شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
شيخات العيطة في المغرب.. خبيرات جنس ثائرات يصرخن في وجه السلطة

شيخات العيطة في المغرب.. خبيرات جنس ثائرات يصرخن في وجه السلطة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 15 ديسمبر 202112:00 م

عالم العيطة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشّيخة، رغم أنّ العيطة لم تقتصر عليهن بل شملت الرجال أيضاً (الأشياخ أو الشيوخ)، وهنا يبرز الجانب الفرجوي المدهش الذي يميّز الشيخة/المرأة، (الجسد، الصوت، العزف على آلة الكمان...)، كما أن تميّزها هذا نابع أساساً من الإحساس الذي تضفيه على المقاطع التي تغنيها، إحساس تبكي فيه سياقاً اجتماعياً كاملاً، فهي تقدّم عرضاً ساحراً بالليل؛ تهتزّ له الأجساد وتطرب له قلوب القرويين الذين لم تكن لهم سبل أخرى للترفيه.

لكن في الصباح تصير شبحاً خفياً، وكأنّ قدرها هو القيام بمهمة ليلة فقط، لذلك كان صعباً على الشيخات أن يندمجن في بنية مجتمع تقليدي، فعلى الرغم من كون المجتمع يستهلك الإنتاجات الفنية، ويدعو الشيخات في مختلف المناسبات للتعبير نيابة عن الجميع عن الفرح وأحزان الحياة، لكن السمعة السيئة ظلت ملتصقة بالشيخات في المغرب، وذلك "ليس إلا تعبيراً عن إرادة مجتمع لا يرضى للمرأة إلا بوضع الأم أو الزوجة أو الأخت"، حسب كتاب "غناء العيطة" للمؤلف والباحث في الفنون الشعبية حسن نجمي.

عالم العيطة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالشّيخة، رغم أنّ العيطة لم تقتصر عليهن بل شملت الرجال أيضاً، وهنا يبرز الجانب الفرجوي المدهش الذي يميّز الشيخة/المرأة: الجسد، الصوت، العزف على آلة الكمان وغيرها

مشهد حفل شعبي

جمعت الشيخة صفات كثيرة تتحدى أعراف المجتمع، فهي غالباً أرملة، وحيدة، مختلطة بالرجال، مغنية منفلتة.. وهو ما أدى إلى حصول ما يشبه التواطؤ على هذا الدّور ذي الوجهين، قبلت به الشيخة ضمن خيارات قليلة، وقبل به المجتمع الذكوري تحديداً، بتسامح براغماتي حذر، فاختارت الشيخات مجامع الرجال بدل النساء وحياة الليل بدل النهار، لكنّهن فرضن هيبتهن رغم كلّ شيء، هيبة فيها شيء من عزة النّفس ونرجسية الفنان، واستعداد كامل لاستغلال هذا الهامش من الحرية للتعبير عن وعي جديد.

ظلت السمعة السيئة ملتصقة بالشيخات في المغرب، وذلك "ليس إلا تعبيراً عن إرادة مجتمع لا يرضى للمرأة إلا بوضع الأم أو الزوجة أو الأخت"

ويشير نجمي في كتابه قائلاً: "لو تأملنا في العمق، سنجد أن الشيخة تستمد قوة حضورها من الجماعة، وفي نفس الآن تستمد من الجماعة ضعفها، إنها تصنع وتزرع الفرح في نفوس الأفراد والجماعات، وتتلقى منهم في المقابل وبكيفية مفارقة ما يخدش صورتها ويجرح كيانها الداخلي".

المخزن والعيطة: بين الشغف والتدجين

لا يمكن تجاوز حقيقة ارتباط فن العيطة بالسّلطة في بداية نشوئها، والسلطة هنا تعني ظاهرة القايد (ممثل للسلطان أو المستعمر في منطقة جغرافية معينة). القايد، من حيث مسؤولياته وسلطته على منطقة نفوذه، يشبه النموذج الإقطاعي في أوروبا، لكنه يختلف عنه في ارتباطه بالسلطة وامتلاك الأرض، ما يجعله نموذجاً متفرداً، أرادت السلطة المركزية (المخزن) تعزيز سلطتها على القبائل عبره، وساهم المستعمر في تثبيت الظاهرة كمزج بين النظام الإقطاعي في أوروبا وخصائص المجتمع القبلي.

 وكان مظهر الحياة التي يحياها القايد شبيهاً بحياة السلاطين، من حيث البذخ والإقامة في القصبات والقصور، وإقامة الحفلات ورحلات الصّيد، فمن جهة كان نمط العيش هذا يحتاج وسائل ترفيه؛ كفرق الشيخات في ليالي السّهر، تقديراً لحقيقة الفن الكامنة فيه، ومن جهة ثانية كان لهؤلاء "القُيّاد" وعي بالدور الذي يمكن أن يلعبه تقريب فرق الشيخات وأغانيهن ذائعة الصيت، في مجتمع قروي تشكّل الأعراس والمناسبات الاجتماعية فيه أحد أهم فرص اللقاء.

جمعت الشيخة صفات كثيرة تتحدى أعراف المجتمع، فهي غالباً أرملة، وحيدة، مختلطة بالرجال، مغنية منفلتة...

لذلك كانت هذه الوصاية، وصاية مزدوجة؛ التحكم في الفرق ومضمون ما يغنيّنه، ويورد حسن نجمي في كتابه المهم عن العيطة حرص القُيّاد على التحكم في مجال تلقي العيطة ومن ذلك قوله: "في مجتمع كانت الرواية الشفوية –وضمنها الغناء- هي وسيلته الإعلامية المشعّة والخطيرة، في فضاء ضيّق جغرافياً، تتقاطع فيه طرق الاتصال القروية، وتضيق المساحات المأهولة، وتتراكم المساكن والكثافة السكانية حول أماكن الزراعة والسلطة، لم يكن يسمح للأغنية بأن تتنفس هواءها الطّلق في حريّة". كان السعي دائماً لاستيعاب العيطة وتدجين حمولتها السياسية لتظل دوماً حاملةً لنظرة الحاكم.

ورغم هذا، فدور القايد، من جهة ثانية، خدم العيطة كثيراً، وتكاد كل المصادر التي بحثت في الفنون الشعبية، ومن ضمنها دراسة نجمي، تُجمع على دور بعض القيّاد في توفير فضاء ودعم ساهما بشكل كبير في تداول وتطوير بعض "العيوط". فالقايد الكَلاوي (كانت مراكش منطقة نفوذه) كان يمتلك فرقاً للعيطة في قصره، وكان القايد عيسى بن عمر شغوفاً بفن العيطة من خلال الحفلات التي كان يقيمها، وسيضع القدر والأحداث التي عرفها المغرب أواخر القرن التاسع عشر هذا الاسم في طريق فن العيطة، وسيخلد إحدى أهم رموزه الشيخة خربوشة.

شيخات

لقد عاصر القايد عيسى، الحسن الأول (1836-1894)، ثم ابنه السلطان الشاب مولاي عبد العزيز الذي حكم بين (1894-1908)، وتولية أصغر أبناء السلطان كان أمراً مدبّراً من طرف الحاجب أبّا حمّاد، الأمر الذي خلّف معارضة وسخط أعيان البلاد ووجهائها، وأنذر بسنوات قادمة ستضعف فيها السلطة المركزيّة وتمهّد للمرحلة الاستعمارية، وأيضاً لتعزيز دور "القايد" ممثل السّلطان في بعض المناطق، وأهمّهم القايد عيسى بن عمر الذي سيرتبط ذكره بعيطة الشيخة خربوشة.

فبعد وفاة السلطان، حاولت مجموعة من القبائل، ومنها قبيلة أولاد زيد القبيلة التي تنتمي إليها الشيخة خربوشة، (عبدة/ أسفي ونواحيها) الثورة ضد طغيان سلطة القايد، فما كان منه إلا أن حاربهم بدعم من السلطان، فقضى عليهم في حادثة صلح انقلبت إلى غدر، قُتل فيه مئات الناس من القبيلة. ولشدة جبروت القائد بنعيسى وصفه المؤرّخ أحمد بن محمد الصبيحي، بالحجّاج بن يوسف الثقفي في مؤلّفه "عيسى بن عمر وفظائعه". وقد دعمت خربوشة انتفاضة قبيلتها في عيطتها الشهيرة التي حملت هجاءً لاذعاً وصرخة في وجه الاضطهاد والظلم وغنت:

لا يمكن تجاوز حقيقة ارتباط فن العيطة بالسّلطة في بداية نشوئها، والسلطة هنا تعني ظاهرة القايد، ممثل للسلطان أو المستعمر في منطقة جغرافية معينة

فِينَك أَعْوِيسَه وفِينْ الشَّان والمْرْشَان: (أينك يا عيسى؟ أين ذهب شأنك؟)

تْعَدِّيتِي وخَسَّرْتِي الخْوَاطر وظَنِّيتِي القْيَادَة على الدوام: (ظلمتَ وعَكّرت الخواطر واعتقدت أنّ القيادة دائمة)

فِي أَيَّامْك الجِيد مَا بْقَالُو شَانْ: (في أيامك لم يبق للشرفاء شأن)

والرّعْوَانِي زِيّدْتِيه القُدَّام: (وقدّمت المخنّث للأمام)

سِير أَعِيسَى بْن عُمَر أَوكَّال الجِّيفَة.. وَيَا قْتَّال خُّوتُو ومْحَلَّل الحْرَام: (يا عيسى يامن تأكل الميتة ومن يقتل اخوته ويا من تحلّل الحرام).

 الشيخة "خربوشة" تثور ضد السلطة

رغم اشتهارها بخربوشة، فهذا الاسم في الغالب وصف لوجهها الذي علته خربشات وثقوب، لكن الاسم ترسّخ في ذاكرة العيطة إلى جانب اسمها حادّة، فهي الشيخة حادة الزيدية شاعرة قبيلة أولاد زيد، سيرتها طغى عليها الجانب الشفوي والأسطوري، خصوصاً البطولة التي نسبت إليها في مواجهتها مع القايد عيسى بن عمر، كانت خربوشة تثير بشعرها حماس أفراد قبيلتها في صراعها ضده، ولم تتورّع عن تصغيره وتحقيره حينما تناديه بـ"عويسة"، ومعايرته بأكل الجيفة وقتل أخوته والظلم والتعسف.

وتمثّل هذه العيطة أقدم هجاء صريح ضد "المخزن"، وستأتي بعده نصوص أخرى ضد المستعمر، منها من استحضر النص نفسه وكيّفه مع الأحداث المحلية، ومنها من احتفظ ببنائه الفني، وهذه العيطة خلّدت اسم الشيخة خربوشة وقبيلتها، كما هو الحال بالنسبة لارتباط الشاعر الجاهلي بقبيلته، وزاد من أسطرة النصّ وتداوله النهاية المأساوية للشيخة خربوشة؛ نهاية احتفت بها كثيراً الرواية الشفهية، منها من ذهب إلى أن القائد بنعيسى شفى غليله في تعذيب خربوشة بعد القبض عليها، بأن جعلها تردّد عيطتها المشهورة وهي تحوم فوق ناقة، وأنه أمعن في تعذيبها حتّى توسلته في عيطات أخرى، ويقال أيضاً إنه قطع لسانها انتقاماً لكبريائه الجريح. هذه الروايات وإن كانت تختلف في تفاصيل النهاية، فإنها تتّفق على أن القايد عيسى ترصّد خربوشة وهي في طريقها للسلطان وقام باختطافها وقتلها.

"عيطة" في وجه الاستعمار الفرنسي


وسيؤدي اجتماع نفس الظروف السابقة (شيخة، مواجهة السلطة/المستعمر) إلى بزوغ عيطة أخرى في جنوب المغرب، هي عيطة "الشجعان" للشيخة النيرية (امباركة بنت حمو البهيشية)، التي كانت مناضلة تتبع فرق الخيالة لدعمهم وحثّهم على القتال. ونجد في بعض الروايات الشفهية أنّ النيرية، في بداية الاستعمار الفرنسي لجنوب المغرب، كانت تحمل إناء من الحناء وتتبع المقاومين، ومن تأخر منهم عن الصف الأول ترشّه بالحناء ليعرف من في القبيلة بأنه تقاعس في تأدية الواجب. بذلك كان الفارس يفضّل الموت على أن يُطلى بالحناء فينعت بالجبن. هكذا كانت تبعث الحماس في قلوب المجاهدين. وهذا المعنى واضح في مقاطع من العيطة المنسوبة لها (عيطة الشجعان) التي تناقلتها كل مناطق المغرب وأدخلت فيها عناصر محلية:

بـِـسْــِمِ الـَلـهْ بَــاشْ بْــِديــنَــا
ورَاهْ عَــلىْ اُلــنًـبِي صَـِلـيـنَـا
رَاهْ اُلـْربَــاعَـة سَــارَتْ لَــلًـهْ
كــــَـانْ مـَــوْسـَـمْ َولَــى حَــْركَــة
تْــحَــْزمُــوا كُــونُــوا رجـالا
يَــــاْوِّدي كـُـونُـــوا عَـــَّوانِــيــنْ
راهْ الـجْــَمــاعَـة طَـلْـعَـتْ لَـلـِّديـرْ
راهْ الْـمـَـحَـلَّــة حَــطَــتْ لَـرْحَـالْ


الحمداوية

ويستمر البعد النضالي في تجربة الحاجة الحمداوية، إحدى أشهر الشيخات، خصوصاً أن العدوّ هنا هو المستعمر الفرنسي، فقد عرّضتها أغانيها فترة الخمسينيات للتحقيقات والسجن، بتهمة التحريض ضده، وأيضاً بسبب هجائها لابن عرفة، الذي نصّبته السلطات الاستعمارية سلطاناً بعد نفي السلطان الشرعي محمد الخامس، وتحديداً أغنيتها التي تشير فيها لابن عرفة بالعجوز، وتقول فيها: "آش جابك لينا حتى بليتينا آ الشيباني (العجوز)/ آش جابك لينا حتى كويتينا آ الشيباني/ فمو مهدوم (فمه مكسور) فيه خدمة يوم". فعانت من أنواع تضييق كثيرة، هي وغيرها من الفنانات، من صعوبة منح تراخيص التنقل وإحياء الحفلات والرقابة على محتوى الأغاني/العيوط، مخافة التحريض والدعوة للنضال.

فرقة العونيات: تذكير بالدور النضالي لفن العيطة

فرقة العونيات

إذا سلّمنا بأنّ ظروفاً معيّنة جعلت العيطة ترتبط السياسة في الماضي، فهذه الظروف متاحة في مغرب اليوم، رغم صعوبة الجهر بصوت معارض فنياً، إلا أن فرقة غناء نسائية الأحباب (عونيات) أدّت مؤخراً أغنية تجمع الضدّين، تأييد الملك ومحبّته، ولكن المطالبة بإصلاحات سياسية والانفتاح على الشباب، ورغم أن هذه المقطوعة تعود إلى التسعينيات، إلاّ أن الفرقة أضافة لها ما يلائم الأحداث الحالية التي يعيشها المغرب، كهجرة الشباب؛ في قولهن (وراه بغيت اولادي يبقاو فبلادي، المليك زيد زيد/ أريد أن يظلّ أبنائي في بلدي، تقدّم يا ملك) و إبعاد الشباب عن مناصب القرار؛ (حيد الشياب ودير الشباب، المليك زيد زيد/ أبعد كبار السّن وقرّب الشباب)، ثمّ  الفقر (شعبنا درويش باغي غير ايعيش/شعبنا مسكين يريد العيش فقط).

 وقد وجدت هذه العيطة صدى واسعاً وتتناقلها المغاربة على نطاق كبير لأنّ كلماتها عبّرت عن هموم مشتركة، والمهم أنّها ذكّرت بالبعد النضالي في فن العيطة، وهو ما صار مفقوداً، وسط اعتماد فرق اليوم على  الفرجة الجسدية وتأدية الرقصات دون جانب التجديد ولهيب النار المقدسة للعيطات القديمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image