شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
من

من "العيطة" إلى "الألتراس"… تحولات الموسيقى الاحتجاجية في المغرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن وحرية التعبير

الأربعاء 25 أكتوبر 202303:37 م

شكلت الموسيقى في تاريخ المغرب المعاصر، نمطاً من أنماط الاحتجاج والنضال السياسي والاجتماعي، إذ خرجت من جبّتها الجمالية، إلى التعبير عن الواقع والمساهمة في كشف وتعرية البنية المجتمعية الهشة، والحديث بلغة الهامش وبالنيابة عن صوت المقهورين والمستضعفين.

منذ القرن التاسع عشر، ظهرت الترانيم الغاضبة في شكل أغانٍ ملتزمة، وحملت العيطة لواء الأغنية الملتزمة، ليتغير اللون الموسيقي الاحتجاجي مع تغير الأوضاع السياسية والمجتمعية، مُترجمةً بذلك كل الانفعالات والأحاسيس، ولم تقف عند كشْف الأوضاع، بل تجاوزتها نحو حلم أصحابها بمغرب الديمقراطية والمساواة والعدل.

إلا أن الفنان المغربي صلاح الطويل يعزو في تصريح له لرصيف22، ظهور الفن الملتزم إلى ما قبل العيوط، فجذورها حسب ما يقول، تعود إلى عهد الملحون، برغم أن الإعلام الرسمي للأسف لم يقدّم للمغاربة سوى نوع واحد معروف بالغزليات، ففنّ الملحون يتضمن أيضاً ألواناً أخرى من حيث الموضوع، من ضمنها أغانٍ تُعنى بالنقد السياسي والاجتماعي، للأسف لم يعرفها من الناس سوى الباحثين والمهتمين بهذا اللون الفني الأصيل.

شكلت الموسيقى في تاريخ المغرب المعاصر، نمطاً من أنماط الاحتجاج والنضال السياسي والاجتماعي، إذ خرجت من جبّتها الجمالية، إلى التعبير عن الواقع والمساهمة في كشف وتعرية البنية المجتمعية الهشة

يردف صلاح الطويل: "بعدها جاءت العيوط، لينتقل لواء الأغنية الملتزمة بعد عقود مع الظاهرة الغيوانية التي كرست لدى المغاربة غناءً ملتزماً بقضايا الوطن والإنسان، خصوصاً فرقة المشاهب ولرصاد وغيرهما من المجموعات الغنائية".

في هذا المقال، نكشفُ عن أهم الألوان والنماذج الموسيقية التي شكلت دعامة الفن المُلتزم والاحتجاج في المغرب.

العيطة... النساء في مواجهة الاستبداد

"فالشيخات جزء من تراثنا الفني الشفهي، وإن نظر إليهن البعض نظرةً قدحيةً، فهُنّ لسن أنياباً ذهبيةً، أو خصوراً مستديرةً في أجساد مكتنزة، لسن ثياباً مزركشةً ولا قفاطين. إنهن صوت جماعي لجغرافيا الشاوية وعبدة ودكالة... بل إنهن مغرب الأمس، مغرب المخزن والإقطاع والباشوات والأعيان". هكذا يخلد حسن نجمي فن العيطة في كتابه "غناء العيطة، الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب"، كونه فنّاً يلامس الذاكرة الفردية والجماعية، وتعبيراً عن الجغرافيا القروية التي خرج منها، مصائر الفلاحين والمزارعين زمن الإقطاع والقُواد.

ترعرعت العيطة وتطورت في قصور السلاطين، وفي ليالي سمر القُواد، حيث كانت تؤنس في حفلاتهم، وكانت داعماً لهم، لذلك تم استغلالها سياسياً، إلا أنه وبرغم الصورة النمطية الدونية التي قاربت فن العيطة باعتباره فن "المجون، الدعارة... إلخ"، التي لها أساس تاريخي مرتبط بمحاولة طمس الهوية الثقافية من طرف المستعمر خصوصاً تلك الأصوات التي استعملت فن العيطة للمقاومة، مستغلين لذلك الوسط القروي التي تنتمي إليه الشيخة، بالإضافة إلى إسهام الثقافة المحافظة للمغاربة في تكريس هذه النظرة. غير أنها حملت في بعضِ تمظهراتها صوت المقاومة والنضال، عَبر إرسال الخطاب بلغة مشفرة لا تفهمها إلا القلة القليلة وبالأخص أهل القبيلة.

ولا يمكن إلا أن نستحضر قصيدة "الشجعان" لفنانة العيطة "إمباركة البهيشية" التي صنعت من قصيدتها ملحمةً في المقاومة، تؤرخ من خلالها بطولات مقاومي بني ملال سواء في مرحلة ما قبل الحماية أو بعدها.

جمعت إمباركة البهيشية بين الغناء الملتزم والممارسة، إذ كانت حاضرةً في المعارك ضد المستعمر في منطقة بني ملال (مدينة مغربية تقع في جبال الأطلس المتوسط)، تُحفز المقاومين وتشدُّ على أيديهم، ولم تكتفِ بذلك، بل استغلت صوتها وشعريتها وملكتها الإبداعية، فأنتجت بذلك غرضاً جديداً من الغناء في فن العيطة، يأخذُ تعابيره من الرصيد الثقافي البدوي، ويعبّر عن رفض المحتل وهيمنته، بعيداً عن الأغراض الأخرى التي اهتمت بحياة البدوي، والتغزل بالمرأة أو الفروسية.

سنوات الجمر والرصاص: الاحتجاج باللغز

"الصينية"، "غير خذوني"، "مهمومة"، ثم "صبرا وشاتيلا"، أغانٍ أظهر من خلال ناس الغِيوان أنهم صوت المقهورين في كل الأزمنة والأمكنة. خالداتٌ بإيقاعات موسيقية شعبية نتجت بنقرات عبد الرحمن باكو على "الهجهوج"، والخامة الفريدة للعربي باطمة، ومواويل عمر السيد وهو يداعب "البندير". آلات موسيقة تراثية، ورجالٌ انبثقوا من هامش الحي المحمدي في الدار البيضاء، وتناسلت موسيقاهم لتلامس المسحوقين. ناس الغيون "صوتُ المعذبين فوق الأرض".

في سياق سياسي، عَرف كُل أنواع القمع والتنكيل والتصفية، واقتصادي سمتهُ الطبقية والفوارق، ظهرت الظاهرة الغيوانية في المغرب.


ترجع العوامل الداخلية لظهور هذه الفرقة إلى القطيعة التي عرفها النظام المغربي مع أغلب الفئات الهشة، خصوصاً بعد انتفاضة 23 آذار/مارس 1965، التي عرفت قمعاً رهيباً للمواطنين. أما في ما يخص العوامل الخارجية، فتمثلت في المد الأيديولوجي لليسار والاشتراكية -خصوصاً في دول العالم الثالث التي تحررت من الاحتلال- وهو ما أسهمَ في تشكل الخلفية الفنية التي انطلقت منها الظاهرة الغيوانية.

مَزج ناس الغيوان إيقاعات من الهوية المغربية العريقة، فتوجهوا أحياناً نحو التصوف، وأخذوا حيناً من الموروث العيساوي والكناوي والملحون، وهذا ما جعلها تصلُ إلى قلوب المستمعين من خلال إنتاجات ذات أبعاد احتجاجية، تواكِبُ العصر، وتأخذ من المعيشي.

وصلت الأغنية الاحتجاجية لناس الغيوان إلى جدران القصر الملكي، حيث دعاهم الملك الراحل الحسن الثاني إلى أداء بعض أغانيهم في حضرته، كما عملت السلطات خلال عهد وزير الداخلية السابق إدريس البصري، على استدعاء هذه الفرقة في السهرات العمومية المنظمة آنذاك، ما دفع العديد من القوى اليسارية إلى أخذ مسافة من الفرقة مبررةً ذلك بأن الغيوان أداة سياسية بيد النظام المغربي.

على العود صُنعت ملحمة الأفراد

يأخذان مكانهما على الخشبة، أمام جمهور متلهف للنقرات، ينتظرون أن تُشعل النقرات لهيف حماستهم الشعبية. يضبطُ سعيد وصلاح مفاتيح العود ضبطاً للإيقاع، ثم تنسالُ الأغاني بالصوت الشجي.

سعيد المغربي، وصلاح الطويل، وغيرهما حَملوا على أكتافهم الفن الملتزم سنوات الجمر والرَّصاص، وغنّوا للوطن وللمقهورين وللسجناء والمنفيين، برغم حملة التضييق والقمع التي تعرضوا لها.

يرى سعيد المغربي في تصريح لرصيف22، "أن السياق التاريخي لظهور الفن الملتزم في المغرب لم يكن محلياً، بل هو عالمي بنكساته وثوراته، خصوصاً ثورة الشباب ومطالبها المرتبطة بالحرية والكرامة في كل بقاع العالم، وبفلسطين على المستوى العربي التي حركت وجداننا، وكانت باعثاً أساسياً لتجاوز الأغاني التي كانت سائدةً. نحن كنا جسداً واحداً مع كل ما كان يحدث في العالم".

فرقة موسيقية في المغرب

في ارتباط العود بالأغنية المتلزمة أيام الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، على غرار مارسيل خليفة والشيخ إمام، يفسر صلاح طويل في تصريح لرصيف22، ذلك بأنه راجع إلى أن جلّ الفنانين الملتزمين انطلقوا بغنائهم الفردي دون توزيع أو حضور للآلات الموسيقية.

يضيف صلاح: "ولم يكُن أفضل من العود لمرافقة ومضاجعة المغنّي في أدائه لأغانيه، بالإضافة إلى أن العود يُعدّ سلطان الآلات الموسيقية، وأفضل آلة موسيقية للتلحين والتطريب".

في زمن المد اليساري، وتغول الأنظمة الرأسمالية -ومنها العربية على الخصوص- ظهر سعيد المغربي وصلاح الطويل، في ظرفية لا لغة للتكميم فيها إلا لغة القمع والمعتقل والنفي، برغم التضييق ظلت "المحاكمة" و"ارفعوا الأيادي" لسعيد المغربي، و"زغرودة مغربية" لصلاح طويل من الخالدات التي أثثت للمشهد السياسي المغربي فترة حكم الراحل الحسن الثاني، والتي ما زالت ممتدةً في الزمان والمكان، كونها صالحةً لكل الظرفيات والسياقات.

أغاني الألتراس... آخر منابع الاحتجاج الموسيقي

تُعدّ "الألتراس" تجمعاً جماهيرياً لأشد المعجبين بفريق معيّن، يكمُن دورهم في التنظيم والتأطير والتشجيع، بل قد يتم تجاوز ذلك إلى التدخل أحياناً في التسيير.

لكن "الألتراس" وبرغم هدفها الأول المتمثل في مساندة فريقها، إلا أنها لم تكن يوماً بمعزل عما يجري في فلك الوطن، على غرار "فبلادي ظلموني" لفصيل الإيغلز المساند لفريق الرجاء البيضاوي، وأغنية "هذه بلاد الحكرة" لفصيل هيركوليس المساند لفريق اتحاد طنجة. أضف إلى ذلك أغنية "قلب حزين" لفصيل الوينرز المساند لفريق الوداد البيضاوي"، وكلها تعبّر عن الأوضاع السياسية والمجتمعية من قبيل الفساد والبطالة والفقر وقضية الهجرة... إلى غير ذلك.

شكلت أهازيجهم أحد أهم التعبيرات عن الاحتجاج والغضب. شعارات رُفعت داخل الملاعب تنديداً بالظلم والقهرة، حولت الألتراس في نظر الكثيرين إلى فصائل رياضية وسياسية في الوقت ذاته.

وما يعكس أثر هذه الأهازيج، تداولها على مستوى الشارع بشكل كبير، فقد كانت شعارات للعديد من المظاهرات على مستوى الشارع "الأطباء، الأساتذة...".

منذ القرن التاسع عشر، ظهرت الترانيم الغاضبة في شكل أغانٍ ملتزمة، وحملت العيطة لواء الأغنية الملتزمة، ليتغير اللون الموسيقي الاحتجاجي مع تغير الأوضاع السياسية والمجتمعية

يربط الأستاذ الجامعي سعيد بنيس، الباحث في علم الاجتماع، في مقال له حول موضوع الألتراس أن الاهتمام بالخطاب الاحتجاجي لشريحة الشباب التي تنتمي إلى الألتراس فرق كرة القدم في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط بشكل مباشر بعد انتفاضات 2011 التي شهدتها المنطقة، وبذلك لم يعد الخطاب الاحتجاجي مرتبطاً بموقع معيّن أو تراب محدد.

كما يرى الباحث أن دينامية الألتراس عرفت تحولاً بارزاً في المغرب بعد سنة 2016، وهو تاريخ صدور قانون المنع، حيث بعد عودتهم إلى الملاعب صار خطاب الألتراس خطاباً احتجاجياً؛ انتقلت معه حلبات الرياضة إلى مواقع لتمرين سياسي للشباب وعنوان لانخراطهم في الصيرورة الاجتماعية والسياسية الوطنية والإقليمية.

يؤكد عُمر (اسم مستعار لأحد أعضاء ألتراس كرين بويز المساندة لفريق الرجاء البيضاوي)، في تصريح لرصيف22، أن "التوجه الذي تبنّته فصائل الألتراس، راجع إلى أن معظم الأعضاء المنتمين إليها ينتمون إلى الطبقات المسحوقة، لذلك هُم مدركون لما تعانيه هذه الطبقة سواء اقتصادياً أو اجتماعياً، وهذا جعلهُم يستغلون المدرجات من أجل تمرير رسالتهم نظراً للتغطية الإعلامية الكبيرة، ما يجعل صوتهم يصل إلى فئة عريضة من المواطنين".

ولا يخفي عُمر أن هذا يؤثر على الفِرق بشكل مباشر، ودليله على ذلك ما تعانيه هذه الفرق من مجازر تحكيمية نتيجة أهازيج جماهيرها، بالإضافة إلى أن هناك أنديةً تم إقبارها مثلما حدث لفريق النادي القنيطري، إذ إن أغلب أغاني مشجعي الفريق تحتوي رسائل سياسيةً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard
Popup Image