كتبت مازحاً على فيسبوك، عن عبارة الشاعر أمل دنقل: "ومن سيضمِّد في آخرِ الصّيدِ جرح الغزال"، قائلاً: "ومن سيشوي لنا في آخرِ الصّيدِ هذا الغزال؟"، وقد وردت العبارة في قصيدتِه "مراثي اليمامة"، وهي قصيدة في مجملِها عن "المجد الضائع" مقارنةً بما نحن عليه اليوم، وإذ تتوالى الأسئلة في القصيدة عمّن سيفعل كذا وكذا، تأتي العبارة السابقة وكأنّها قطعٌ لا دلالة له، إذا ما نظرنا إلى "نتيجة الصّيد"، بعيداً عن العتادِ البلاغي المألوف في الشعر، ويعني ذلك أنّ الإنسان يصطاد ليأكل، لا ليضمدّ جراح الطرائدِ بعد صيدها.
وإذ تبدو العبارة لطيفةً وشعريةً للغاية، فإنّني فكّرت في ما إذا كانت "تدليساً شعرياً" لا ينجو منه كبار الشعراء وصغارهم، أو كما يقول الشاعر الفرنسي إيف بونفوا: "على الكلمات أن تحافظ على دلالِتها الأرضية"، وفي عبارةِ أمل دنقل لا تحافظ الكلمات على دلالِتها الأرضية، وإنّما تنساق وراء مثالية لا تصمد أمام التجربة الإنسانية، أو ربما تصمد في سياق أنّ القصيدة كلّها استحضار تراثي من الماضي، وكأن القصيدة تطابق في الشعور والمغزى ما نقول إنّه أمجاد العرب التي بادت.
نشرت رويترز تحقيقاً بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، بما معناه أنَّ كلَّ قصائد المقاومة التي كتبها العرب أصبحت بلا معنى، لأنَّ أصحابَ الحق الفلسطيني وقَّعوا على اتفاقيةٍ للسلام تعترفُ بإسرائيل
وسيذهب الشاعر المصري أحمد عبد المعطى حجازي، خطوةً أبعد، ليس في استحضار التراث المجيد، وإنّما في التأسيس الجنسي "للبعث"، إذ يقول:
"أنا إله الجنسِ والخوفِ وآخر الذكور
أظنّها التقوى وليس الخوف أو أنِّي أردّ الخوف بالذكرى
فأستحضر في الظلمةِ آبائي وأستعرض في المرآةِ أعضائي
وألقي رأسي المخمور في شقشقةِ الماءِ الطهور
تركت مخبئي لألقي نظرةً على بلادي
ليس هذا عطشاً للجنس
إنِّني أؤدي واجباً مقدساً"
وإذ كتب حجازي قصيدته هذه بعد هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967، فإنّ المغزى واضح، في أنّ الحلّ هو باستعراضِ الأعضاءِ الجنسية، أو في ما يقول إنّه "الواجب المقدس"، وهذا تدليسٌ شعري يحطّ من شأن الجنس في حد ذاته كفعل بشري، ويحرف دلالة المقاومة بما هي "عمل" في إزالة آثار العدوان.
وليس الأمر في الشعر العربي الحديث أو المعاصر أو شعر الحداثة، أنّه "كلمّا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" كما يقول النِّفّري، إذ تتسع العبارة لتصبح "مقارنات" تفضي إلى لا شيء، كما في قول أدونيس:
"أجمل ما تكون أن تخلخل المدى
والآخرون بعضهم يظنّك النّداء
بعضهم يظنّك الصّدى
أجمل ما تكون أن تكون حجّةً
للنورِ والظِّلامِ
يكون فيك آخر الكلامِ أوّل الكلامِ
والآخرون بعضهم يرى إليك زبداً
وبعضهم يرى إليك خالقاً"
ويذكِّرني هذا المقطع من شعر أدونيس بالعبارةِ المصريةِ الساخرة "كده ينفع وكده ينفع"، أو ربما لا دلالة نافعة في النظرِ إلى الشاعر بوصفِه كائناً "يخلخل المدى"، أي يحدث بلغته انقلاباً لا أحد يعرف إن كان خيراً أو شرّاً، أو ربما المقطع كله "كلام ساي"، كما يقول الإخوة السودانيون، "يكون فيك آخر الكلامِ أوّل الكلام".
وأذكر أنّ وكالة أنباء رويترز نشرت تحقيقاً بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، بدأته بما معناه أنّ كلّ قصائد المقاومة التي كتبها العرب أصبحت بلا معنى، لأنّ أصحاب الحق الفلسطيني وقّعوا على اتفاقيةٍ للسلام تعترف بإسرائيل، وما قالته رويتز تدليس أيضاً، لكنّنا نعرف جيداً أنّنا كتبنا الكثير في فلسطين والقدس المحتلة، وهذا الكثير المقاوم، وإن كان حاجة نفسية بالفعل لإنسانٍ مهزوم، لكنّه كان بلا مغزى في علاقة الإنسان الفلسطيني بأرضه، إذ في البعد القومي أو الديني للقضية الفلسطينية، يكاد الإنسان الفلسطيني أن يكون غائباً بتفاصيل حياته ومعاناته، سواء داخل فلسطين أو خارجها، وهذا مثال من شعر محمود درويش:
"أيها المارون بين الكلماتِ العابرة | ||||||
احملوا أسماءكم وانصرفوا | ||||||
واسحبوا ساعاتكم من وقتِنا، وانصرفوا | ||||||
وخذوا ما شئتم من زرقةِ البحرِ ورملِ الذاكرة | ||||||
وخذوا ما شئتم من صورٍ، كي تعرفوا | ||||||
أنّكم لن تعرفوا
|
وقد يبدو ما أقوله عن "التدليس" في الشعر العربي الحديث مجازفة، بانتقاء مقاطع شعرية من هذا الشاعر أو ذاك، وأنّ الموضوع بحاجة إلى بحثٍ معمّقٍ يتجاوز حدود مقالٍ كهذا، لكنّني طالما كنت أشعر بانعدام الراحة في قراءة الكثير من الشعر العربي الحديث أو المعاصر، وكأنّ عنصراً مفقوداً يجب أن يكون موجوداً ليعطي الشعر بشكلٍ عام دلالته الأرضية والإنسانية، لا مجرّد التحليق الشعري باستنادِه على العتاد البلاغي في الشعر أو في اللغة العربية، وبالعودة إلى قصيدة أمل دنقل نقرأ:
"أسائل: |
من للصغارِ الّذين يطيرون كالنحلِ فوق التلال؟ |
ومن للعذارى اللواتي جعلن القلوب: |
قوارير تحفظ رائحة البرتقال؟ |
ومن سيروِّض مهر الخيال؟ |
ومن سيضمِّد في آخرِ الصيدِ جرح الغزال؟ |
ومن للرجال |
إذا قِيل ما نسب القوم؟ |
فانسكبت فى خدودِ الرمادِ دموع السؤال؟" وفيما تبدو عبارة "ومن للرجالِ إذا ما قِيل نسب القوم؟" إيحاءً قبليّاً، من المفترض أنْ لا علاقة له بالحداثة والمواطنة وقيم الإنسان في الزمن الراهن، فإنّ المشكلة أكبر في عبارة "ومن سيضمِّد في آخرِ الصيدِ جرح الغزال؟"، إذ تبدو وكأنّها مثالية مفرطة إزاء واقع شديد التجهّم والقسوة. ولا يقدح هذا الكلام بالطبع في شعرية الشعراء المذكورين ولا في قصائدهم ولا في غيرهم من الشعراء العرب، وإنّما أشرت فقط إلى ما وصفته بالتدليس الشعري، وهو في قصيدة النثر الراهنة، فادح بما لا يقاس، إذ لا تفقد الكلمات دلالتها الأرضية فقط، وإنّما تفقد حتى المغزى المجازي لها، أي تفقد الشعر نفسه، لكنّ هذا حديثٌ آخر. |
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه