شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عن

عن "حلاوة الإسلام" في رسائل الشيخ دراز

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والخطاب الديني

السبت 18 مايو 202409:52 ص

"كنت في الرابعة عشرة عندما بدأت رحلتي الروحية للبحث عن الله، وقتذاك، تابعت تفسيراً للشيخ الشعراوي حول بعض المسائل التي تخص المرأة، لم أستطع هضم تلك التفسيرات أو التجاوب معها، لأنها بالنسبة لي، كانت تتعارض مع القيم الأساسية للقرآن؛ وهي العدل والإحسان، ثم تعرفت من زميلتي على كتابات د. دراز، لأجد ضالتي وليطمئن قلبي".

هكذا تحكي د. ملكي الشرماني، أستاذة مشاركة للدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة هلسينكي، عن بداية معرفتها بدكتور محمد عبد الله دراز، في الفيلم الوثائقي" رسائل الشيخ دراز" الذي يتناول حياته، والذي حصل على جائزتين في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في شهر أبريل/نيسان.

بعد سنين من وفاته، تميط نهى الخولي، ابنة حفيدة الشيخ محمد عبد الله دراز، اللثام عن مذكراته، وخطاباته، وصوره، لتعرض لنا سردية مختلفة عن الإسلام، جوهرها القبول والتجديد، خلافاً لما تعودنا عليه من بعض الشيوخ الذين يحتفون دوما بالجمود والتهديد. 

تقول ماجي مرجان، مخرجة الفيلم لرصيف22: "كنت في زيارة لنهى الخولي، ورأيت صور أجدادها، مع رسائل قديمة كتبتها بنات الشيخ دراز له. الصور والرسائل، وقصص نهى والكتاب الذي أعطتني إياه السيدة سامية عن جدها الشيخ دراز، لفت نظري لقصة ثرية يجب أن تُروى".

ماجي مرجان هي مخرجة مصرية، وأستاذة سينما في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، قامت بإخراج عدة أفلام منها: "عشم 2013"، و"من وإلى مير 2021" الذي حصل على جائزة أفضل فيلم مصري في مهرجان أسوان السينمائي الدولي 2021، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في المهرجان الوطني للسينما 2021، وجائزة أحمد بكري في مهرجان القدس السينمائي الدولي 2021.

حياة ثرية وملهمة

وُلد الشيخ دراز في قرية محلة دياي مركز دسوق بكفر الشيخ بمصر، عام 1894، لعائلة أزهرية، وحفظ القرآن كاملًا في سن العاشرة، ثم انتقل إلى الإسكندرية، حيث اختار الإمام محمد عبده والده الشيخ عبد الله دراز ليؤسس فرع لجامعة الأزهر هناك. تخرج عام 1916، ثم ذهب لتدريس الدراسات القرآنية في الأزهر، وفي عام 1936، سافر في بعثة للدراسة في جامعة السوربون بفرنسا، حيث درس الفلسفة، وتاريخ الأديان، وعلم النفس، والأخلاق، ثم كتب رسالتيه للحصول على الدكتوراه. 

بعد سنين من وفاته، تميط نهى الخولي، ابنة حفيدة الشيخ محمد عبد الله دراز، اللثام عن مذكراته، وخطاباته، وصوره، لتعرض لنا سردية مختلفة عن الإسلام، جوهرها القبول والتجديد، خلافاً لما تعودنا عليه من بعض الشيوخ الذين يحتفون دوما بالجمود والتهديد

ناقش الشيخ دراز الرسالتين عام 1947، وحصل على الدكتوراه بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، وعند عودته إلى القاهرة عام 1948، عمل الشيخ دراز بالتدريس في جامعتي الأزهر والقاهرة حتى وفاته بشكل مفاجئ في باكستان خلال تمثيله للأزهر في المؤتمر الإسلامي الدولي بلاهور بباكستان عام 1958.

يأخذنا الفيلم لحقبة زمنية مختلفة، حينما كان التواصل بالخطابات المكتوبة بخط اليد، والتوثيق عبر قصاصات الصحف، والموسيقى تأتي من الفونوغراف، ثم يعود بنا إلى الحاضر لنستمع إلى شهادات وذكريات عائلته وتلاميذه. كذلك يتنقل الفيلم بين شوارع باريس حيث عاش الشيخ مع زوجته وعشرة من الأبناء (خمسة إناث وخمسة ذكور)، والقاهرة، ومسقط رأسه، محلة دياي بمحافظة كفر الشيخ.

دستور الأخلاق الذي عاشه دراز وكتب عنه

تدور كواليس الفيلم في أجواء عائلية دافئة، يشعر فيها المشاهد بالقرب من هذه العائلة المترابطة، والتي تشبه العديد من العائلات المصرية، دون الشعور بأننا نشاهد سرداً لحياة أحد الشيوخ، وبدون أية محاضرات دينية. 

يأخذنا الفيلم الذي يتناول حياته لحقبة زمنية مختلفة بين شوارع باريس حيث عاش الشيخ مع عائلته، وبين القاهرة، ومسقط رأسه، محلة دياي بمحافظة كفر الشيخ.

برأيي، كانت هذه هي أهم نقاط القوة للفيلم، إذ لم يقع في فخ الوعظ الديني أو الوعظ المضاد الذي يكرر علينا ما حفظناه عن أهمية التجديد في الدين وخطأ المناهج المتشددة، بل على النقيض من ذلك، قام الفيلم بالتركيز على الحياة الشخصية للشيخ، والتي قالت كل شيء.

تشرح مرجان: "كنت أتمنى أن يُظهر الفيلم كيف عاش بدلًا من التركيز على ماذا كتب، فهناك الكثيرون يكتبون أشياء لا يعيشونها، كما أن هناك الكثير من الكتب تُنسى مع مرور الوقت، لكن بذور المبادئ والأخلاق والتعايش السلمي للدكتور دراز، هو إرث متجدد يعيش بيننا".

وتضيف: "لو نظرنا للأشخاص الذين علمونا في المدرسة أو الجامعة، نجد أننا لا نتذكر كلام الكتب، لكن حتماً نتذكر كيف عاملونا ولمسوا قلوبنا. وهكذا أيضا مع دكتور دراز، فمثلاً لمسني بشدة اهتمامه الشديد برسالته، حتى أنه كان يأخذها معه إلى المخابئ أثناء الغارات، وقول أحد أبنائه: لم يحاول أبي أن يكون ليبرالياً لكنه كان مؤمناً أن هذه هي مبادئ الإسلام نفسه".

يتضح للمشاهد منذ الوهلة الأولى، أن الشيخ دراز لم يكن شيخا تقليدياً، حيث لا ترتدي أي من بناته أو حفيداته للحجاب، كما لا ترتديه زوجته في الصور التي عرضها الفيلم، لكن نرى بوضوح أن جميعهن محتشمات.

كذلك، قام الشيخ بتعليم بناته جميعاً في الجامعة، مثل أشقائهن، كما كان ينصحهن بشغل الوقت في تعلم مهارات عديدة مثل تعلم العزف على البيانو وغيرها، كما شجع زوجته على تعلم اللغة الفرنسية.

وبسؤال أبنائه وحفيداته "هل أنتم أسرة أزهرية؟"، تنوعت الإجابات بين: "تقصدين أننا يجب أن نكون ملتزمات بالحجاب؟" و"نعم، نحن أسرة أزهرية، فالعائلة بها العديد ممن درسوا بالأزهر، وكانت أمنية الشيخ أن يدرس أحد أبنائه بالأزهر."، و"احنا تربيتنا إسلامية أه، نعمل الخير، منعملش الشر".

أن تكون طرفاً في الحضارة ولست خصماً لها

هذا وقد حصد الفيلم جائزة رشيدة عبد السلام، جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وجائزة الاتحاد الأوروبي لأحسن فيلم أورو متوسطي يتناول قضايا المرأة.

توضح مرجان: "الجوائز في مهرجان أسوان ليست للفيلم الذي يطرح قضايا حقوق المرأة أكثر من غيره، ولكن يشترط المهرجان أن تكون مخرجة الفيلم امرأة ليدخل مسابقة المهرجان أو أن يكون موضوعه نسوياً". 

يستضيف الفيلم شاباً تشبع بأفكار متشددة في مقتبل حياته، ومن ثم، رفض مهنة والده الذي كان يعمل بالنحت، فنصحه أحد أصدقائه بالقراءة لبعض المفكرين من بينهم الشيخ دراز، وقتها فهم أن الإيمان لا يتعارض مع الجمال، ومن ثم شعر بالراحة والحرية

لا شك أن رحلة الشيخ كانت ثرية جداً، حيث ألهم العديد من المفكرين بكتاباته، وبشكل خاص، "دستور الأخلاق في القرآن" و"العالم الأخلاقي للقرآن" كما أثرت في الشباب الذين وجدوا ضالتهم بعد أن أرهقتهم التفاسير الجامدة المتحجرة لدين جاء بالعلم والتجديد!!

تكررت في الفيلم عبارات يمكن أن نعتبرها مفتاحية لفهم متسع للإسلام، مثل الضمير، العدل والمساواة، العقيدة والفضيلة، مما يجعلنا نتساءل عن كمية الصراخ والعويل حول موضوعات مثل الحجاب واللحية، ومظاهر التدين الشكلي التي ضاع فيها عمر الكثير من الشباب.

يستضيف الفيلم شاباً تشبع بأفكار متشددة في مقتبل حياته، ومن ثم، رفض مهنة والده الذي كان يعمل بالنحت، فنصحه أحد أصدقائه بالقراءة لبعض المفكرين من بينهم الشيخ دراز، وقتها فهم أن الإيمان لا يتعارض مع الجمال، ومن ثم شعر بالراحة والحرية.

هذا وقد استطاع دراز الجمع بين ثقافتين، فلم يكن في خصومة أو عداوة مع الحضارة الغربية، بل كان ينتمي لها ويكتب بلغتها.

يتعامل دراز مع النفس البشرية على أنها تلقت في تكوينها الأول الإحساس بالخير والشر، وزودها رب العالمين ببصيرة أخلاقية، ومن ثم، فالله يحبنا ولا ينتظر اقترافنا للخطأ ليعذبنا، ولا يمكن لبشر أن يتنبأ بمن سيدخل الجنة أو النار، سواء المسلمين أو أتباع العقائد الأخرى. 

استطاع الشيخ دراز أن يجمع بين ثقافتين، فلم يكن في خصومة أو عداوة مع الحضارة الغربية، بل كان ينتمي لها ويكتب بلغتها.

تقول د. أميرة أبو طالب، حاصلة على الدكتوراه من كلية العلوم الدينية بجامعة هلسينكي: "نعلم جميعاً أن القرآن كتاب هداية، لكن د. دراز كان أول من أسس لفكرة الوصول للهداية من خلال دراسة منهجية لأخلاق القرآن، نتلمس فيها حكمة الله".

وتضيف أن النسويات المسلمات استخدمن هذا المنطلق بعد ذلك، وركزن على المفهوم الأخلاقي للأحكام، ونظرة القرآن الكلية لموضوع بعينه، كالزواج مثلاً، حيث قمن بجمع كل آيات الزواج ثم قراءتها بشكل كلي لفهم العظة الأخلاقية فيها، وهو ما يعطي أمل بالوصول للعدل والمساواة من داخل القرآن ذاته.

خلال فترة إقامته في مصر بعد عودته من باريس، شارك دراز في العديد من الهيئات، حيث كان عضواً في اللجنة العليا لسياسات التعليم، والمجلس الأعلى للإذاعة، واللجنة الاستشارية الثقافية بالأزهر. كذلك قام بتمثيل الأزهر في مؤتمرات دولية، علمية ودينية. هذا وقد تم ترشيحه لمنصب الإمام الأكبر، لكن الشيخ رفض، حيث شعر أن حرية التصرف له كشيخ للأزهر لن تكون مكفولة.

يعرض لنا الفيلم كيف يمكن أن يعيش المؤمن حياة طبيعية، فيمارس الرياضة ويسمع الموسيقى ويحتفي بكل ما به خير وجمال، دون الشعور بالخزي أو بالصراع الداخلي. كذلك، رأينا الاحتفاء بالتنوع ودعم اختيارات الغير، بدلاً من التصميم على إعادة إنتاج نسخاً مكررة منا، أو كما قال دراز: "محاولة فرض دين واحد هو ضد سنة الله في الوجود".

تختم مرجان، "لقد عشت معظم حياتي في مصر، لكن دراز كان جزءاً من مصر التي لم أعرفها قط. تذكرني عائلته بالمكان الذي أتينا منه، وربما يؤثر وجودهم على الوجهة التي نتجه إليها، ربما حان الوقت لأروي حكايات المصريين التي نفخر بها كثيراً." 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image