في قرية المجيدل في الجليل الأسفل، ولدت جدتي هَنا. وفي يوم ولادتها، سُجل اسمها في سجل الولادات في كنيسة القرية.
يقال أنه في يوم ما، دخلت امرأة من القرية الكنيسة وسرقت السجل الذي كان هناك، ومعه سُرق تاريخ ولادة جدتي.
كانت جدتي تقول إن تسجيل تاريخ ولادتها للمرة الثانية كان خطأً. فقد سُجل ميلادها بتاريخ 21 أيار/ مايو 1929. في حين تقول هي، مستشهدةً بكلام والدتها، إنها ولدت في "سبت لعازر" عام 1930. وهو ذكرى قيامة لعازر، صديق المسيح، من قبره.
أما أختها البكر، فتقول إنها حقاً ولدت في "سبت لعازر"، لكن في عام 1929.
كل ربيع، كان السؤال يعود من جديد، متى ولدت جدتي؟
وكل ربيع، كنا نبحر في المواعيد والأرقام والأعياد والأحداث ونتوه فيها، حتى نرسو في الميناء الواحد والوحيد: عيد جدتي في الربيع.
أنا ايضاً ولدت في الربيع. 65 أو 66 ربيعاً بعد ولادة جدتي. ولدت بعد احتلال المجيدل وكنائسها ومساجدها وسجلاتها وولاداتها وقبورها. ولدت بعد النكبة والنكسة ويوم الأرض والانتفاضة الأولى واتفاقية أوسلو. فأنا، خلافاً لجدتي، لا أعرف فلسطين.
ولدت في عالم يترقب ”النهاية القريبة“، وتتكاثر فيه الشاشات، ويكبر فيه مستنقع السوق الحر بسرعة تليق بالرجال الذين، حسب كلام أبي، ”لا نراهم على الشاشات“.
ولدت في عالم تكثر فيه المعلومات، عالم نقيض لذاك التي ولدت فيه جدتي. فأنا أعرف أن سنة ولادتي هي 1995، وشهر ولادتي هو أيار، ويوم ولادتي هو التاسع عشر، وساعة ولادتي هي 11:55 ليلاً. خمس دقائق فقط قبل دخول اليوم التالي.
طولي لدى ولادتي كان 65 سم، ووزني 4 كيلوغرامات ومئتي غرام. وأعرف ايضاً أن مخاض الولادة استمر 24 ساعة متواصلة، قبل أن يقرر الطبيب أن يخرجني إلى العالم بعملية قيصرية.
أمي تقول إنه كان من الصعب علي أن أخرج من رحمها بسبب حجمي ووزني. فيما أجد نفسي الآن، في أيار 2024، وبعد أن شهدت ستة شهور من الإبادة في غزة، أردد في ذهني عنوان مجموعة قصصية لغسان كنفاني "عالم ليس لنا". كأنني بها أجد منطقاً كبيراً في فكرة أنني في أيار 1995، كنت أعلم إلى أي عالم سأخرج. فأردت أن أطيل مدة بقائي في رحم أمي قدر ما استطعت.
”عالم ليس لنا“. لكن في هذا العالم وُجدتْ جدتي. كان اسمها هَنا. اسم علم مؤنث عربي مشتق من كلمة هناء، ويحمل معناه السعادة والفرح والسرور.
كانت هَنا تجمعنا في بيتها كل جمعة. في طفولتي، كان بيت جدتي أيام الجمعة، بالنسبة إليّ، عالماً واسعاً وشيقاً ومليئاً بالمغامرات والناس والمفاجآت.
ومهما مرت السنوات وتبدلت الظروف، كانت هنالك أغراض ثابتة في بيتها. أغراض لن تتغير ولن تتزحزح من مكانها. أراحني هذا الثبات.
رأس لينين مثلاً، يجلس في رف محفور في أعلى الحائط في غرفة الصالون. خريطة العالم الممتدة على حائط بجانب مدخل غرفة نوم جدتي. ثريّا البيت المصنوعة من الكريستال. الأرجوحة المكسوة بشرشف مورّد على الشرفة المطلة على الشارع الرئيسي الذي يسمى ”طريق شفاعمرو“. الطاولة الخشبية التي كنا نجلس حولها وقت الغداء.
في ربيع 1948، وتحديداً في ١٥ أيار/ مايو، انسحب الجيش الإنجليزي وسُلمت البلاد للمستعمر الصهيوني وأغلقت الحدود. لم تتمكن جدتي من العودة إلى بيرزيت لإنهاء دراستها، وبقيت حقيبة الكتب تحت السرير
كل جمعة، كنا نفتح الطاولة ليكبر حجمها وتتسع لنا جميعاً. تجلس جدتي على رأس الطاولة. وجدي بجانبها. وبعد وفاته، جلست جدتي وحدها إلى رأس الطاولة، مشرفة على كل الوجوه والصحون.
كنا، بجلوسنا وحديثنا ونقاشنا ومشاركتنا للأخبار، نخلق فوضى من الأصوات والحركات والمشاعر والأفكار. وكنت أنا، أخشى كل جمعة، من جديد، من فقدان هذه الفوضى. فهل يعيش الحبّ دون الخوف من فقدانه؟
وسط فوضانا المحببة هذه، كانت جدتي هَنا تسرق لحظة لتسأل بصوت عالٍ: ”الكل صابب كاس؟“ فتتعاظم الفوضى والجلبة، ونهم جميعاً، كباراً وصغاراً بصبّ الكأس.
كانت هَنا، رغم أي ظرف يحيط بنا، تجد دائماً سبباً كي ترفع لأجله الكأس. وكان ذلك بنظري انتصاراً أسبوعياً على العالم، انتصاراً تحققه هي، وتدفعنا لنحققه معها. كان انتصاراً على كل ظرف قاس، كان شخصياً أم جمعياً، سواءً مس حياتنا أفراداً، عائلةً، بلداً أم بلاداً.
ولدت جدتي، ابنة فلسطين، في المجيدل. ثم انتقلت مع والديها وإخوتها إلى الناصرة، ليدرسوا في مدارسها. كانوا يقضون أوقاتهم بين الناصرة، مكان التعليم، والمجيدل، حيث البيت والأرض.
"كان عنا بالمجيدل أرض فيها تين وصبر وزيتون. بيوم وليلة صاروا اليهود ييجو يقعدو فيها". كانت جدتي هَنا ووالدتها نعيمة تحاولان الوصول إلى الأرض قبل مجيء المستوطنين كي تحميانها.
كان ذلك في السنة التي سبقت انتقال جدتي من الجليل إلى بيرزيت.
خلال أحداث النكبة والاستعمار الصهيوني للبلاد عام 1948، كانت جدتي طالبة في كلية بيرزيت. وصفت لنا مراراً كيف جاء أخوها خليل يوماً ما إلى الكلية بشكل مفاجئ. وقال لها إن الوضع في البلاد يحتدم وإنها من المفضل أن تعود إلى بيتهم في الناصرة حتى مرور هذه الأزمة.
تحدثت جدتي دائماً عن حقيبة الكتب التي جاءت بها من بيرزيت إلى البيت في الناصرة، وكيف وضعتها تحت السرير، وانتظرت طويلاً اليوم الذي ستُخرج فيه الحقيبة وتكمل دراستها مع رفيقاتها في بيرزيت. لكن في ربيع 1948، وتحديداً في ١٥ أيار/ مايو، انسحب الجيش الإنجليزي وسُلمت البلاد للمستعمر الصهيوني وأغلقت الحدود. لم تتمكن جدتي من العودة إلى بيرزيت لإنهاء دراستها، وبقيت حقيبة الكتب تحت السرير.
بعد عودتها إلى الناصرة من بيرزيت، نشطت جدتي في حركة النهضة النسائية ونشطت مع أخيها خليل في الحزب الشيوعي. وهناك، خلال اجتماعات الحزب، تعرفت إلى حبيبها ورفيقها، جدي لطفي.
رحل جدي عندما كنت في العاشرة. لم أخض معه المحادثات ولم أعرف صوته قبل أن ينهكه المرض. لكني ورثت بعض ملامحه وكتبه الماركسية وحبه للأرض. فتعرفت إليه بعد رحيله، ومن خلال كلام جدتي هَنا.
أحبّت الكلام عن الماضي الجميل، عن أيام بيرزيت، عن أشجار المشمش التي كانت تسرق منها الثمار مع صديقتها في الكلية، عن إعجابها بجدي لطفي من أول نظرة.
وكانت عاشقة للموسيقى والغناء، فشاركت في تأسيس جوقة الطليعة عام 1949. ومن خلالها، تعرفتُ إلى أجمل الأناشيد والأغاني الوطنية، مثل نشيد العودة ونشيد النهضة النسائيّة وأغنية "يا طالعين الجبل".
خلال زيارتي لها في المستشفى مطلع كانون الثاني/ يناير الماضي، دخلت العاملة الاجتماعية غرفة جدتي وسألتها: "كيف حالك اليوم؟". فأجابتها: "مشكلتي إنه ذاكرتي منيحة. وهاد اللي هون بعده بشتغل منيح"، مؤشرة بإصبعها على رأسها.
لم تفهم العاملة الاجتماعية ما الذي تعنيه جدتي، لكني فهمتُ. ثم سألت العاملة المرتبكة: "طيب هاد إشي منيح! لي بتقولي إنه مشكلة؟" فأجابت جدتي: "لأني بضلني أفكّر بغزة كل الوقت".
هذا الربيع، لن تستمر جدتي في أن تكون شاهدة على أحداث هذه الأرض. ولن تفكر أكثر في غزة. لن تحدثنا عن المجيدل ولا عن بيرزيت ولا عن فلسطين التي عرفتها ولن نعرفها نحن
هذا الربيع، لن تستمر جدتي في أن تكون شاهدة على أحداث هذه الأرض. ولن تفكر أكثر في غزة.
لن تحدثنا عن المجيدل ولا عن بيرزيت ولا عن فلسطين التي عرفتها ولن نعرفها نحن. ولن تسألنا إذا "الكل صابب كاس".
رحلت هَنا في نفس الشهر، يوم 22 كانون الثاني/ يناير 2024.
رحلت في الشتاء، وها أتى الربيع، يحمل ولادتها وولادتي، يحمل النكبة وسبت لعازر ويوم القيامة وشقائق النعمان ومسيرة العودة، يحمل غزة بعد نصف سنة من الإبادة، ويحمل اسئلة سترافقنا نحن الأحياء / الباقون، الشاهدون على ربيع آخر في هذه الأرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.