كانت وفاء يازجي (29 عاماً) مستمعة جيدة لقصص جدتها لأمها، المهجرة من قرية سمسم. تحكي الجدة كيف فرت مع عائلتها من الموت، تاركة منزلها الطيني، دون أن تأخذ العائلة معها شيئاً. حملت مفتاح البيت فقط، على أمل الرجوع إليه.
أعادت أحداث النزوح القسري المستمر في غزة منذ بدء الحرب الإسرائيلية في السابع من أكتوبر 2023 إلى ذهن وفاء وأذهان فلسطينيين آخرين، تهجير أجدادهم عام النكبة.
فخرجت الجدات والأجداد، حاملين مفاتيحهم، التي تحولت من قطع معدنية شخصية إلى أيقونة جمعية يتمثل فيها حلم العودة، وأضيفت إلى أراشيف الفلسطينيين المادية، التي تخلد حتى بعد رحيلهم.
ويبدو أن الغزيين الذين نزحوا مجبرين، تحت نيران الاحتلال، من منازلهم في غزة والشمال، يعيشون شريطاً معاداً تخرج فيه قصص أجدادهم من الماضي إلى الحاضر. فما الذي تشاركوه مع أجدادهم وما الذي اختلف في تجربتهم المعاصرة؟
ونحن إذ نطرح سؤالاً يبدو تعميمياً، نتحدث عن ملايين القصص التي سيجيب توثيقها وتأريخها على هذه الأسئلة. فقد وصل عدد النازحين في مختلف أنحاء قطاع غزة إلى نحو 1.7 مليون، وفق إحصاء وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
ذلك بعد أن أجبرهم الاحتلال الإسرائيلي على النزوح من الشمال إلى الجنوب، وقطع طريق عودتهم من خلال شق ممر "نتساريم" الذي يخضع تحت السيطرة الإسرائيلية.
قبيل خروجنا، ألقيت نظرة وداع على منزلي، شعرت بأني بحاجة ماسة لاحتضان الحيطان وأثاث المنزل وغرفتي. فتحت الدولاب وبدأت أبحث عن أغلى ما أملك لآخذه معي حتى يتبقى لي شيء من رائحة البلاد
يتردد صدى حكاية الأجداد
"لم نكن نتخيل يوماً أن يتكرر معنا المشهد نفسه. فلم يسبق لعائلة أبي، التي تعيش في حي الرمال غرب مدينة غزة أن تهجروا"، تقول وفاء لرصيف22.
وتضيف: "عندما جاءنا أمرت إسرائيل بإخلاء منازلنا، شعرت بالفزع والخوف. وتساءلت: "هل سأمر بالتجربة التي مرّت بها جدتي؟ وربما أحكي قصة نزوحي لأحفادي مستقبلاً؟"
تؤكد وفاء أنها عاشت صراعاً كبيراً بين البقاء الذي يعظم من إمكانية الموت وبين أن تنزح وتترك روحها معلقة بين جدران منزلها، كما تصف.
ثم بدأت قصة نزوحها مع عائلتها في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. "خضعت لرأي عائلتي، ونزحت معها. قبيل خروجنا، ألقيت نظرة وداع على منزلي، شعرت بأني بحاجة ماسة لاحتضان الحيطان وأثاث المنزل وغرفتي. فتحت الدولاب وبدأت أبحث عن أغلى ما أملك لآخذه معي حتى يتبقى لي شيء من رائحة البلاد".
يتردد صدى تهجير الأجداد لدى الشاب العشرينيّ منتصر جلال أيضاً. نزح منتصر من مخيم النصيرات وسط مدينة غزة، إلى دير البلح. وهو ينتمي إلى عائلة لاجئة من قرية بربرة المهجرة.
يقول لرصيف22: "عاش في منزلنا الذي دمره الاحتلال والد جدي وجدي ووالدي وأعمامي، وأشقائي وأبناء عمي. كنا سعداء. في أيام الصيف الحارة، كنا نسهر ليلاً تحت ضوء القمر. نجتمع حول جدي ليحدثنا عن أيام البلاد وقرية بربرة وأرض كروم العنب والمقاومة الباسلة".
ويردف: "تشهد ليالي الشتاء على صوته الحزين وهو يخبرنا بحسرة عن شوقه لأرضه وحلمه بالعودة. ويوصينا بعدم ترك منازلنا".
كثيراً ما كان يلقي منتصر، وأقرباؤه من الجيل الجديد، اللوم على جدهم لأنه ترك أرضه. ويعتقدون أنه كان من المفترض به أن يصمد. لكنهم، وبعد السابع من أكتوبر، حين وجدوا أنفسهم مجبرين على النزوح، أدركوا أنه لا يمكن إلقاء اللائمة على أجدادهم.
كثيراً ما كان يلقي منتصر، وأقرباؤه من الجيل الجديد، اللوم على جدهم لأنه ترك أرضه. ويعتقدون أنه كان من المفترض به أن يصمد. لكنهم، وبعد السابع من أكتوبر، حين وجدوا أنفسهم مجبرين على النزوح، أدركوا بأنه لا يمكن إلقاء اللائمة على أجدادهم.
مفتاح العودة
لا يعتبر مفتاح المنزل مجرد أداة معدنية بالنسبة للفلسطيني، بل رمز يؤكد على أحقيته على أرضه وجذوره الفلسطينيّة واستمراريّة حياته. كما يعتبره اللاجئ والنازح الفلسطيني موروثاً وطنيّاً يمنحه الأمل بالعودة.
وفي حين أضيف المفتاح إلى سجل الأرشيف الفلسطيني المادي، يبدو أنه رمزيته في استمرار يلحق استمرار احتلال الأرض. إذ تتمسك به العائلات النازحة على أنه قطعة من الوطن.
غالبية هذه العائلات خرجت دون أن تأخذ معها شيئاً. وإن أخذ بعضهم شيئاً عند الخروج من البيت، فقد يأخذ غرضاً واحداً كألبوم صور أو قطعة ذهبية وأوراق ثبوتيّة أو كتب.
ولعلّ من لم يأخذ معه شيئاً، كان على ثقة تامة بأنه عائد لا محالة.
يقول منتصر: "نزحت مع عائلتي وتركنا منزلنا. لم نأخذ معنا شيئاً سوى مفتاح المنزل وشنطة صغيرة تحتوي على الأوراق الثبوتية الرسمية، وكتبي الدراسية. أغلقت والدتي المنزل ووضعت المفتاح في حقيبتها، وهربنا لننجوا من الموت".
ويدردف: "نزحنا تحت نيران القصف المدفعي والأحزمة النارية، ومعنا جدتي المعمرة هاجر حسن. وبعد أيام من النزوح، قُصف منزلنا، فظل المفتاح وذهب المنزل".
أما وفاء، فربما فطنت لأغراض ثمينة أخرى. وربما تذكرت جدتها التي لم تأخذ شيئاً سوى المفتاح، فقررت هي أن تأخذ ثوبها المطرز، ومحفظة أهدتها إليها جدتها المتوفاة يوم خطوبتها، وباقة ورد أهداها إياها خطيبها.
وضعت وفاء كل هذه الأغراض داخل صندوق يسمى " صندوق العروس" واصطحبته معها في رحلة النزوح، حيث أقامت في منزل أحد الأقارب في رفح.
في خيمتها الصغيرة في مخيم النازحين في مدينة دير البلح، تجلس الستينية فوزية أبو دقة. بعد أن نزحت من خانيونس. تفكر في حياتها التي انقلبت رأساً على عقب، وتحلم بالعودة إلى منزلها.
وتنبه أولادها دائماً بقولها: "إياكم أن تضيعوا مفتاح المنزل، سنعود قريباً ونودع الخيام".
تقول فوزيّة لرصيف22: "أجبرنا الاحتلال على النزوح من مدينة خانيونس إلى مخيمات النزوح برفح عبر الممر الآمن. لم نأخذ معنا سوى أغراضنا الأساسية من غطاء ومفارش وبعض الملابس".
وتردف: "كنا نسمع عن قصص النازحين من الشمال إلى الجنوب، وسرقة جنود الاحتلال لأغراضهم وأموالهم وتعرضهم للتنكيل والاعتقال، فخفنا اصطحاب أي شيء".
لم تأخذ فوزية معها سوى مفتاح منزلها، الذي ترجح أن الاحتلال قام بتدميره.
مصيدة العائدين
عملت إسرائيل على تنفيذ خطط تحول دون عودة النازحين إلى غزة والشمال. فشقت ممر "نتساريم"، الذي يقسم غزة من الشرق حتى الطريق الساحلي، وتتقاطع نقطة التفتيش فيه مع طريق صلاح الدين، أحد الطرق الرئيسة التي تربط شمال القطاع بجنوبه.
يشكل ممر "نتساريم"، مصيدة العائدين، مصدر قلق للغزيين، فلا يسمح لهم بالعودة إلى منازلهم في الشمال. ومن يعبره يتعرض للقتل الفوري أو التنكيل.
ويخشى الغزيون من إبقاء الاحتلال الإسرائيلي على الممر حتى بعد انتهاء الحرب، مما يحرمهم حق العودة، ويعيق حركتهم وتنقلهم بين محافظات غزة، كما كان قبل الانسحاب الإسرائيلي عام 2005.
تقول فوزية أبو دقة: "متعبة جداً ومنهكة من حياة الخيمة والنزوح. أحلم بالعودة إلى منزلي ليل نهار. وأعيش هاجساً كبيراً، هاجس أن يحدث معي مثلما حدث مع أجدادنا، أن نظل في الخيمة، ولا نعود إلى البيت. نتابع الأخبار دائماً. كلها محبطة. فالاحتلال مصر على بقائنا نازحين. ولا أمل في المفاوضات".
ما نعيشه نتاج نكبة 1948
"ما نعيشه من حروب متكررة على غزة، آخرها الحرب الحالية، هو نتاج نكبة 1948. أعني أن الحدثين غير منفصلين، بل مكملين أحدهما للآخر"، يقول الباحث عزيز المصري لرصيف22. ويؤكد: "هي أحداث ناتجة من فكر صهيوني عنصري قائم على التهجير والقتل والتدمير، لأنه يرى في الفلسطيني الصامد في أرضه نقيضاً لمشروعه الصهيوني. وبالتالي، يجب التخلص من هذا النقيض عبر تهجير الفلسطينيين".
ويوضح أن التهجير اتخذ طرقاً مختلفة عبر سنوات الاحتلال، بدءاً بالتهجير القسري عام 1948، إلى التهجير القسري عام 1967، فخطط تهجير الشباب إلى كندا وأوروبا في سنوات السبعينيات مثل لجنة الأساتذة الإسرائيلية عام 1968، إلى مخطط التهجير إلى الباراغواي عام 1970، ومخطط التهجير إلى كندا عبر سماسرة في غزة خلال سنوات الثمانينيات، وصولاً إلى ما نحن فيه الآن من تهجير وقتل وتدمير.
"كذلك، فإن هدم قرى البدو في النقب ومسافر يطا في الخليل وخان الأحمر، هي خطة تهجير واحدة، بأساليب تختلف حسب الظرف الميداني والسياسي"، يقول المصري.
وعن وجه الشبه والاختلاف ما بين تهجير الفلسطينيين عام 1948 وعام 2023، يشير المصري إلى أن الاحتلال هندس في غزة واقعاً يجبر الفلسطيني على الهجرة طواعية، من خلال التدمير الممنهج وجعل البيئة طاردة للحياة. وهذا شكل مغاير لتهجير النكبة الذي كان قسرياً واختيارياً في آن معاً.
لكن، في كلتا الحالتين، حمل الفلسطينيون مفاتيح بيوتهم. حملوا هذه الأيقونة، التي ربما لم يفكروا برمزيتها لحظة إغلاق الباب والنجاة من الموت، كونها كانت من الممكن أن تكون فعلاً طبيعياً يغلق فيه المرء باب بيته ثم يعود إليه.
تقول وفاء: "منذ نزوحنا إلى هذه اللحظة، لم أنس عبارة أمي عندما قالت لأخي: أغلق الباب جيداً وهات المفتاح. وضعته في شنطتها الصغيرة. وقالت: يومان وسوف نعود. لا تأخذوا شيئاً معكم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.