الإنكار، وربما هم من ينقذ الجنس البشري وينقذون الكوكب من الفناء. حياتهم تتكرّس في سبيل القبض على زمن آخر ليس زمنهم، والدّفاع عن مأساة ليست مأساتهم، ويعيشون في بقعة جغرافية ليست مكان إقامتهم، سواء أكانوا أهل هذه القضايا أم من المتعاطفين والمدافعين عنها.
يضجّ هؤلاء لدماء الفلسطينيين وينتفضون بكل الوسائل المتاحة. ها هم طلاب الجامعات في أمثولة عن معنى النجاة الجماعية ورفض أساطير تبرر سفك الدماء. من جهة أخرى يعيش مئات الملايين من البشر زمناً مختلفاً كلياً، يكفي أن يبرز "ترند" عربي أو أجنبي فينغمسون ويندمجون فيه، متناسين وقع المجازر المريع. حتى القضايا الأخلاقية، بما فيها القضية الفلسطينية، تحولت إلى ترند منذ اللحظة الأولى التي بدأ فيها الاجتياح الإسرائيلي لغزّة، حاول الكثيرون ركوب الترند لتبيض قمصانهم من الدماء السورية التي سالت على أيدي المقاومين والممانعين. يشتد الحديث السياسي والتحليلات وتنقسم الآراء على بعضها.
ماذا يعني أن تقدّم جسدك للموت طائعاً؟ قد تبدو فكرةً غايةً في العبثية، لكنّها الخيار الأخير أمام كلّ هذا الجبروت
"الثوار لا يموتون أبداً"
أحدّق في كتاب بين يدي: كيف وصلت إلى قصة دراكولا، وأنا أنكبّ على قراءة "الثوار لا يموتون أبداً"؟ إنه عنوان حوار مطول أجراه الصحفي الفرنسي جورج مالبورينو المختص في الشأن الفلسطيني، مع الدكتور جورج حبش. يخيّل لي أني أقرأ رواية أخرى، حيث يموت فيها الأبطال دفاعاً عن قضاياهم العادلة في قنوط مرير. هكذا يكثّف الصراع الفلسطيني، دوناً عن جميع الصراعات، إلى خير وشر، أبيض وأسود.
أهبط من أسئلتي وخيالاتي، وأرسم خريطة فلسطين كاملة على طرف إحدى صفحات الكتاب. الآن أتفهّم موقف اليمامة، وهو موقف طالما برز لي بشكل عبثي، لكن القصص الشعبية والروايات الأدبية التي تخضع لإضافات وتعديلات مع مرور السنين، كرواية دراكولا وألف ليلة وليلة وقصص الأبطال الشعبيين كالزير سالم، لا تحيل دائماً إلى وقائع بعينها، ولكنها تكتنف إحالات وترميزات عن معنى أوسع وأشمل، يبدو كالشيفرة، عابرة للزمن.
طلبت اليمامة جسد أبيها كاملاً أمام الوجهاء العرب السّاعين للصلح. أهمس في قرارة نفسي: أريد سورية كاملة وفلسطين كاملة وبلاد الشام كاملة، تماماً كما طالبت اليمامة عودة أبيها كليباً. كتب أمل دنقل مدركاً الإيحاء الرمزي في حرب البسوس مستخدماً إياه في الإحالة الشعرية:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى...؟
هي أشياء لا تشترى.
ردّد القصيدة آلاف ممن قتلوا في مسعى الأنظمة والأحزاب إلى صلح مهان. "لا تصالح"، أقولها مع كلّ قذيفة تسقط على القطاع ومع كلّ قذيفة سقطت على المدن السورية. "لا تصالح"، تبدو غير واقعية، وربما يعقد الصلح. وفي كثير من الأوقات أجادل نفسي حول ضرورته إلى حين، لكنّه صلح مؤقت، وصرخة اليمامة تذكرةً كي لا يعتقد المغدورون في يوم من الأيام أنّ القتلة سينعِمون عليهم بالأمان. (والثوريون لا يموتون أبداً). والثورة لا تموت.
أشرد قليلاً عن الكتاب وأفتح شاشة الموبايل. منذ السابع من أكتوبر وأنا أمارس عادة التحديق في وجوه أصدقائي الفلسطينيين تارة، وفي وجوه المكلومين على وسائل التواصل الاجتماعي، تارة أخرى. تترك الأرض تضاريسها في ملامح وجوهنا، وخطوط أكفّنا. أتحسّس راحات الأيدي لأشعر بشمس البلاد ودفء أشعتها. أبني لها صورةً في رأسي لا مكان فيها لهذا الموت. لكن الأرض تتغيّر، تغيّرها القنابل الموجهة والصواريخ فائقة التدمير والمعارك الشرسة في البيوت والحواري. تغيّر المجازر باطننا وظاهرنا. لا نعود كما كنا، فلا نجاة تفلح ولا موت يفلح.
تتحجّر المآقي، وتجِف العيون في تحديقها نحو المجزرة المستمرة، فأيّ قدر اختار لنا هذه البلاد المكلومة، فقضي علينا أن نمضي سنين عمرنا بين حرب ولجوء؟
أفكر بالمجاز. هل هو نجاتنا الفردية؟ كيف يتشكل المجاز من صراخِ أمّ تتلوى على طفلتها مسحوقة الوجه، مهروسة الأطراف، فتتحول إلى قصيدة؟ كيف يتحوّل جسد متعفّن إلى شهيد يسري الطّهر في أوصاله ويبرعم زهر شقائق النعمان من جروحه؟ أيها المجاز.. تعويذتنا في فلك هذه القسوة، من تجعل حياتنا أبيات شعر في قصيدة لا تنتهي عن الحبّ والحرب.
أقضم بقايا كعك خبزته يديّ صديقتي الفلسطينية. ألملم ما تبقى منها كأنّني ألملم بقايا كنز نادر. انغمست أصبعها السّمراء في العجين مع تنهدات حملت رائحة مخيم اليرموك وتوقاً لا يهدأ للعودة إلى أرض موزعة بين المخيم والداخل الفلسطيني. فاحت رائحة الكعك من فرن أعادني بالذاكرة إلى فرن جدتي في قريتنا. قلت لها إن ما يعطي نكهة الكعك اللذيذة هي الأصابع...
ها هو المجاز يباغتني مرة أخرى، اختلفت معها مع جميع أصدقائي الفلسطينيين على أنّ الجنوب هو ذاته. قلت لهم: تدبكون على لحن المجوز ونحن ندبك على لحنه، نأكل المنسف ونطرز الأثواب بالنقوش ونحيك من القش مواعين للأكل والزينة، تماماً كما يفعل الفلسطينيون والأردنيون. لكنه بات من الصعب أن نقنع أحدهم اليوم أن الخطوط على الخرائط ليست هي الجغرافيا. فالجغرافيا كعكة بالهيل مع القهوة، والانثناء مع النسمات، والنغم، والارتعاش والانكماش على رائحة تهيج فتحمل معها رائحة الياسمين والبرتقال، والنعنع والميرمية المزروع في الحواكير الممتدة من يافا حتى اللاذقية.
أقضم قطعة من الكعكة المخبوزة مع العجوة وأشمّ معها رائحة يدي جدتي وبلاداً بعيدة تطل علينا من اللوحات والصور المغرقة في الدمار والدماء، فأمحي مثلما يمحي الأطفال عن رسوماتهم لون الدماء والجثث المشوهة.
أعود للكتاب بين يدي. يبني خيالي صوراً لحيفا حيث ولد الدكتور المسيحي من عائلة أرثوذكسية. يبدأ الاضراب العام 1936 في جميع أنحاء فلسطين ضد الاحتلال البريطاني. ينحدر عز الدين القسام من جبلة شمال سوريا إلى فلسطين في الجنوب. تحتدم المعارك ثم تسقط المدن الفلسطينية واحدةً تلو الأخرى، يافا وحيفا، وينتظر الفلسطينيون وصول الجيوش العربية، لكن أحداً لم يصل. أهمس بيني وبين نفسي: ولم يصل أحد حتى اليوم. حتى الضربات الإيرانية كانت أقلّ هشاشة من معارك الجيش الأردني على حدود اللد.
سأحمِل روحي على راحتي
وألقي بِها في مهاوي الردى
فإِمّا حياةٌ تسر الصديق
وإِمّا مماتٌ يغيظ العِدى
ونفس الشريفِ لها غايتانِ
ورود المنايا ونيل المنى
وما العيش لا عِشت إِن لم أكن
فخوف الجِنابِ حرام الحِمى
أشاهد من كتب التاريخ كيف تتحول الأسطورة على أرض الواقع إلى حقيقة، كيف تنتقل من الآباء إلى الأبناء في الأغاني والقصائد والحكايات. لا يتعلق ذلك بالصمود أو الهزيمة، إنما بتلك الرغبة العميقة في الدفاع عن الأرض
غنى قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود عبد الرحيم مئات من الفدائيين والمقاتلين على طول سهول ووديات وهضاب بلاد الشام. أتخيّل وجه الشاعر. أحب تصويره كوجه الشاب في فيلم إيليا سليمان "الزمن الباقي". ولد الشاعر عبد الرحيم في طول كرم. يحاول رأسي بناء صور للمدينة حيث نشأ. له صورة بالأبيض والأسود: عينان حزينتان تذكرانني بالشهيد الفلسطيني السوري باسل الصفدي الذي أعدم في سجون النظام السوري، لهما ذات التحديقة الحزينة، كذلك الشاب في فيلم سليمان له ذات النظرة الحزينة.
يدخل الشاب في الفيلم إلى مركز اعتقال أنشأته العصابات الصهيونية، حيث جُمع المئات منهم مقيدين في ساحة المركز. يخرج ورقة من جيب قميصه. ويتلو قصيدة الشاعر عبد الرحيم. وفي لقطة مرتفعة تظهر سيطرة ضابط الاحتلال، يراقب الشاب من مكان مرتفع من المبنى، حيث نشعر بسيطرة وسطوة الإسرائيليين. وبعد الانتهاء من قراءة القصيدة، يخرج مسدساً من خصره ويفرغ طلقة في رأسه.
تعود صور من الانتفاضة الفلسطينية وأبطالها، ممّن كانوا يتحدون الدبابات بالحجارة. كنا نخرج حينها متضامنين في شوارع المدن السورية، وكان التضامن وقتها أقصى ما نستطيع فعله، منتظرين معركتنا الكبرى مع العدو. لكن وقائع معركتنا الكبرى كانت داخل الحدود، خاضها الفلسطينيون والسوريون على أطراف المخيمات، عندما أمطرت طائرات النظام المخيمات بالصواريخ والقذائف.
ماذا يعني أن تقدّم جسدك للموت طائعاً؟ قد تبدو فكرةً غايةً في العبثية، لكنّها الخيار الأخير أمام كلّ هذا الجبروت. مازال الفلسطينيون يقدّمون أجسادهم منذ سقطت القدس 1948، واحتلّت إسرائيل الأراضي الفلسطينية. تختلف الأيديولوجيا لكنّ الدفاع عن الأرض يستمر. بالحجارة، بالكلاشنكوف، وحتى في الخنادق. أليست قصة المسيح هي قصة الفلسطيني؟ هل هناك من مجاز متماه بين الحاضر والماضي أكثر من هاتين الإحالتين، اختلفنا على ذلك أم اتفقنا؟!
الفلسطينيون ليسوا سكاناً أصليين، لم يندثروا حتى اللحظة. قد يسقطون، لكنهم ينهضون مرة أخرى. لم أكن مقتنعاً يوماً بتلك المقولة، لكنني أشاهد من كتب التاريخ كيف تتحول الأسطورة على أرض الواقع إلى حقيقة، كيف تنتقل من الآباء إلى الأبناء في الأغاني والقصائد والحكايات. لا يتعلق ذلك بالصمود أو الهزيمة، إنما بتلك الرغبة العميقة في الدفاع عن الأرض، عن حقنا بأن يكون لنا رأي في هذا العالم، فالمآذن والابتهالات والقصائد والموسيقى وارتعاشات العود والمقامات وقصائد المتصوفين وتفسيرات الراديكاليين تموج على أطراف العالم القديم، لتقول إنّنا ما زلنا هنا نقاوم، ولم نتحول إلى أثر بعد عين. أغلق كتاب "الثوار لا يموتون أبداً" وأفكّر: قد تنقذنا الأغاني والهتافات، وقد تنقذ القصص والمجاز من تبقى منا في النهاية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه