على حد علمي، يلجأ أي نظام سياسي إلى نوعين من التعامل مع الناس، الأول معاملتهم كرعايا، فيوفّر لهم المسكن والمأكل والوظائف والمقابر التي سيدفنون فيها، مقابل ألا يتدخّل هؤلاء الرعايا في شيء يخص نظام الحكم أو طريقته، مثال على ذلك، الدول الخليجية، ومصر في فترة جمال عبد الناصر.
النوع الثاني، معاملة الناس كمواطنين، وهنا النظام ليس مُطالب بتوفير شئ، لكن في المقابل، فالمواطنون يقرّرون آلية الحكم ونوعه وسنوات صلاحية أي رئيس أو مسؤول، وهذا ما ينطبق على الدول الديمقراطية.
طبعاً في مصر ليس هناك تطبيق للنوعين، فنحن لسنا رعايا ننعم بمميزات أبناء الخليج، ولا مواطنين نحظى بنعمة الديمقراطية، والأدهى من ذلك، أن النظام السياسي الذي أؤدي واجباتي تجاهه، وتخليت عن حقوقي وأحلامي بسببه، لم يكتفي بذلك، بل صار يتوغّل في حياتنا لدرجة تشبه الرغبة في إعادة خلقنا وتشكيلنا من أول وجديد.
وللتوضيح أكثر، أنا رجل أعمل في جريدة رسمية معترف بها من قِبل السلطات، وبالطبع لا تعادي الدولة، كما أنني أنتمي إلى نقابة الصحفيين المصرية، ما يعني أنه ليس هناك أي محاذير أمنية تخصّني، وشهرياً أدفع الضرائب التي تُقرّها الدولة، دون أن تأخذ رأيي إن كان نسبة ما مناسبة للتبرع بها لصندوق هنا أو أصحاب معاشات هناك، كما أنني أدفع جميع فواتيري دون تأخير أو صراخ في وجه موظف لا ذنب له سوى أن وظيفته تقتضي تحصيل الأموال.
في مصر نحن لسنا رعايا ننعم بمميزات أبناء الخليج، ولا مواطنين نحظى بنعمة الديمقراطية، والنظام السياسي الذي أؤدي واجباتي تجاهه، صار يتوغّل في حياتنا لدرجة تشبه الرغبة في إعادة خلقنا وتشكيلنا من أول وجديد
ليس هذا فحسب، بل أنا أيضاً أديّت واجبي تجاه وطني من خلال الخدمة العسكرية، وحصلت على شهادة بدرجة "قدوة حسنة"، وحين تم استدعائي بعد 4 سنوات من انتهاء الخدمة، لبيّت النداء، رغم أنه استدعاء من أجل التدريب على إطلاق النيران، وأنا لدي قصور نظر يجعلني لا أرى الهدف أصلاً، ناهيك عن إصابته في المكان الصحيح، لكن الوطن أهم! وصحيح أني أوافق لأنني لا أملك حق الرفض، فبدون الخدمة العسكرية لن أستطيع العمل أو السفر وخلافه، لكنني في النهاية "مواطن صالح" بمقاييس الدولة.
هذا المواطن الصالح كان يجب أن يحصل على حقوقه الممثلة في أدنى قدر من الحياة الكريمة، لكن الواقع أن سياسات السلطة الاقتصادية أدت لانهيار الجنيه أمام الدولار، وتبع ذلك الإطاحة بأحلام الكثيرين، وأنا منهم، ففي ظل حد أدنى للأجور وصل لـ 6 آلاف جنيه، وأسعار منازل وصل أدناها 600 ألف جنيه، يُصبح الحديث عن تأسيس بيت وأسرة ضرباً من الخيال، حتى من يستطيع فلا يمكنه العيش في ظل ارتفاع فلكي للأسعار بشكل يومي، وهذا أثبتته الإحصاءات التي أشارت إلى انخفاض الزواج بنسبة 30% عن العام الماضي، كما انخفضت نسبة الإنجاب أيضاً، فلا أحد يريد ابناً يعاني الفقر أو الديكتاتورية، أو حتى مرحلة انتقالية تستغرق معظم حياته لكي يصير مواطناً ذات يوم.
وإذا كان هذا حال الحقوق، فبالتأكيد لقيت الأحلام نفس المصير، وصار كل ما أريده هو العيش فقط دون الاضطرار إلى فعل ما لا أريد، أو التخلي عن شئ أحبه من أجل كسب لقمة العيش، لكن حتى ذلك لم يُرض السلطة التي بعد أن تأكدت أننا تخلينا عن الحقوق والأحلام، صارت تؤنبنا حيناً، وتشكّل حياتنا وفق هواها في باقي الأحيان، فمنذ سنوات أعلنت أن ربع المصريين فقط وزنهم طبيعي والباقين يعانون من السمنة المفرطة التي يجب أن يتخلّصوا منها، ولأنني أنتمى لهؤلاء، وجدتني مُطالباً بالتحرك حتى أصبح في وزن ترضي عني فيه الدولة، بصرف النظر عن رأيي الشخصي والوزن الذي أحب أن أكونه.
ومع بداية العام الجاري وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، اختفت بعض السلع وعلى رأسهم السجائر، ورغم أني رضيت بالغلاء، لكن نوع سجائري اختفى، ما اضطرني إلى تجربة نوع آخر أتعبني بعض الوقت، وهكذا تدخلت الدولة من جديد في تحديد نوع دخاني، من خلال تركنا لعبة في يد التجار ووسط صمت مريب منها.
سؤالي الجدي وغير الساخر: "هي مصر عاوزة إيه مني؟"، ألا يكفي أني تخليت عن حقوقي وأحلامي وصار كل ما أريده العيش دون أن يؤنبني أحد لأني ذو وزن زائد، أو يتهمني بالفشل لأن حظي أتعسني بدراسة الإعلام؟
تماماً كما حدث مع خطة "تخفيف الأحمال"، المقصود بها انقطاع التيار الكهربائي في ساعات بعينها خلال اليوم، وبالطبع لم يسألنا أحد هل موعد الانقطاع يناسبنا؟ هل نحن مرتبطون بتسليم أعمال أو محاضرات أو دورات؟ تجاهلت السلطة كل ذلك، فصار علينا أن نعمل في الوقت الذي حدّدته هي، ونتوقف في الوقت الذي اختارته هي، ونتفق على مواعيد التسليم بناء على الخطة التي وضعتها هي، ونعتذر عن أعمال بناء على قراراتها هي، بل وبعضنا صار يهرول إلى البيت في موعد يضمن فيه عدم انقطاع الكهرباء عن المصعد حتى يصل سالماً!
لذلك لم يكن غريباً بعد أن تدخلت الدولة في وزننا وأنواع سجائرنا وساعات عملنا، أن تحدّد لنا أيضاً الكليات التي ندرسها والجامعات التي نعطيها ظهرنا، وهذا ما ظهر واضحاً في حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخراً، حين طالبنا صراحة بأن نتخلى عن كليات مثل الحقوق والآداب التي لم يعد هناك جدوى منها، وأن نتجه إلى قطاعات أفضل مثل البرمجة التي قد نحصل منها على 100 ألف دولار شهرياً، لُترسم بذلك باقي خطواتنا.
أعتقد بعد كل هذا، ليس غريباً أن أخشى مزيداً من التدخل، وأن يكون سؤالي الجدي وغير الساخر "هي مصر عاوزة إيه مني؟"، ألا يكفي أني تخليت عن حقوقي وأحلامي وصار كل ما أريده العيش دون أن يؤنبني أحد لأني ذو وزن زائد، أو يتهمني بالفشل لأن حظي أتعسني بدراسة الإعلام؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه