شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عيناك أو النكبة... من بين دفّتيّ الباب

عيناك أو النكبة... من بين دفّتيّ الباب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتاريخ

الأربعاء 15 مايو 202409:41 ص

أستطيع اليوم عدّ جميع أقربائي في دمشق على أصابع اليد. ترعبني هذه الفكرة جداً، أن أعود يوماً إلى المدينة فلا يدّل شيءٌ أو أحدٌ على اسمي، سوى شواهد القبور. كأنما أتناسى بذلك أن تاريخ وجود عائلتي في المدينة لا يزيد أو ينقص عن تاريخ النكبة الفلسطينية.

بالرغم من ذلك أقول إن أموات العائلة كثروا منذ الثورة السورية، وما جاء بعدها من حصار على مخيم اليرموك. وربما، لهذا السبب، لم أدخل مقبرةً واحدةً في حيفا يوم (عدتُ) إليها.

واكتفيتُ بلحظةٍ لمحتُ فيها شيئاً من ذاكرة جدتي، وجهاً لوجهٍ. اصطحبني مجد يومها إلى منزلٍ مُهجّر في وادي الصليب. شَبَكَ كفّي يديه لأضع قدميّ فوقهما. ثم رفعني لأنظر من فوق السياج المعدني إلى داخل الدار.

لحظات قليلة مِن فوق السياج المعدني: رأسي يطلّ على ردهة البيت/ قدماي ترتجفان فوق كفّي مجد/ وقدماه ترتكزان على درج متكسّر ضيّق / قفزتُ للخلف خائفاً، متراجعاً / مكتفياً بلحظة إدراك ذاك المشهد، وإدراك حالنا تلك.

سألني مجد أن أعاود القفز لأحاول الدخول. فأجبتُ بالرفض. أكملنا مَشْيَنا، صامتين نحو الحليّصة.

في الطريق إلى الجهة الأخرى من حيفا بقيت متشكّكاً في فكرة أن يتهيّأ لي شيء من ذاكرة ازدهار في تلك اللحظة بمجرّد رؤية كومة حجارة مُحاصرة خلف سياج معدني بطول مترين.

بيت قديم في سوق الناصرة (تصوير الكاتب)

ازدهار

في ألمانيا ينجب الناس حينما تستقرّ حياتهم الاجتماعية، أو بعد أن يقول لهم مستشار الضرائب المالية: مع قدوم الأولاد تخفّ ضريبة الحياة هنا.

في اليرموك، أنجبَنا أهلنا في أحياء تفصلها أزقة وشوارع أسموها الناصرة والكرمل وعكا وحيفا ولوبية وصفد والمنصورة. أنجبونا فيها على أمل، بين الحلم والوهم، بأننا قد نستردّ بأسمائها ذاكرة غائبة عن علاقة الإنسان بالأرض التي يقف فوقها.

أو على أمل أن نستردّ لهم ضريبة الأرض التي دفعوها عن أهلهم، أو لنبحث لهم فيها عن حياة موازية، تقرّبهم إلى حدود الخروج من زمن النكبة، التي كأنما استحالت فضاءً مغناطيسيّاً، بقدر امتداده الجغرافي بيننا هنا وهناك، بقدر شتاته وانحسار حيّزه من حولنا بين رقمين: 48.

سامحنا يا عماد رشدان! أجل... علمتمونا في المخيم أن نقتدي بأغاني الغجر وأحلام الكورد. لكن ماذا كان بوسعنا نحن الأطفال أن نصنع من مدن لا يزيد طولها وعرضها عن ستين متراً وثمانية أمتار؟

أما أنتِ يا ازدهار، فحاولت طيلة حياتك إخراج أبنائك وأحفادك من النكبة، نحو الحياة.

لطالما كنتُ أتخيل وجهك في جملة محمود درويش: "خديجة! لا تغلقي الباب، لا تدخلي في الغياب". واليوم، بعد ثلاثة عشر عاماً من موتكِ، أعتذر منك يا حبيبتي! أنت لم تغلقي بابك يوماً!

أستطيع اليوم عدّ جميع أقربائي في دمشق على أصابع اليد. ترعبني هذه الفكرة جداً، أن أعود يوماً إلى المدينة فلا يدّل شيءٌ أو أحدٌ على اسمي، سوى شواهد القبور. 

كنتِ تجلسين كل صباح خلف باب الدار، فوق حجرين كبيرين من الصوان، وتدفعين بدفته اليمينية، بالشكل الذي يسمح لعينيك أن تطلّا على العابرين والأطفال المُرسلين للوقوف في طابور فرن الخبز أمام دارك.

في السنوات التي ترك الجميع بيتكِ وغادروه إلى أحلامهم وأشغالهم وحيواتهم في دمشق، تركوني معكِ بدل أن أرتاد روضة الأطفال. وكنتِ أنتِ من يفتح لي الباب ويتركني لأخرج للحياة.

تقبّلين يديّ، وتقولين اذهب والعب "وخليك تحت عِنيِّي يا عبودي!". فأذهب تاركاً إياك خلف الباب، حيث تدخل شمسُ الصباح من حيّزه إلى جسدكِ الذي يظلّ يراقب قفزات جسدي من بعيد.

في لحظات سقوطي على الأرض، لحظة أنهض باكياً، كنت أوجّه برأسي نحو باب الدار مستنجداً بك. فأراك هناك، بينما وصلتْ شمس الظهيرة وجهك، لتبان لي عيناك مضيئتين من بين دفّتي الباب الحديدي.

ربما كانت تلك اللحظة الوحيدة التي كان باستطاعة ذاك الطفل أن يحسّ فيها، دون إدراك منه، بالنكبة التي حَمَلْتِها.

بين لحظة سقوطي هذه، ولحظة قفزي من على كفّي مجد، محاولاً تسلّق سياج البيت في حيفا، قرابة عشرين سنة.

عشرون سنة بين نظرتكِ إليّ بعد سقوطي، وبين نظرتي إلى داخل البيت قبل قفزي إلى الوراء.

لكن لماذا أحسّ اليوم وكأن كلتا اللحظتين حدثتا في زمن واحد؟ وكأني كنتُ هناك قبل أن أكون- امتداداً لذاكرتك!

أيّ عين لمحتْ نظرة الآخر منّا أولاً يا ازدهار؟ في أيّ زمن التقينا هناك؟ أي حياةٍ كانت تمرّ بالآخر لحظة نظرنا إلى بعضنا؟ حياتي أم حياتك؟

ازدهار شعبان

أعود إليكِ مغبرّاً، فتمديّن لي كأس ماء، أذبتِ فيه ملعقة كبيرة من سكر الإعاشة الخشن الذي حصّلتهِ من إعانة الأونروا. أنتِ التي ذوّبت النكبةُ فؤادك، وأخذ الموت لون عينيكِ بأربعة من أبناءك. عيناكِ اللاتي أكلهما خرمُ إبرة ماكينة سينجر. كانتا لا تزالان تستطيعان لمح فتات الخبز المتساقط من حواف الأرغفة في أيدي أطفال المخيم.

وقبل أن أنهي شرب الماء المُحلّى، تمسحين دموعي وتقولين: "جيب هراهير الخبز يا عبودي. حرام تمشي الناس عليهن. لمّهن حبيبي".

وأعود للّعب، وأترككِ لحزنك الهادئ مثل بركة دموعٍ. لم تجد يوماً طريقاً يحملها إلى خلاصها، إلى البحر.

وانظري، ها قد صارت البركةُ ملح من يبحث عنها، وحصته من ميراث الذاكرة. لماذا لم تكمشي حفيدك الأخير من يديه الصغيرتين وتأمريه أن يعود ويسمعك؟ لماذا لم تغلقي باب المخيم في وجه الطفل وتفتحي له باب ذاكرتكِ إلى فلسطين؟

انظري... احتجتُ عشرين سنة لأفهم أن حزنك لم يكن مما مضى بكِ في النكبة، بل على الآتي علينا مِن ميراثها.

* هامش في المنتصف

تواصلتُ مع أصدقاء احتفظوا بنسخة ورقية من كتاب نشره مركز البيادر الثقافي في مخيم اليرموك عام 2010. كنت قد شاركت فيه بنص كتبته عن أم عدنان/ إزدهار. لكني لم أحصّل منه سوى الخذلان، إذ لم أجد فيه إلا ما كتبه طفلٌ عنها – وليس منها. في آخر السطور فقط، أقتبس عن ازدهار تذكُّرها الدقيق للون فستانها الذي ارتدته قبل ركوب "اللانش" المتجه إلى صيدا، وقولها بعد ذلك: "كنا مفكرينهم تلت تيام يا ستي".

 أقتبس عن ازدهار تذكُّرها الدقيق للون فستانها الذي ارتدته قبل ركوب "اللانش" المتجه إلى صيدا، وقولها بعد ذلك: "كنا مفكرينهم تلت تيام يا ستي".

برهان

" الأموات كثروا. وهذه العائلة تظل تشتكي! تظل تقلق! الكل يخبرني بمصائبه. الكل حزينٌ. والكل متعبٌ من توجيه حياته إلى حياة، ليس له منها سوى المنافي والموت والشعر ونشرات الأخبار. لكني لا أشتكي. أظلّ أترجمُ وأحكي لجميع من حولي هنا، حيث أعيش، عن فلسطين بتاريخها وحروبها وثقافتها. لقد توقفت حياتي منذ الحرب الأخيرة بالكامل! إسرائيل سرقت وتسرق من عمري سنواتٍ عبر حروبها ومجازرها".

هكذا قال لي برهان، ابن عم والدي، في آخر لقاء لنا قبل أشهر. لم أرَ في وجهه حزناً بهذا الشكل من قبل. على الرغم من أنه كان صاحب ضحكة ساخرة لا تفارقه، إلا في حديثه عن نكبة العائلة؛ عن أخيه الشهيد عز الدين.

سألني: لماذا لم تبحث عن المنزل الذي ولدتُ فيه في حيفا، في الشارع الذي أعطوه اسماً آخر غير "شارع الناصرة"؟

أجبته أن صديقتي سيرين لم تجد أي أثر للبيت أو بقاياه، إذ طلبتُ منها البحث عنه بعد عودتي من فلسطين.

- لماذا لم تبحث عنه بنفسك قبل عودتك؟

سكتُّ لدقائق... ابتلعني شعور ثقيل بِثقل الجواب الذي تجرأتُ على الردّ به: "اتّاخدتْ يا عمّي... فلسطين أخدتني. كنت غايب عن حالي وعن كلشي، لدرجة نسيت أنا ليش إجيت!".

بضعة أيام في فلسطين كانت كافيةً لأحلم بها وبجدّتي بشكل شبه يومي لأكثر من خمسة شهور. وهذا واقع أعنيه، لا مجاز أحاول رسمه!

عبد الرحمن القلق وجدته ووالده

مع ذلك، استطاع العم برهان، بروحه الساخرة، تحويل الحديث إلى مطارح أخرى، انتهت بالوصول إلى شعبان القلق، عميد العائلة في الخمسينيات.

وضع سيجارته على حافة المنفضة، ونهض من على كرسيّه، ثم أدار كتفه الأيمن للخلف قدر ما استطاع، رافعاً يده اليمنى للأعلى قليلاً:

"كان لدى شعبان خريطة كبيرة جداً لفلسطين. كنا أطفالاً نسأله عن أيّة قرية نريد فيشير بسبّابته دون أن ينظر، كأنما يشير إلى شامةٍ في جسده: هنا تكون القرية الفلانية، والطريق إليها يمر من القرية الفلانية، والشارع الفلاني. بالإضافة لعمله كمدرسٍ في حيفا، عمل شعبان في مصلحة سكة الحديد الفلسطينية، منها خط درعا- حيفا".

كنت أفكر في العم شعبان حينما هُجّر عام النكبة مع بقية العائلة إلى دمشق. كيف كان يرى الطرقات التي سبق وسافر فيها بالقطار، وهو يعبرها (الآن) على الأقدام، مقهوراً، مطروداً من أرضه؟

في تلك اللحظة، تمنّيت لو لم (ينتظر) والدي حتى الأربعين ليتزوج وينجبني. لكنتُ عرفت أكثر عنه. بالأحرى، لكنتُ استطعت إدراك معنى الالتفات إلى كل نظرة وكلمة في وجه ازدهار قبل رحيلها.

ليس لنا حينما نتكلم عن غزة إلا أصواتنا الفردية. وليس لنا حينما تُهاجمنا الشرطة الألمانية إلا أجسادنا. وليس لأجسادنا حينما ندفع بها أمام أخيلة الاحتلال سوى ذاكرة الأجساد التي ورثناها عن أهلنا

لو كان باستطاعتي فقط أن أفهم: كيف يفصلنا- ازدهار وشعبان وبرهان وأنا- أكثر من نصف قرن من الزمن، ولا زلت أحس كأني عشت ذاكرتهم مجتمعة؛ ستٌ وسبعون عاماً من النكبة؟

إن عاد المُغيّبون بعد عشرين سنة أخرى إلى حيفا، أتراهم سيلمحون تلك اللحظة: جدتي من خلف دفة الباب بفستانها. شعبان واقفٌ أمام سبّورة صفّه. برهان جالس على حافة منزله في شارع الناصرة. وأنا أمام البيت... هل بمقدورهم يوماً إمساك تلك اللحظة وإيقاف امتداد النكبة؟

عيّوش

تخبرني صديقتي ميسون عن أمها عيّوش، عن قصصها الصغيرة، وأغانيها، وعن حالها قبل أن تغادر الحياة من منفاها الأخير في ألمانيا.

تقول ميسون: "قبل أن يرحل جسد أمي عن هذي الأرض، كانت قد وصلت إلى فلسطين بالفعل. وكأنما تناست لجوءها الأول إلى سوريا، ولجوءها الثاني إلى ألمانيا، فإذا بها تتعامل مع غرف شقتها وكأنها في دارها ذي الطابقين في فلسطين، فتنادي: "اطلعي لفوق يا ميسون.. أنا بالطابق الفوقاني".

استطاعت عيوش، من غرفتها جنوب ألمانيا إيجاد خط زمني آخر إلى فلسطين- ذاك الذي جلسنا أنا وميسون لساعات محاولين وصفه بعد عودتي من فلسطين.

بيت في وادي الصليب المهجر، حيفا (تصوير الكاتب)

جهْلُنا بأصغر تفاصيل حياة أهلنا وأكثرها خصوصية هو جهلٌ بأحزانهم أيضاً. وجهلنا بأحزانهم هو بالضرورة جهل بما يجمعنا كفلسطينيين وفلسطينيات. تلك النكبات الصغيرة التي أزاحها هول النكبة الكبرى، حتى ماتوا معها، أو حرروا أجسادهم منها، كـ"عيّوش".

نحاول اليوم في شتاتنا إزاحة هول النكبة الكبرى، وحَدِّها الزمني عن خطواتنا، كي نجد خطاً آخر يجمعنا من جديد. نحن أبناء الشتات الذين وجدنا أنفسنا، بعد الهجرة إلى أوروبا، فجأةً، لأول مرةٍ، نقفُ متكاتفين مع أصدقاء وصديقات من كامل فلسطين المحتلة.

في كل مرة أعود فيها إلى مدينتي بعد مظاهرات برلين، نعانق بعضنا البعض، لنفترق إلى منازلنا فرادىً، كما كنا دوماً في شتاتنا الذي لم يختفِ بخروجنا من المخيمات. بل صار أوضح وأعنف. أفراد يقاومون نكبة لا تنتهي.

ليس لنا حينما نتكلم عن غزة إلا أصواتنا الفردية. وليس لنا حينما تُهاجمنا الشرطة الألمانية إلا أجسادنا. وليس لأجسادنا حينما ندفع بها أمام أخيلة الاحتلال سوى ذاكرة الأجساد التي ورثناها عن أهلنا ومشينا بها في المظاهرات. ذاكرتنا من- وإلى كل شبر في فلسطين تكبُر جسد الاحتلال ومجازره.

وأن نبحث عن تلك الذاكرة، ونعتني بها في علاقتنا اليومية المتبادلة، بكل تفصيل ثانوي، بكل همّ شخصي في الشتات، أكان هنا أم هناك، بكل طقس يومي في منافينا، بكل لون فستان، بكل حزن مهما كان فردياً، هو شيءٌ من المقاومة أيضاً.

أن نحكي عن النكبة يعني أن نروي كل نظراتها، حتى تلك التي لمحناها لوهلة بين دفّتي الباب!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image