أستيقظ على ألحان أغنية "قلبي بقُولي كلام" للموسيقار محمّد عبد الوهاب. كنت قد نسيت مذياع هاتفي المحمول يشتغل طوال الليل. أتمطّى وأشرّع النافذة؛ السماء ملبّدة بغيوم تشرين السميكة تحجب عني خيوط الشمس، جوّ شتوي أعاد تدوير مسجّلة الذكريات والأفكار في ذهني: أنت ابنة أيّ زمن؟ إلى أيّ من الزمنين تنتمين؟ إلى زمن الترومات والحروب وجنون الموسيقى الإلكترونية أم إلى زمن الرسائل والمذياع والعمل اليدوي والانغماس في التفاصيل، والعيش مع الحياة بدلاً من اللهاث خلفها، دندنة موسيقا يمسكها وتر؟
لا مناص من الاستماع لاسطوانة هذه الأسئلة التي تلحّ عليّ منذ فقدتْ نفسي بوصلتها قبل سنوات قليلة مضت. إذن لا بدّ لي الآن من التفكير بها.
كان صباحاً مختلفاً؛ أسهم التزامن بين صوت عبد الوهاب وصورة الغيوم التشرينية الكئيبة بخلق ذلك اليقين باختلافه، وربّما بضرورة التصالح مع ضرورة الإجابة عن تلك الأسئلة التي أجّلتُ الإجابة عنها لسنوات.
أنت ابنة أيّ زمن؟ إلى أيّ من الزمنين تنتمين؟ إلى زمن الترومات والحروب وجنون الموسيقى الإلكترونية أم إلى زمن الرسائل والمذياع والعمل اليدوي والانغماس في التفاصيل، والعيش مع الحياة بدلاً من اللهاث خلفها؟
"أنتِ كائن كُتب له أن يولد ويعيش في حقبة الألفية الثانية، مع كل ما يتخلّلها من تغيّرات واضطرابات وتحديثات برّانية": تُنشد الاسطوانة في ذهني. وتتابع: "ورثت الشعور بأنك لست في زمنك. إنّها لعنة اغترابك عن راهنك. لقد غدر الماضي بك ولفظتك أحضانه، وحُرمتِ من بساطته وجماله المتخيّل في أحاديثك الصبيانية، حوّلك هذا الغول إلى أحد مقتنياته المُغبرة التي جاوزها الدهرُ، وهي في صندوق مدفون تنتظر من يفكّ السحر عنها ويخرجها إلى حيث يجب أن تنتمي".
أسكَتَ احتجاج أخي من الغرفة الأخرى المسجّلة: "لك طفيلنا هالأغاني عاد، شو هاد أغاني قديمة وطرب على أساس، لك شو بيعجبك فيهن؟ اطلعي شوفي الدنيا حواليكي، سمعي شي جديد، عيشي عصرك، لسه متل الختيارة يلي عمرها سبعين سنة".
ترجم لي أخي بكلماته شعوري ذاته بأن الحاضر لفظني هو أيضاً. كانت كلمة أخي الأخيرة الكبسة التي أعادت تشغيل مسجّلة الأفكار التي تحفر في عقلي كدودة تتحرّك في كلّ الاتجاهات، وتقضم كل ما تصادفه أمامها؛ فإذا رآها ناظر عن مسافة معقولة فلن يجد سوى آثار المتاهة التي خلّفتها.
أعود وأنظر إلى كلّ ما حولي في المنزل وفي الخارج، إلى كل مكان تواجدتُ فيه، إلى أشخاص عرفتهم وجالستهم وتحدثت إليهم؛ أشخاص وأمكنة تبدو على شاشة وعيي مختلفةً عمّا كانت عليه. إنّهم عبارة عن صور محمّضة من شريط النيجاتيف، تكوينات بالأبيض والأسود وجدتْ لها جيباً شفّافاً بألبوم ذكرياتي الحاضرة، لذا فهي مرئية تماماً. أستطيع تقليب صفحات الألبوم بكل يسر وسهولة، وبالرغم من أنَّ ما ميَّز الزمن الماضي هي تلك الألوان الزاهية التي يمكن الوقوف عليها في سيارة فولكس فاجن تركوازية اللون من طراز بيتل كابريوليه 1965، والفساتين الحمراء والصفراء للصبوحة في حفلاتها وأفلامها، غير أنّ ذاكرتي تستحضر كلّ مشهد من ذلك الزمن باللونين الأبيض والأسود. هذه لغتها بالتعبير عن تعلقها به ورؤيتها له وإحساسها فيه.
أكاشف الصور في رأسي وأقلّبها، ومع كل صورة تتشوّه المعالم. أخافها وأرغبها، تأتيني كحلم جميل وكابوس مخيف، كقلب صاف وآخر خبيث، كطفل مبتسم وآخر حزين، كلوحة عُلِّقت في صدر المتحف وورقة إعلانات هشة عُلقت على جدار في عشوائيات مدينتي بعد ألف قَبلها، وهي أيضاً مكتوب لها أن تمزَّق ويعلَّق عليها غيرها. تلك هي علاقتي مع الماضي، يجعلني الوجود مرتبكة؛ أهو مسكن روحي الضائعة مني أم أصفاد جبّارة تكبّلني وتبقيني في ذلك الصندوق المدفون؟
قاطع رنين هاتفي المسجّلة مرة أخرى. صوت صديقتي يزعق بتململ ويأس: "وينك لهلق. عنّا محاضرة، نسيانة إنو في قدامنا ماراثون المواصلات دوبنا نلحّق".
توهّمت أنّني ابنة الماضي فإذا بي ابنة غير شرعية جاءت خطأ، لم يكن مقدّراً لها أن تأتي ولا مرغوب بها، فتخلّص منها بأن رماها بعيداً عنه ولم يعترف بأبوته، وبقيت معلّقة في المنتصف
أغلقت الخطّ، ارتديت حذائي المعدّ للعدو، وانطلقت. كانت دمشق ناعسة، متباطئة الخطى وسط حركة وتزاحم أبنائها نصف النائمين، تتجلّى بوادي القهر في وجوههم التي خمَّدتْ ملامحها الصدماتُ.
أترجّل من الباص فيستقبلني مشهد الجموع المحتشدة أمام مبنى الهجرة والجوازات في منطقة البرامكة، فتنشد الأسطوانة مرة أخرى: "وكأنّ كلّ هؤلاء مثلك، لفظهم حاضرهم لكنّهم تشبّثوا بأمل البحث عن حاضر جديد يستقبلهم ويمدّ إليهم يدَ العون".
وكانت تلك الفكرة كسهم اخترقَ ذهني. وقفتُ مذهولة، لقد تعلّقتُ بحبال الماضي فانقطع حبلي مع الحاضر، توهّمت أنّني ابنته فإذا بي ابنة غير شرعية جاءت خطأً، لم يكن مقدّراً لها أن تأتي ولا مرغوب بها، فتخلّص منها بأن رماها بعيداً عنه ولم يعترف بأبوته، وبقيت معلّقة في المنتصف. فتاة لم تعد تعلم إلى أي زمن تنتمي، فهي ليست للماضي وقطعاً تاهت عن حاضرها، كانت الإجابة بسيطة أمام عينيها طوال الوقت: هي ابنة الحرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع