لو كان جدي حياً، لوددت أن أتحدث معه عن البلاد التي يعرفها والتي عرفتها أنا أخيراً. لكنه استعجل الرحيل، أو ربما أنا التي تأخرت في المجيء إليها.
في صباح أحد أيام أيار عام 1948، خرج جدي مع أهالي قرية الجسير إلى الحصيدة. في تلك الأثناء، قام الجيش الإسرائيلي باحتلال القرية.
أتخيل الآن هول الشعور الذي أصابهم حين وصلتهم الأخبار، فالنساء والأطفال وكبار السن في القرية لم يملكوا أية وسيلة للدفاع عن النفس أو لطلب العون.
تسلل جدي برفقة بعض من كانوا معه إلى القرية لاصطحاب عوائلهم إلى مكان آمن، فكانت كهوف وخرائب الخليل هي وجهتهم.
على حين غرة، صار جدي وشقيقه ووالداه في التيه، دون ملابس أو طعام أو مال أو أمان. كان حينذاك في الثامنة عشرة من عمره، يعمل في الأرض ويوفّر لعائلته مبلغاً يضمن طعامهم والشراب.
ثمة لذة في أن يقضي الإنسان عمره فداء لفكرة ثورية ما، يتعلم عنها ممن سبقوه، ويرتبط فيها ارتباطاً وثيقاً، رغم أسئلته التي لم يجب عنها أحد. لكن الأفكار الثورية خلقت لتظل أفكاراً
لكن عند لجوئهم الأول إلى الخليل، كان عليه أن يجد مصدراً جديداً للدخل. قالت له والدته: "روح إشحد زي هالناس".
أثناء الحرب يخفت لهيب الأنا الشخصية، وتتضخم في المقابل مشاعر الذعر والقلق. ولأن صراع البقاء هو الذي يسيطر على النفس البشرية في الكوارث، كان عادياً جداً أن تطلب منه والدته أن يتسول. فكثيرون هم من تركوا بيوتهم وتسوّلوا حتى لا يقتلهم الجوع.
لكن جدي اختار طريقاً آخر. عمل في الخليل عند تاجر القماش كامل شاور مدة ثماني سنوات. علمه هذا التجارة واحتضن أسرته، فاستطاع جدي التفكير بمستقبله.
تزوج وأنجب عمي وعمتي، ثم استأجر منزلاً في وادي التفاح في الخليل وانتقل إليه مع أسرته الصغيرة.
عام 1957، رحل جدي وعائلته إلى الأردن واستقروا في الرمثا في الشمال. فبدأت هناك قصة كفاح لشاب فلسطيني عليه أن يحفر في الصخر ليثب وجوده. كان الجرح العميق الذي حُفر في نفسه حين اقتلع من جذوره في البلاد، المحرك الذي دفعه ليصير تاجراً معروفاً في الأردن.
بدأ مشروعه بمبلغ زهيد جداً وبمحل صغير في السوق. عمل ليلاً ونهاراً كي يفرض اسمه بين تجار "مال القبّان" (وهي تجارة في المواد التموينية بالجملة).
هكذا، عاش جدي وعائلته استقراراً في الأردن، فامتلك بيتاً وعملاً ودخلاً مادياً وحياة كريمة. زوّج أبناءه وصار لديه أحفاد، أنا واحدة منهم.
ولا أعرف كيف صار جدي يشعر تجاه فلسطين خلال حياته في الأردن، أكان يتألم لأنه لم يعد؟ هل شعر بالحنين إلى البلاد؟ هل كان يعرف أنه لن يعود؟
لم يكن يتحدث عن البلاد بوصفها مكاناً سيرجع إليه، أو في الأقل لم تحمل أحاديثه أمنيات صريحة بذلك. كان يتحدث عن ذكرياته هناك، وكان حديثه ملهماً كونه موجهاً لمن لا يعرف عن البلاد شيئاً.
أنا من جيل اللاجئين الثالث في العائلة. تعلمت الكثير عن فلسطين، من أبي أولاً، ومن معلماتي في مدرسة الأونروا، ومن محمود درويش. شاركت في جميع المناسبات الفلسطينية في المدرسة. وكانت أغاني فرقة العاشقين وجبتنا اليومية من الموسيقى.
أما أبي، فكثيراً ما اصطحبنا لوقفات في ذكرى النكبة. ولم يمر يوم دون أن يحكي لنا شيئاً جميلاً عن البلاد. لكننا لم نكن نتحدث عن فلسطين بوصفها مكاناً حقيقياً يعيش فيه الناس، بل كانت فكرة أو أسطورة.
لا أتذكر مواقف كثيرة مهمة حدثت في طفولتي، لكني عالقة حتى الآن في اللحظات التي كان يدور فيها حديث لم أفهمه بين أبي وأعمامي حول فتح وحماس. جدالات طويلة ومتكررة وعقيمة يجمعها عامل مشترك واحد هو رغبة جدي بإنهائها.
أنا وجدي عشنا في فلسطين، وبوسعي اليوم أن أفهم رغبته تلك في إنهاء الحديث، وتقويض الجدالات البيزنطية حول كل ما يتعلق بقضيتنا. أنا اليوم أفعل مثله تماماً، يتحدث معي البعض عما يحدث الآن في فلسطين، فلا أجيب.
أفضل الصمت لأنه يحميني من عقوبات يفرضها الفلسطيني أو الفلسطينية خارج البلاد، فالكل لديه رأي فيما يحدث، ولديه تنظير شخصي عما يجب أن يحدث. والأصعب أن التعصب اليوم صار أبشع من قبل، وصار عليك أن تكون مع المقاومة بالشكل الذي يفضله من لم ولن يقاوم، وعليك بالطبع ألا تفقد إيمانك بالنصر وألا تستسلم.
لا أعرف هل الصمت صفة جينية أم مكتسبة. لكن في حالتنا أنا وجدي، الصمت تعبيرنا الأفضل عن انعدام شعورنا بالأمل أو الجدوى. فهو ترك البلاد وهي في وضع سيىء لا يبشر بالخير، أما أنا فجئت إلى البلاد وهي مريضة وتحتضر. وكلانا لا نعرف كيف نكذب، والأهم أننا ضحايا هذه الهوية.
ثمة فروق بيني وبين جدي، أولها أنه عاش في البلاد ثم صيّرها فكرة بينه وبين نفسه. أما أنا، فكانت البلاد بالنسبة لي فكرة ثم صارت حقيقة.
أنا مسجونة في البلاد، بقرار كنت مجبرة على اتخاذه. أعيش فيها دون أوراق فلسطينية تمكنني من أخذ استراحة، ولو قصيرة، منها. أما جدي، فقد ترك البلاد حين صارت سجناً كبيراً ومظلماً.
ربما كانت علاقتي بك عادية. لم يميزها حديث خاص. لكنني لطالما شعرت بمحبتك الصامتة. كان حباً حاراً وصامتاً، مثل الذي جمعك بالبلاد ويجمعني اليوم بها
ساعدتني البلاد في أن أحافظ على أسرتي الصغيرة، أما جدي فهرب بأولاده الصغار ليظل لديه أسرة.
ثمة لذة في أن يقضي الإنسان عمره فداء لفكرة ثورية ما، يتعلم عنها ممن سبقوه، ويرتبط فيها ارتباطاً وثيقاً، رغم أسئلته التي لم يجب عنها أحد.
لكن الأفكار الثورية خلقت لتظل أفكاراً. ومن جربوا قبلنا أخبرونا عن تكلفة أن تتحول الأفكار إلى واقع.
أنا أحلم بواقع عادي، وملل أيضاً، وفيه فرصة للإبداع وإن كان في صياغة جملة واحدة عن الأوطان غير المحتلة.
جدي الحبيب، أنا اليوم في البلاد، البلاد "الحلم" التي يحلم بها كل من خرج منها. تفصلني عن قريتك المهجرة، الجسير، مسافة بسيطة، لكن الحواجز وأوضاع الطرق لا تشجعني للقيام بهذه الزيارة.
فضلاً عن كوني لا أحمل أوراقاً فلسطينية، ما يعني أن أي جندي إسرائيلي تافه بوسعه أن يسجنني ثم يقذفني إلى الشتات من جديد.
نحن اليوم نتعرض لأبشع حرب إبادة وتطهير عرقي، لكننا ما زلنا نحكي عن النكبة في الوقت الذي نباد فيه جماعياً على مرأى من العالم ومسمعه.
حين رحلت، عرفت ما هو الموت، كانت المرة الأولى التي أجرب فيها معنى الفقد. لم تكن صغير السن، لكنك كنت قوياً.
ربما كانت علاقتي بك عادية. لم يميزها حديث خاص. لكنني لطالما شعرت بمحبتك الصامتة.
كان حباً حاراً وصامتاً، مثل الذي جمعك بالبلاد ويجمعني اليوم بها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه