ثمة عبارة شائعة من مسرحية "هاملت" لوليم شكسبير، تتكرر في مناسبات كثيرة، مفادها أن هناك "شيئاً ما عفناً في مملكة الدنمارك"، ولكن الاستشهاد بها هنا في الكتابة عن الفيلم الوثائقي الدنمركي "يحيى: الشاعر المولود"، قد يضرّ به، أكثر مما قد يُحدث فرقاً في التعريف بهذا الفيلم وهو من إنتاج التلفزيون الدنماركي الذي أخفق إلى حد ما في طرح أسئلة واستنتاجات جديدة حول الشاعر الفلسطيني-الدنماركي يحيى حسن (1995-2020)، وإن بدا جلياً فيه تمجيد رموز البيروقراطية الدنماركية على حساب ظاهرته التي لو أرادت أن تنصف هذا الشّهاب الفتيّ الذي لمع بقوة في سماء الأدب الدنماركي وانطفأ بسرعة مذهلة، لفعلت، وهو كما أوضح منتج الفيلم جوناثان جيريكو، حول هذه الإشكالية: "فتح جيل كامل من الدنماركيين عيونهم على حقيقة أن القصائد يمكن أن تكون شيئاً آخر عما كانوا يعتقدون".
ما الذي فعله يحيى حسن في حياة الدنماركيين بهذه السهولة التي لم يعتادوها من قبل حتى يصبح ملكاً غير متوّج في أحاديثهم على مدار الحياة القصيرة والعنيفة التي عاشها بشغف الأجرام السماوية وهي تتهادى في الأغوار السحيقة للكون وتحترق ما أن تصطدم بسطح الأرض؟
هل كانت حياة هذا الشاب مجرد جِرم صغير غير مرئي في حياة الكثير من الناس، هنا في دول الشمال، تحديداً في الدنمارك والسويد، اللتين استيقظتا فجأةً على صوت الارتطام، وهما تتساءلان بالفعل كيف أمكن لشاب صغير، من خلفية مهاجرة، وأعزل تماماً، ويعاني من رضّات نفسية سلوكية مدمرة نتيجة علاقته بوالده بعد انفصاله عن أمّه، انعكست على سلوكه وقصائده، فلا يفوته في مناسبات عدّة أن يخاطب أباه بـ"أنه كان سيحبه لو أنه كان ابنه"، ناهيك عن إيغاله في الجريمة، والمخدرات، واستفزازاته المتواصلة للجميع: الجاليات المسلمة، اليمين الدنماركي العنصري، ومن يفترض أنهم أسوياء ومقيمون في السياسة منذ زمن طويل، واليسار الحاكم الذي يتقلب في الحكم كثيراً، وقد أثبت في موضوع الهجرة -تحديداً- أنه يقف في صف واحد مع أسوأ العنصريين في البلاد، كيف أمكنه أن يأتي بكل هذا؟
ما الذي فعله يحيى حسن في حياة الدنماركيين بهذه السهولة التي لم يعتادوها من قبل حتى يصبح ملكاً غير متوّج في أحاديثهم على مدار الحياة القصيرة والعنيفة التي عاشها بشغف الأجرام السماوية وهي تتهادى في الأغوار السحيقة للكون وتحترق ما أن تصطدم بسطح الأرض؟
إنهم يتساءلون نقاداً وناشرين وصحافيين ومتعاطفين في فيلم "يحيى: الشاعر المولود"، كيف أمكنه أن يبيع من مجموعته الشعرية الأولى أكثر من 120 ألف نسخة، في الوقت الذي لا يبيع فيه شعراؤهم أكثرَ من ألفَي نسخة على أبعد تقدير؟
لطالما تنقّل يحيى حسن (عائلته من فلسطينيي لبنان الذين ينحدرون من قرية لوبية في فلسطين)، وحيداً بين مراكز العلاج النفسي، بعد رحلة مضنية مع إعادة التأهيل التي فُرضت عليه، خاصةً أنه لم يحظَ في حياته بتعليم ثانوي أو جامعي، وإن انضم إلى ثانويات تعليم الكتابة الأدبية المنتشرة في دول الشمال الإسكندينافي.
في 2013، ظهرت مجموعة شعرية تحمل عنواناً مثيراً وعادياً في الوقت نفسه: "يحيى حسن 1". هذا يعني أن الشاعر الشاب القادم من منطقة مهمّشة للمهاجرين في مدينة أرهوس (الحي اليهودي في المدينة للمفارقة)، كان في الثامنة عشرة من عمره حين طبع قصائده الأولى في كتاب وجد ناشراً بسهولة لا توصف في بلاد لا تعترف أصلاً بموهبة أي شاعر بهذا القدر من السهولة.
لن تقف الأمور عند هذا الحد، وسيتقلَّب يحيى حسن في مواقفه بين عدائه المستحكم للمهاجرين من أصول مسلمة، واليمين العنصري الدنماركي الذي وجد في تصريحاته مرجعيةً قويةً ليواصل معاركه الدونكيشوتية ضد "أسلمة" البلاد، وهو ما سيحوّل حياته إلى ثنائية جحيم ونعيم، فيتعرض لتهديدات بالقتل من الطرفين، دفعت بالأجهزة الأمنية الدنماركية إلى تأمين الحماية له على مدار أربع وعشرين ساعةً في اليوم، وفي الوقت نفسه تحوّله إلى نجم على مسارح البلاد، لا يجد المرء مكاناً شاغراً لحضور أمسية من أماسيه، وهو يقرأ شعره كما لو أنه في جوقة ترتيل كنسي، أي أنه اكتشف بالفطرة إمكانية أن يستخدم صوته القادم من بعيد، والذي يغور عميقاً في صفاء البلد الإسكندينافي المضجر، فيذهب بعيداً جداً حتى أنه يغرق مستمعيه -بصرياً وسمعياً- في ذلك الشحوب النهاري الذي يظهره الفيلم، وهو يتتبع آثاره، أو في تلك اللقطات الأرشيفية الكثيرة التي رافقت حسن في حياته القصيرة المفزعة، إذ لا تخلو حياته من قتال بالسكاكين، وإطلاق نار، وترويع للآمنين.
يقول ناشر كتابَيه سيمون باسترناك، أمام عدسة الكاميرا متأسّياً: لا تصبح شخصاً جيداً لمجرد أنك تكتب قصائد جيدةً، وعلى العكس من ذلك لا تصبح القصائد سيئةً، لأن مؤلفها يتصرف بشكل عنيف وإجرامي وسيئ. مع هذا كله، أصبح يحيى حسن بحسب باسترناك بمثابة "الصاحب المميز للسيرة الذاتية الشعرية"، بالرغم من أن السنوات الأخيرة في حياته اتسمت بالإدمان والجريمة والأمراض النفسية. تعرض يحيى إلى ضغوط هائلة من السلطات، والشرطة، والناس بمجموعاتهم المختلفة، وقد عاش حياةً فوضويةً تماماً، فكتب "شعراً عدوانياً وسط حياة غير عادية مع العنف والجريمة والهذيان"، ومع ذلك كان يحلم كما قال للناقد الأدبي مارتن كراسنيك في لقاء متلفز معه، بأن يكسب لقمة عيشه من الكتابة، وأنه يحبّ العمل الذي يقوم به.
بالفعل يتساءل المرء بعد مشاهدة الفيلم (58 دقيقةً): كيف كتب يحيى حسن عما اختبره وعما رآه في حياته القصيرة؟ وكيف تبيّن للجميع في دول الشمال الباردة، شعراء ونقاداً وجمهوراً متحمساً، أنه كان يمتلك موهبةً خاصةً ونادرةً، أصبحت بعد مجموعتين شعريتين حملتا اسمه، بطريقة ما، لعنتَه أيضاً؟ تلك اللعنة التي طاردته، كما لو أنه مجرد شخص مصاب بالذهان، وجنون العظمة، وفي وسعه أن يطلق النار على شخص ما بالسهولة نفسها التي يكتب بها ويقرأ قصيدةً، أو يفكر في تأسيس حزب كما فعل هو نفسه، وإن أخفق تماماً في هذا المضمار، فلم تكن السياسة بالمعنى الحرفي شغله الشاغل أو هماً من همومه.
يتساءل المرء بعد مشاهدة الفيلم: كيف كتب يحيى حسن عما اختبره وعما رآه في حياته القصيرة؟ وكيف تبيّن للجميع في دول الشمال الباردة، شعراء ونقاداً وجمهوراً متحمساً، أنه كان يمتلك موهبةً خاصةً ونادرةً في الشّعر، أصبحت لعنتَه أيضاً؟
ثمة حجب غير مفهوم فرضه الفيلم على شقيقه الأصغر عبد الله، وأمه حنان عدوان، بالتعتيم غير المبرر على ظهورهما، فالأم ظهرت دائماً في لقطات "سيلويت" لا تظهر فيها ملامحها، باستثناء لقطة وحيدة وهي تدير ظهرها للكاميرا، وتحكي عن مكتبة يحيى ابنها، وفيها ضمناً كتب وليم شكسبير، في الوقت الذي تشعر فيه بالفخر، لأن قصائد يحيى قد تُرجمت إلى اللغتين النرويجية والألمانية. الحجب هنا يشمل التناقض المريع الذي ظهرت فيه الأم، وهي تنتقد المجتمع الدنماركي الذي لم يقدّم الحماية لابنها، فهو قد "انتقد ثقافتنا، كما انتقد ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، لكنه لم يكن ضد الإسلام، كما كانوا يصوّرونه".
شقيقه الأصغر الذي ظهرت صورته واضحةً في نهاية الفيلم كانت له سردية مختلفة، إذ يقول إنه كتب له بعض القصائد التي ضمَّنها في كتابه الثاني "يحيى حسن 2"، ليعبّر له عن وقوفه إلى جانبه في محنته الوجودية الأخيرة.
أياً يكن وقتُ تذكّر يحيى حسن والاحتفاء به، في رحيله المأسوي، (وُجد ميتاً في شقته في 29 نيسان/أبريل 2020، بعد أن توقف عن الرد على مكالمات أمه الهاتفية)، أم في ذكرى مولده (19 أيار/مايو 1995)، فقد طويت صفحة "السنونو الفلسطيني-الدنماركي، الذي هزَّ مملكة الدنمارك لبعض الوقت، وغيَّر من عاداتها الشعرية بقوة، وليس معروفاً ما إذا كان من الإنصاف، بعد كل ذلك، اللجوء إلى العبارة الشكسبيرية الشهيرة، إذ تقول الناقدة الأدبية السويدية إيدا أولميدال: "أعتقد أن الدنمارك لديها يحيى حسن"!
لقد ألقت أشجار الكرز وهجاً وردياً على النعش الأبيض المحمول على الأكف عندما مضى يحيى حسن في رحلته الأخيرة بعد أسبوع من وفاته. لقد تبعه المئات من الأصدقاء الحزانى، وهم يودعونه بكلمات تذكارية مستلهمة من الثقافة التي عاش على حافة الهاوية معها، كما لو أنه كان يعيش على نصل سكين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.