تحلّ الذكرى الـ76 للنكبة الفلسطينية متزامنةً مع إحدى أكبر الفجائع التي حلّت بالشعب الفلسطينيّ خلال تاريخه الحديث، إن لم تكن أكثرها مأساويةً؛ الحرب الإسرائيلية على غزة.
لقد استمر الفلسطينيون في تذكير أنفسهم وتذكير العالم بأنّ النكبة لم تنتهِ عام 1948، وبأنّها مستمرّة باستمرار الاحتلال وحلم عودة ملايين الفلسطينيين الذين حُرموا ولا يزالون محرومين من مجرّد رؤية ديارهم.
ولربما لم يتخيّلوا يوماً أن يشاهدوا أبناء جلدتهم في غزّة يبادون على مرأى من العالم وعبر الشاشات، وأن يتردد في أذهانهم، سواء تذكروا عام 1948 أم ورثوا مرويّاته الشفوية، صدى النكبة الأم، حين جُرّد الإنسان الفلسطينيّ من كلّ شيء؛ من إنسانيّته وأرضه وبيته ولغته وذاكرته وسيادته على مستقبله. لا يملك الفلسطيني سوى قصّته الشخصيّة.
فهذه نواة الفكرة، لبنة الحياة الأولى، والمكوّن الأساس للذاكرة الجمعيّة التي تحمي الشعب من الهلاك. ماذا سيكون شكل هذه القصّة إن عُجنت بالدم والاغتصاب المدوّي للحقّ في العيش والأمن والحبّ والمعرفة؟
لعلّ القصّة الشخصيّة ستظلّ، مهما تعدّدت مصائرها وتشعّبت تجاربها، الأرشيف الحيّ الوحيد الذي ينجو من سياسة المحو التي تنتهجها إسرائيل ضدّ الوجود الفلسطينيّ.
الأرشيف المتمظهر في المادّة وما فوقها، في مفتاح البيت، في ألبوم صور العائلة، في هديّة بسيطة من حبيب قديم، في الذاكرة والقصص المترامية في فضائها الوسيع، في رائحة ثمرة برتقال في حوش البيت، في المخيّلة التي لا يكبح جماحها حاجز أو حدّ أو مدفع.
في ملف النكبة لهذا العام، نضيء على أرشيفات عتّمها الزمن أو عاشت في صدور أصحابها وأبنائهم وأحفادهم. نضيء عليها ونحن نفقد أصحابها الأوائل الذين اختبروا النكبة، ولم يتوانوا عن تسليم أرشيفاتهم للأجيال اللاحقة، التي تستمر في السّرد كأنما هو سرد واحد غير متقطّع.
كذلك نضيء على أرشيف غزّة الذي دمّرته حرب الإبادة، أرشيف حفظ ذاكرة المدينة الغائرة وأبنائها. ولن يكون أمام الفلسطينيّ إلا أن يلملم قصصه الشخصيّة، قطعةً قطعةً، ليعاود بناء عمرانه الماديّ والروحيّ العريق.
يمنح الملف فسحةً للأرشيف الماديّ والمعنويّ والبصريّ، الشخصيّ والجمعيّ، دليل الوجود والمعنى الذي من خلاله قد يشكّل الفلسطينيّ قصّته، أو يعيد تشكيلها، أو يرثيها، أو يحتفي بها، ويورّثها، أو ربّما يتخيّلها، فهو المالك الوحيد لأرض هذه القصة.