شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لم يتبق أحد من العائلة يا أبي... كُنا أهدافاً للكلاب الزيتية

لم يتبق أحد من العائلة يا أبي... كُنا أهدافاً للكلاب الزيتية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الاثنين 13 مايو 202411:35 ص
Read in English:

There's no one from the family left, Father... We were targets for the 'green dogs'

أعشقُ الشتاء منذ ولادتي، كان أصدقائي دائماً ما يسألوني عما أحب من الفصول، وكنتُ أجيب بلا تردد، فالشتاء "يُرمسن" الحياة، والغيوم تدفعني للكتابة. كنتُ أنتظر هذا الشتاء أملاً في أن يكون أحد الفصول المميزة في حياتي، فقد قررتُ أن أكتب فيه روايتي الجديدة، عن رجُلٍ فقد حياته في الحرب، وامرأة فقد حياتها بِفُقدانها لرجُلِها في الحرب.

شاءت الأقدار غير ذلك، وجاء مع الأمطار الهجوم المفاجئ في السابع من أكتوبر، ووجدنا أنفسنا نركضُ من منزلٍ إلى منزل، ومن شارعٍ إلى الشارع، العالم برحابته لا يتسعُ لنا، هذا إذا كان العالمُ رحباً من الأساس. في البداية عرفتُ أن الأحداث الواقعة واقعة، سواءً أحببتُ ذلك أم لا، ولمّا كان من الصعب أن أغيّر إعدادات القدر، قرّرت أن أتحكّم بردة فعلي، فهي الشيء الوحيد الذي أملكه. تحكمتُ في نفسي لساعتين تقريباً، ثم انهرتُ تماماً، وقرّرتُ ألا أُمسك مشاعري وانفعالاتي بعد ذلك.

خلال الأيام الأولى للحرب تذكرت كل الأفلام والمسلسلات التي شاهدتُها، تذكرتُ أقسى وأبشع المشاهد. يا لي من مغفلة! أهذه الأشياء التي كانت تُبكيني؟ عالم يتحكم في النساء ويجعلهن يرتدين ملابس حمراء ويحصر أدوارهن في الإنجاب؟ عملاق ضخم يأكل أم البطل في الحلقة الأولى؟ رجُل شكله الإرهاب وسيكتشف أولاده بعد ذلك أنه أخوهم الذي اغتصب والدتهم في السجن؟ أم رجل في سجون النازية يرقص ويتشقلب حتى يضحك ابنه ويعلم أن كل الأشياء غير حقيقية، وكل ما يحدث مسرحية كبيرة ولعبة طويلة؟

نحن في عصر السُرعة، ولا يمتلك أحد وقتاً لأحد، الجميع يحاولون أن يضمن لهم جدولهم اليومي إنتاجية كبيرة، وربما وضع الجندي خلفنا الحرب في جدوله لمدة شهرٍ واحد، يقضي فيه على الملاعين الذين بدأوها في السابع أكتوبر صباحاً

*****

حينما هرولنا للمرة الأولى من بيوتنا في الشمال، قبل أن تسوّى بالأرض ويدخلها جنود الإحتلال كموقع تصوير جديد لمقاطع التيك توك، جاء المُخاض لأختي، وكان الجري يزيد من صعوبة الأمر. البنادق خلفنا بالعشرات، والرحم لا يتحمل أكثر من ذلك. كان طبيب العائلة يجري بجانبناً، ففي الحرب تُنزع الألقاب والوظائف. نحن هنا عُراة كيوم ولدنا، نظر لنا بشفقة فعرفنا أنه الوقت المناسب للولادة، ولو توقفنا لشرح ما يحدث للكلاب الزيتية في الأفارولات المموّهة خلفنا لقرّروا أن إطلاق رصاصة علينا كحلٍ عملي أفضل من معالجة أقوالنا، ففي الأخير نحن في عصر السُرعة، ولا يمتلك أحد وقتاً لأحد، الجميع يحاولون أن يضمن لهم جدولهم اليومي إنتاجية كبيرة، وربما وضع الجندي خلفنا الحرب في جدوله لمدة شهرٍ واحد يقضي فيه على الملاعين الذين بدأوها في السابع أكتوبر صباحاً.

في الأخير لم نتحدث إلى أحد، وهرولنا بأختي حتى أول مشفى. الحمدلله وصلنا لمكانٍ يمكن أن يساعد، لكن المكان بلا كهرباء ولا بنج، هل يمكن أن يكون الطبيب طبيباً دون أدواته؟ لا داعي للتساؤل يا أبي، من قبل كنا نتساءل، كان الإنسان يفكر ماذا سيحدث لو فعلنا كذا؟ أما اليوم فغزة هي مُختبر التجارب. لا تدع شيئاً في خيالك، جربنا في سلسبيل، وفُتِحَت بطنها بالمشارط الطبية دون بنج، وأنا التي كنتُ أخاف من تنظيف الدجاجة لإعداد الغداء، وقفت جنب بطنها المفتوحة وأخذتُ طفلها من الطبيب، مرحباً بك يا صغير في عالمنا، ليس أفضل شيئاً كما ترى، لكن سنرتبه مع الوقت لا تقلق، أقسم لك أنه كان أفضل منذ أيام قليلة.

ماتت أختي سلسبيل بعد الولادة أثناء خياطة جراحها، وأعتذر يا أبي على سياقة خبر مثل هذا بتلك السرعة والوضوح ودون مقدمات، فأنا في أهوالٍ شديدة كما تعلم خسارة أخت في الحرب لا تعتبر أبشع الضرائب التي يمكن أن تختبرها، أعتقد أنك تفهم هذا فقد حدثتني قبل سفرك عن تجاربك في الحروب، على كل حال لقد أخبرتك من البداية أنني يجب أن أسافر معك، وأنت وعدتني أنك ستأتي بنا بعد شهر، لا وقت للعتاب، بعد موت سلسبيل بيومين، اختبر الطفل الصغير العالم لكنه لم يعجبه، لقد كان يجوع كثيراً وقلما نجد له مرضعة أو بعض الحليب والماء. هذا الطفل كثير التذمر، رفض عالمنا يا أبي ولحق بأمه بسرعة.

مؤكدٌ أنك سمعت عن الغارات الشديدة التي حدثت في رفح، لم تنس الصواريخ عائلتك يا أبي، أما أنا فكنتُ في الخارج أبحث عن مكانٍ بلا أعين حتى أقضي حاجتي

بعد أيام من الدمار والهرب جاء الاستقرار أخيراً في رفح، لي خيمة كبيرة هناك مع أمي وأختي الصغيرة وأخي الذي يريد أن يتركنا ويحمل السلاح. يرى أنها مسألة وقت، إن لم يخرج جميع الرجال لحمل السلاح والتضحية لقُتلنا جميعاً. كنت أهاجمه كثيراً في الأيام الأولى، أما الآن فلم أعد أعي أي شيء، هل يمكن لطفل في العاشرة أن يذهب ليحمل السلاح؟

ربما تتبدل الأيام ويأتي وقتٌ أحبُ فيه بكل حرية وأكتُب فيه بيتاً من الشعر

قبل الحرب بأيام، كنتُ أفكر في كتابة مقالة عن الأطفال الذين يرون الجنود والبنادق في طريقهم للمدرسة والأسواق، هل يجب على الأطفال أن يروا مثل هذه الأمور في حياتهم الطبيعية؟ الآن لم أعد أستطيع الجزم أنه من غير الصحيح أن يحمل هؤلاء الأطفال البندقية نفسها، ربما تقل إنسانيتنا قليلاً في الحروب وتتغير نظرتنا للحياة قليلاً، لذلك لا تحكم عليَّ من هذه الجُمل يا أبي.

*****

في الأيام الأولى من مكوثي في الخيمة بدأت أختبر الشتاء بشكله الآخر، البرد كالرصاص، والصحراء بعد الخيام لا تنتهي على مد البصر. كانوا يوزعون علينا الأوراق لنضعها خلف ملابسنا وتمنع وصول الهواء إلى أجسادنا. لم تنفعني كثيراً الأوراق، ولم يحن علينا الهواء. كنتُ أستيقظ في أحد الأيام فأفكر في أن أحفر في الأرض، وأضع جسدي تحت الرمال إلا رأسي، ربما أتدفأ قليلاً. كان الهواء يصعدُ من الأرض بارداً قاتلاً، فانتظرُ الشمس بصبرٍ شديد. كنتُ أحاول أن ترك جسدي في الشمس قدر المستطاع، وفي أحد الأيام فكرتُ في أن ممارسة الرياضة قد ترفع حرارة جسدي قليلاً، لكن حينما يشتد البرد أصبح غير قادرة على الحركة، لعنتُ الشتاء والرواية التي كنتُ أريد أن أكتبها، وعرفتُ أن حب الفصول وكرهها رفاهية لمن يملكون الحياة، أما أنا التي تحاول أن تتشبث لكيلا تموت هكذا، فلا رفاهية عندي للحب والكره، أتمنى أن يأتي الصيف الآن بأي ثمن.

لم أمهد لك في المرة الأولى جيداً لكن دعني أخبرك هذه المرة أنه لم يتبق في خيمتنا غيري. مؤكدٌ أنك سمعت عن الغارات الشديدة التي حدثت في رفح، لم تنس الصواريخ عائلتك، أما أنا فكنتُ في الخارج أبحث عن مكانٍ بلا أعين حتى أقضي حاجتي، ولا نخترع الحجاب ثانيةً فهذا ليس الوقت المناسب. كنتُ في العراء بلا ملابس، البرد يقتلني وأصبر نفسي أني سأعود لملابسي بعد دقيقة. لبستُ ملابسي وهممتُ بالعودة، وإذا بهذا الصوت يعود لأذني مرة أخرى، الصوت الذي ألفته منذ الصغر، الصوت الذي تعودتُ عليه وكأنه اللعبة الأولى التي أهُدت لي بعد الولادة، صوت الطائرات الذي ينذر بصواريخ ستلقى بعد لحظات، يا الله هذا الكابوس ثانيةً؟ ظللتُ أجري وأهرول، بعيداً عن كل شيء، مثل فورست تركتُ قدمي للرياح، لتحملني بعيداً يالله، كانت أحلامي بسيطة يارب وكنتَ تعلمُ هذا، كنتُ أريد أن أحب بكل حرية، وأن أكتب للعالم بيتاً من الشعر.

قد تنقلب الحياةوأجدُ نفسي في عالمٍ خيالي يمكن أن أكل فيه رغيفاً مخبوزاً من الدقيق، وأشرب فيه كوباً صافياً من الماء، وأذهبُ فيه للمرحاض بين أربعة جدران وسقف، وبدون الصوت الذي اعتادته أذني

انتهت الليلة بعد عام، ودعوت الله ألا يجعل ما تبقى من العائلة أهدافاً للكلاب الزيتية. لم يستجب الله يا أبي، أنا الآن وحيدة في الصحراء، لم تعد هناك عائلة تحضرها إليك بعد شهر، مات الجميع وظني أني سألحق بهم قريباً، فجسدي لن يتحمل البرد ليلةً أخرى. لا أعرف هل وصلتك الأخبار بعدُ أم لا، لكن هل تعرف أنهم قدموا لي في أحد المرات رغيفاً من علف الماشية؟ لم أتوقف عن الضحك في هذا اليوم. لقد أصبح هذا العالم مكاناً خرباً. نحن لا نتحكم في أي شيء يا أبي، قطعة نرد حقيرة تفعل كل ذلك، شاء النرد أن تكون الحروب هنا فحدثت، شاء أن أخسر عائلتي فخسرتُها، وشاء أن تبتعد أنت فابتعدت، وبينما وفر لك النرد المخبوزات الإيطالية الساخنة، أعطاني رغيفاً من علف الحيوان، لا أقصد أن أنظر للنعمة في يدك فأنت تعلم أن شخصيتي مختلفة عن هذه الأمور الأرضية، أنا فقط أشرح لك قصة النرد، وكيف كنتُ أصغر من هدفٍ عسكري حينما ابتعدتُ لأقضي حاجتي، هل يسخر مني القدر ويجعلني مجازاً لدرويش؟

عرفتُ منذ ساعات أنهم سيبدأون في تهجيرنا من رفح أيضاً، يقولون إن حماس تعيشُ بيننا، لا يمكننا أن نجادل في الأمر بالإيجاب أو السلب، نحن فقط نحاول أن نبتعد عن المرمى، مسابقة الصيد تلك التي يقومون بها. في الحروب يخشى الناس من أن يكونوا أرقاماً وأحسبُ أننا أصبحنا أسوأ من ذلك، فبعض الأرقام تُفزع وتصيب أصحابها بالجزع، لا أرى العالم لديكم لكني أظن أن بعضكم تفزعه مصاريفه والمرتبات أكثر من موتنا وضحايانا، في الأخير يا أبي أتمنى أن تكون بخير، أعرف أنك تحاول أن تصل لنا.

أرجو أن تغفر لي أيضاً بعض السخرية في أسلوبي، لكن ربما تكون كلماتي الأخيرة في العالم ولن أظهر بشكلٍ سيء بعد موتي إذا كنتُ أسخر من العالم بأكمله. إن وصلتك الرسالة فأعلم أني لم احتجها لأضعها على جسدي حائلاً بيني وبين الهواء البارد، فمثلما تتبدل الأيام في ثوانٍ وتنقلب الحياة ونطرد من بيوتنا، قد تنقلب أيضاً وأجدُ نفسي في عالمٍ خيالي يمكن أن أكل فيه رغيفاً مخبوزاً من الدقيق، وأشرب فيه كوباً صافياً من الماء، وأذهبُ فيه للمرحاض بين أربعة جدران وسقف، وبدون الصوت الذي اعتادته أذني، ربما تتبدل الأيام ويأتي وقتٌ أحبُ فيه بكل حرية وأكتُب فيه بيتاً من الشعر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image