شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
طلباتهم لا تُرد في الأعراس، لكنهم يعامَلون بتمييز…

طلباتهم لا تُرد في الأعراس، لكنهم يعامَلون بتمييز… "إمديازن" في المغرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

كانت منطقة الريف في شمال المغرب تزخر، كبقية المناطقة الأمازيغية، بمجموعة من الطقوس والعادات خلال القرن الماضي، إلا أنها عرفت اختفاءً سريعاً في القرن الحالي، واستُبدلت هذه المظاهر الثقافية بأخرى دخيلة على المجتمع الريفي. من أبرز تلك المظاهر الثقافية الأصيلة "إمديازن" أو الشعراء الموسيقيون الذين ينتشرون في مختلف قبائل الريف، وكانت لهم وظيفة اجتماعية وفنية في المجتمع، من خلال تقديم مجموعة من الخدمات كالرقص والغناء والفرجة وتنظيم الأشعار والتبراح (المنادي) في الأعراس والمناسبات ومواسم الحصاد.

يرى الأنثروبولوجي الأمريكي دافيد مونتكمري هارت، أن لإمديازن دوراً اجتماعياً وفنياً خاصاً بهم يعكس بطريقة أو بأخرى وضعهم الاجتماعي المتواضع وسمعتهم المطبوعة بالمجون، إذ إن الذي لا يملك شيئاً ليس لديه ما يخجل منه، ما دام لا يخاف من فقدان السمعة أو الكرامة أو الشرف، لهذا يتميزون باستعمال أبيات شعرية خاصة بهم، يختلف محتواها عن الأبيات المغنّاة من طرف عذارى الريف. ويتميز رقصهم بالحيوية الكبيرة، وعادةً ما يرافق رقصهم قدرٌ لا يستهان به من المزاح ذي الإيحاءات الجنسية، خصوصاً حين لا تتواجد النساء ضمن المتفرجين.


يرى فنان الأغنية الملتزمة في الريف، الراحل محمد بوزيان، أن أغنية إمديازن تتمتع بقيمة فنية راقية، مضبوطة اللحن والإيقاع ضبطاً تاماً. على مستوى الكلمات يطغى عليها الطابع العاطفي، وقد تتوجه نحو المدح أحياناً، لكن قلّما تتوجه نحو الهجاء، ومجالها الحيوي الأمسيات الفنية في أثناء المناسبات الاجتماعية كالعرس والعقيقة، وتكون هذه الأغنية أكثر صدقاً وجمالاً حينما يعزف هؤلاء الشعراء لأنفسهم بعد صلاة العصر بقرب دوارهم (قريتهم)، ويستمتعون بفنهم ويدربون صغارهم على العزف والغناء، ويبدؤون بالضرب على البنادير (الدفوف) والغيطة (ناي مغربي)، وينتقلون إلى العزف على الزمار، وينتهون بـ"ثامجا" (الناي) حتى لا يزعجوا الدواوير المجاورة.

يرى الأنثروبولوجي الأمريكي دافيد مونتكمري هارت، أن لإمديازن دوراً اجتماعياً وفنياً خاصاً بهم يعكس بطريقة أو بأخرى وضعَهم الاجتماعي المتواضع وسمعتهم المطبوعة بالمجون، إذ إن الذي لا يملك شيئاً ليس لديه ما يخجل منه، ما دام لا يخاف من فقدان السمعة أو الكرامة أو الشرف

وضمن عادات إمديازن أيضاً، أنهم يوقدون النار كلّ مساء، ليجتمعوا حولها ويعزفوا ويغنّوا لساعات متأخرة من الليل، فيما يُكلَّف الأطفال المتدربون بالمساعدة، كتسخين الدفوف وملء أعواد "السبسي" (الغليون) بالكيف ومناولة الآلات للشيوخ، فيما يقوم غيرهم من الأطفال اليافعين بمرافقة العازفين بالضرب على البنادير (الدفوف) أو العزف على إحدى الآلات أو المشاركة في إلقاء الأشعار، وإذا اكتُشفت مواهب أحدهم، تُشكَّل لجنة من كبار شيوخ العازفين ليُمتحَن أمامها، وإن نجح يُقام له حفل خاص يشهرون نجاحه وتفوقه فيه، حسب الفنان محمد بوزيان.

"سيدي شعايب أونفتاح"... محجّ الموسيقيين في الريف

شرط الانتماء إلى عائلة إمديازن وامتلاك الموهبة غير كافيين لاحتراف الرقصَ والغناء كإمديازن في الريف، من دون زيارة ضريح الولي "سيدي شعايب أونفتاح" بجماعة أولاد أمغار التابعة لقبيلة تمسمان، والغناء والرقص عند الضريح لليلة كاملة للتبرّك ببركته.

ويُحكى حسب الرواية الشفهية الشعبية، وما دوّنه المستعرب والمستمزغ الفرنسي صامويل ليونارد بيارناي، حول ضريح "سيدي شعايب أونفتاح"، المطلّ على البحر الأبيض المتوسط في شمال المغرب، أن الولي كان عزباً وزاهداً، يعيش وحيداً على مرتفعٍ جبليٍّ مقابل للبحر مع كلبه من نوع السلوقي أو "ثوشايث" حسب اللغة المحلية، ويظنّه أهالي القرية أحمق!


لكن في أحد الأيام اختطف القراصنة طفلاً من القرية. بحثت الأم عن ابنها دون أن تجد له أثراً، وتوجهت في النهاية حاملةً رغيفها للوليّ "سيدي شعايب بونفتاح"، لتستقصي مكان ابنها، فأخبرها بأن ابنها لا يزال على قيد الحياة، وبعد أن أطعم كلبه الخاص رغيف الأم، طلب منه تقفّي أثر المفقود، لينشق البحر أمام الكلب حتى وصل إلى مدينة مختطفي الطفل، واستدرجه إلى أن وصل إلى قبيلته وتذكّر ميناءها ليعود في النهاية إلى والدته سالماً.

ووفق الأسطورة الشفهية نفسها، أصبح الولي سيدي شعايب بونفتاح يتمتع بالبركة والقدسية لدى أهالي المنطقة الذين يقصدونه لحلّ مشكلاتهم، خاصةً الموسيقيين والمغنّين منهم.

دونية ممزوجة بطقوس احترام وتقدير

يُنظر في منطقة الريف إلى من يمارس الرقص والغناء من كلا الجنسين نظرةً دونيةً. كان هذا في الماضي ولا يزال مستمراً حتى أيامنا هذه. ويظهر هذا بشكل واضح لدى فئة إمديازن وما عانته من تحقير ودونية من باقي أفراد المجتمع، برغم أدوارها الاجتماعية المهمة، حيث أنهم لا يزالون يقطنون في دواوير خاصة ومغلقة تسمّى بدوار "إمديازن" كما هو الحال في منطقة ميضار وبن الطيب وأزغنغان في الريف، ولا يحق لهم الاختلاط بباقي أفراد القبيلة أو التزاوج معهم، ويُمنع أيضاً دفنهم في مقبرة جماعية مع أهالي القرية، وفي بعض الأحيان يمكن أن يشاركوا الدوار مع "إيمزيرن" أي الحدادين الذين ينظر إليهم نظرةً دونيةً أيضاً.

فرقة من شعراء "إمديازن" الريفيين

يؤكد لرصيف22 شابّ ينحدر من إمديازن، رفض ذكر اسمه، بسبب النظرة الدونية التي لا يزال ينظر بها إليهم وإلى أبنائهم وأحفادهم، أن نظرة الاحتقار إلى هؤلاء الموسيقيين يصعب تحديدها زمنياً، لكن يظل باقي أفراد المجتمع ينظرون إلينا نظرة نقص وإن لم يعبَّر عن ذلك بشكل مباشر، ففي بعض الأحيان حين يتجادل أحدنا مع غير إمديازن، ينعته بالتالي: "اذهب يا ابن إمديازن"، ويشرح: "أي أنك شخص لا قيمة له في المجتمع وليس له ولأهله ما يستحي منه". ويضيف الشاب: "كان الزواج الخارجي في السنوات الماضية ممنوعاً، لكن تم تجاوز الأمر حالياً بعض الشيء".

ويقول الشاب نفسه لرصيف22، عن أسباب اختفاء هذا التراث الموسيقي في منطقة الريف، إن أسباباً كثيرةً ساهمت في تراجع هذا التراث الثقافي في المنطقة، حيث أصبحت الفرق الموسيقية الحديثة في المنطقة تعتمد على الآلات الموسيقية الحديثة مستغنيةً عن القديمة، والغناء على الإيقاعات الشرقية والشعبية بدلاً من الإيقاعات الريفية التقليدية، والاكتفاء في الأعراس والمناسبات بـ"دي جي"، وتم التخلي عن أدوار إمديازن الاجتماعية الفنية والترفيهية، ولم يعد الشباب يطربون بإيقاعات "إزران" و"لالة بويا" (لازمة غنائية ريفية مشهورة في المغرب) بعكس الأجداد والآباء.

 عدد قليل من أبناء "إمديازن" حافظوا على حرفة أجدادهم خلال الفترة الحالية، ونجد ضمن هؤلاء أعضاء فرقة "أولاد شيخ موحند" في بلجيكا، الذين يلقون الشِّعر ويمارسون الرقصَ والغناء في مناسبات الجالية المغربية في أوروبا

ويضيف الشاب أن ما جعل الأبناء ينفرون من حِرَف آبائهم في الأساس هي النظرة الدونية التي ينظر بها المجتمع إلينا؛ لقد تمرّد الأبناء على الوضع، وبحثوا عن حِرَف أخرى تضمن لهم الكرامة وتمنحهم مكانةً اجتماعيةً كبقية أفراد المجتمع. وهناك من هاجر إلى الديار الأوروبية وأصبح يمتلك سيارات ومنازل ومشاريع، وآخرون سلكوا طريق العلم وحصلوا على وظائف، لكن البعض وإن كان عددهم قليلاً استمروا على نهج أجدادهم، وإنْ على إيقاعات شرقية ودخيلة، كما هو الحال مع بعض الفنانين في المنطقة.


ويشير الشاب المنحدر من إمديازن، إلى أن لهذه الفئة لغةً خاصةً لا يفهمها غيرهم بالإضافة إلى الريفية، يتواصلون بها في ما بينهم خلال المناسبات، وهذه اللغة يشترك فيها جميع موسيقيي الجهة الشرقية والريف، ويتساءل: ولا نعرف كيف انتشرت هذه اللغة في ما بينهم وكيف لهم أن يفهموا بعضهم البعض، بسبب غياب الدراسات التي اشتغلت بالموضوع، وهي نادرة وإن كانت هناك بعض المحاولات البسيطة للطلبة المهتمين بالثقافة والتراث الأمازيغيين في المنطقة.

يُذكر أن عدداً قليلاً من أبناء إمديازن حافظوا على حرفة أجدادهم خلال الفترة الحالية، ونجد ضمن هؤلاء أعضاء فرقة "أولاد شيخ موحند"، الذين يستقرون حالياً في بلجيكا، ويلقون الشعر ويمارسون الرقص والغناء في مناسبات الجالية المغربية المنحدرة من منطقة الريف في الديار الأوروبية، بالإضافة إلى فرقة "الشيخ موسى" في مدينة الناظور، فيما اختار آخرون اعتزال هذه الحرفة لأسباب دينية. كما نشهد بعض المحاولات من قبل الشباب الذين يحاولون إحياء هذا التراث الفلكلوري في المنطقة، إلا أنها لا تلقى أي تشجيع.

برغم كل الاحتقار والدونية اللتين يتعامل بهما المجتمع الريفي مع هؤلاء الموسيقيين وعائلاتهم، إلا أنه يكنّ لهم في الآن ذاته احتراماً طقوسياً غريباً، فلا يجرؤ أحد على إهانتهم في الأعراس والمناسبات، بل يُكرمون هناك ويحسن استقبالهم، ويُخصص لهم جزءٌ من غلة المحصول الزراعي، كما هو الأمر مع أئمة المساجد في المنطقة نفسها. كما أن طلباتهم لا تُردّ خوفاً من أن يصاب أهل البيت بلعنة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image