حرّكت تلك الصورة ما هو أبعد من مشاعري ودموعي. لقد استطاعت أن تحفر في عقلي وذاكرتي الإصرار على التعلُّم وتحقيق الحلم، حتّى في ظلّ الظروف القاسية والمؤلمة التي يمرُّ بها الشعب الفلسطيني في غزّة وخارجها.
إنّها صورة تامر صلاح أبو موسى، طالب في جامعة الأزهر في غزّة. يناقش فيها، أمام لجنة الدراسات العليا، رسالة ماجستير كتبها في قسم علم النفس.
لم يحدث ذلك في حرم الجامعة، فآلة البطش والتدمير الاسرائيلية أبادت جامعته وطمستها كليًاً عن وجه الأرض، كجزء من عمليات إبادة المؤسّسات التعليميّة والثقافيّة والفكريّة والتراثيّة والإنسانيّة الفلسطينيّة، اعتقاداً منها أنّها ستُبيد الشعب الفلسطيني عن وجه الأرض.
ونوقشت رسالة الماجستير هذه في خيمة تحوّلت للحظة إلى جامعة. أليس هذا إبداعاً وصموداً غير مسبوقين؟
هذه الصورة، التي وصلتني عبر فيسبوك. بيّنت لي أنّ اختفاء الحجر لن يؤدي بالضرورة إلى اختفاء الفكر والإبداع والإنتاج. فها هي جلسة واحدة أثارت مشاعري وفكري أكثر من أيّ مسرحية تمّ إنتاجها في معامل الإخراج الفنيّ والموسيقيّ.
خلال الحرب التي تشنُّها إسرائيل، عمِلت آلتها التدميرية على محو المربعات السكنية في كلّ مدن وقرى وبلدات ومخيمات قطاع غزّة. أتعرفون أو تتصوّرون ما هو شكل هذا القطاع؟
مساحته 362 كيلومتراً مربعاً فقط. وتعداد سكانه 2.3 مليون نسمة من أهالي غزّة وخان يونس ودير البلح ورفح الأصليين. ثم لجأ إليهم عشرات آلاف الفلسطينيين من قرى أقضية غزّة ويافا والرملة وبئر السبع في عام النكبة 1948.
وهكذا تشكّل القطاع تحت الحكم العسكري المصريّ، منذ عام 1948 حتّى احتلال حزيران عام 1967.
أرادت آلة التدمير الاسرائيليّة في هذه الحرب الإبادية على غزّة أنْ تمحو البشر والحجر والشجر. فتماماً كما فعلت الآلة نفسها عام 1948، ثمّ عام 1967،تفعل الآن، من قتل وتشريد ومحو مبانٍ وأحياء كاملة، من أجل منع العودة إليها.
عند الحديث عن القطاع، فإنّنا نتحدّث عن أكبر كثافة سكانيّة على وجه الأرض. فالمنازل والمؤسّسات الخدميّة كالمستشفيات والمدارس والكليّات والجامعات والأسواق والمصالح التجاريّة كلّها مختلطة ومتداخلة بعضها ببعض. لكن جميعها كان يعمل ويتحرّك بنشاط وهِمّة وتناغم.
فلنتخيّل الصعوبات القاسية واللئيمة التي يمرُّ بها الغزّيون، قبل الحرب، وتحت حصار طويل ومرير فرضه جيش الاحتلال على السكان ومنع تنقّلهم خارجه أو تحرّكهم لأيّ جهة دون موافقته.
جاءت هذه الحرب الانتقاميّة كجزء من تطبيق عملية تخلّص من وجود وحضور الإنسان الفلسطينيّ مُمثّلاً بمؤسّساته الفكريّة والإبداعيّة والثقافيّة والتراثيّة.
فبدأت آلة الحرب بتدمير الجامعات السّت العاملة في القطاع، ففجّرت مبانيها ونسفت ما فيها من معدات ومختبرات ومكتبات.
كذلك، تمّ نسف عشرات المتاحف القديمة التي انشأها غزيون في قصور (بيوت فخمة) لعائلاتهم من قرون مضت، مثلاً بيت عائلة الشوا الذي وُضع تحت تصرّف المهتمين بالآثار والتراث المادي العمراني.
كذلك تمّت إبادة مكتبات تراثية، أي مكتبات احتوت على مخطوطات وكتابات ووثائق وصور وخرائط قديمة تمّ جمعها لتكون إرثاً إنسانيّاً يؤكد الحضور الفلسطيني التاريخي الضارب في القدم.
غزّة التي ولدت قبل خمسة آلاف عام ليست مدينة عابرة، بل تحمل تاريخاً حضاريّاً معروفاً من خلال ما كتبه المؤرخون والجغرافيون والرّحالة والآثاريون وغيرهم
ولم تسلم المساجد والكنائس القديمة في المدينة مثل المسجد العمري وكنيسة برفيريوس، ثالث أقدم كنيسة في العالم.
فغزّة التي ولدت قبل خمسة آلاف عام ليست مدينة عابرة، بل تحمل تاريخاً حضاريّاً معروفاً من خلال ما كتبه المؤرخون والجغرافيون والرّحالة والآثاريون وغيرهم، إلى جانب ذاكرة جمعية للمكان حملها أهلها عبر الأزمان.
وتستمر آلة التدمير بمحو المكتبات العامّة التي كانت توفر الزّاد العلميّ والفكريّ والإنسانيّ لأطفال وطلاب غزّة، سواءً استجابة لمتطلبات دراساتهم أم لتنمية قدراتهم ومعارفهم ومهاراتهم المعرفيّة والعلميّة.
وكذلك بتدمير المدارس بما فيها تلك التي تخضع لوكالة غوث اللاجئين "الأونروا"، التي تحمل صفة دولية، والتي تحولت إلى مواقع إيواء للنازحين من أهالي القطاع طلباً للأمن والأمان، إن توفّرا فيها، إذ تعرّض بعض منها لقصف عنيف من طائرات ومدفعيّة الاحتلال.
هذا الفصل الإبادي الذي نفّذته وتنفذه هذه الآلة ليس جديداً. إنّه فصل آخر للفعل ذاته في حرب حزيران عام1967. ففي الجولان مثلاً، دمّرت 150 قرية ومدينة سورية، ولم يبق سوى خمس قرى فقط.
وتمّت إبادتها كلّها بما فيها من مؤسّسات ومدارس ومكتبات وسواها. وكذلك فعلت في النكبة عام 1948.
ففي عام الشؤم هذا، نفّذت المنظّمات العسكريّة الصهيونيّة عمليّات تهجير وطرد وتدمير لم تشهد مثلها فلسطين من قبل، إلّا في عهود المغول والرومان، بل بمقاييس أقل دموية.
ففي نيسان 1948 أقدمت منظمة الهاغاناه العسكريّة الصهيونيّة على سلسلة من العمليّات الحربيّة في مدينة حيفا وغيرها من المدن الفلسطينية.
لكن في حيفا كان المشهد قاسياً، حيث تمّ تنفيذ خطة تحمل اسم "المقص"، انقضّت من خلالها قوّات هذه المنظّمة على الأحياء العربيّة في وادي النسناس والحليصا والبلد التحتا وجوار الميناء ومفترقات الحيّ الألمانيّ مع الجهة الغربية.
ولم تعد أيّ إمكانية لسكان حيفا الفلسطينيين سوى الهرب، مندفعين باتجاه الميناء، حيث كانت تنتظرهم سفن وقوارب وزحافات إنجليزيّة، ولربما عربية، نقلتهم إلى عكا وصور وبور سعيد.
وساهم الإنجليز في دفع الهاربين نحو الميناء من بطش قنابل ومقذوفات الهاغاناه. ويشهد على ذلك عدد من كبار السن الذين قابلناهم على مدى عقود خالية.
ثمّ تمّ تنفيذ عمليّة أخرى في حيفا تحت اسم "تطهير الفصح". إذ صادف في الفترة ذاتها أنْ احتفل اليهود بالفصح العبريّ. وهذا يعني، وفقًا لتقاليدهم الدينيّة، ضرورة إخراج الأواني المنزليّة من مطابخ البيوت وتطهيرها بالماء والنار، ثم إعادتها أو استبدالها بأوان جديدة.
وكم تحمل هذه التسمية من رمزية التطهير العرقيّ للمدينة من سكانها واستبدالهم بآخرين. وهذا ما تمّ فعليّاً، حيث طُرد عام 1948 من 95% من سكان حيفا الأصليين بطرق شتّى.
لكن لم تتوقف العمليّة عند هذا الحدّ، بل قُصفت، من خلال الهجمات على الأحياء العربيّة والمفترقات الرئيسية في المدينة، أجزاء من مدرسة الفرير التابعة لإحدى كنائس المدينة. وهي معروفة بمكانتها ودورها الذي قدّمته لخدمة حقل التربية والتعليم.
كذلك، جرى قنص راهب كان واقفاً على سطح مدرسة السليزيان في شارع الملك جورج الخامس وقُتل على الفور. فأغلقت المدرسة كليًاً.
وقامت عناصر من الهاغاناه بالاستيلاء على مدرسة الجمعيّة الإسلاميّة في حيّ البرج، قريباً من دار بلدية حيفا، ومن ثمّ تحويلها إلى ثكنة عسكريّة. ولا تزال كذلك حتّى يومنا هذا.
وخلال عمليّة هدم الجزء القديم من حيفا، والذي بناه الشيخ ظاهر العمر الزيدانيّ، حاكم الجليل في منتصف القرن الثامن عشر، أتت آلة الهدم تحت إشراف رئيس بلديّة حيفا ومسؤولي الحكومة على الحارات والأسواق القديمة، بما فيها المدارس والمستوصفات الصحية.
من خيمة الماجستير لجامعة ما بقي منها حجر، إلى إنصاف التاريخ، ثمّة طريق طويل. سيسير فيه الفلسطينيون، فيما يبدو، نحو تحقيق حلمهم العادل
تؤكّد حكاية دير ومدرسة الروم الأرثوذكس على ما فعلته آلة التدمير والهدم. فخلال العدوان على أحياء البلدة القديمة من حيفا، قُصف دير ومدرسة الروم الأرثوذكس الملاصقين للكنيسة القديمة وتمّ مسحهما بما احتويا من أثاث ومقدّسات دون أيّ رادع أو وازع.
بل ذهبت المؤسسة البلديّة، ومعها الحكوميّة، إلى جعل أرض الدير والمدرسة جزءًا من الشارع الذي تمّ شقه لربط الجهتين الشرقيّة والغربيّة من المدينة.
أمّا المؤسّسات الثقافيّة، كصالات السينما والمسرح، فقد هُدم ما وُجد منها في الجزء القديم من حيفا، نعني البلدة القديمة.
في حين هُدم ما تبقّى مع مرور الزمن، لصالح إنشاء أبراج سكنيّة وتجاريّة أخفت معالم تلك المؤسسات، فلم يعد لها أيّ ذكر على أرض الواقع.
الآلة نفسها تحتل وتدمّر وتمحو وتستبدل. إنّها على ما يبدو مبرمجة لتطبيق الاستعمار الحديث المدعوم فكريّاً من نصوص وكتابات توراتيّة تجيز لهذه الآلة أن تفعل ما تريده دون عقاب أو حساب أو محاكمة. بل تنجح بالفلتان من العقاب.
والسؤال هنا، هل سيتم فتح ملفات الحرب على غزّة دون ربطها بملفات عام 1948؟ ملفات 1948 هي أساس القضية، فكيف لنا أن نتصور ملايين من الفلسطينيين اللاجئين والنازحين عن 531 قرية ومدينة، دون أن يُنصفهم التاريخ في الحدّ الأدنى؟
أسئلة كثيرة تجول في رأس كلّ فلسطينيّ داخل فلسطين وخارجها. ومنها أسئلة مشروعة، علينا ألا نتجاوزها في ظلّ هذه الأزمة، بل النكبة الأخرى.
أسئلة وجودية تدفع بنا إلى التفكير في المستقبل المتعلق بوطننا وأرضنا ومصيرنا.
من خيمة الماجستير لجامعة ما بقي منها حجر، إلى إنصاف التاريخ، ثمّة طريق طويل. سيسير فيه الفلسطينيون، فيما يبدو، نحو تحقيق حلمهم العادل بوطن يستحقونه أرضاً وسماءً وبحراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 14 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
Ahmad Tanany -
منذ 19 ساعةتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
Ahmad Tanany -
منذ 19 ساعةتلخيص دسم
Ahmad Tanany -
منذ 19 ساعةتلخيص دسم
Husband let me know -
منذ يومينهلا
Husband let me know -
منذ يومينهلا