شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
جامعاتنا الحديثة وأزمة التجديد الديني في المجتمعات العربية

جامعاتنا الحديثة وأزمة التجديد الديني في المجتمعات العربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتنوّع

الخميس 20 أبريل 202307:36 ص

مرّ ألف وأربعمئة عام هجري على مقتل علي بن أبي طالب (661م-40هـ)، ولكن مَن ينظر إلى ساحات صراعات المسلمين الآن، يتصوّر أن هذه القرون لم تغيّر شيئاً تقريباً، وكأن الزمن لا يتحرك، أو بتعبير أدق، وكأن زمن وعي المسلمين بالتاريخ ووقائعه لم يتحرك، فيتصارع المتصارعون على نفس القضايا، بل وبنفس الحجج الماضية.

والاختلاف الوحيد هو "حداثة" وسائل وأدوات وساحات الصراعات بل الخناقات. فبعد ما يزيد عن قرنين تقريباً من محاولات التجديد الديني بأشكاله ومراحله التقليدية في القرن الثامن عشر، أو في أشكاله الناتجة عن تحديات غزوات الحداثة الغربية العسكرية، أو تحدياتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، خلال القرن ونصف القرن الماضيين، بل وبعد ما يزيد عن قرن تقريباً من تأسيس جامعات "مدنية" و"حديثة" في بلاد المسلمين، ما زالت ثمار هذا التجديد ضعيفة وجزئية، بل وجافة، إذ استطاع ويستطيع خطاب التقليد أن يُهمشها، ويحتويها.

خطابات التجديد عند المسلمين

فما هي أزمة خطاب أو خطابات التجديد الديني عند المسلمين؟ وبالتحديد لماذا فشلت جامعتنا "الحديثة" في تحويل الدين إلى موضوع للفهم والدرس العلمي، يتجاوز الصراعات والسجالات بين فرق ومذاهب المسلمين؟

شاه ولي الله الدهلوي

كانت حركات التجديد في القرن الثامن عشر، في نجد مع محمد بن عبد الوهاب (1703- 1791) والهند مع شاه ولي الله الدهلوي (1703-1762) ومن بعدهما في اليمن مع محمد الشوكاني (1759-1839)، وفي العراق مع أبي الثناء الألوسي (1803-1854)، هي رد فعل على التغيّرات التي شهدتها مجتمعات المسلمين من ضعف وتفكك اجتماعي في القرون السابقة.

شاه ولي الله الدهلوي إحدى صفحات كتاب «الفوز الكبير في أصول التفسير» بالفارسية مترجم للعربية.

وكان رد الفعل هذا نوعاً من التمرّد على التقليد المذهبي الذي أصبحت فيه مذاهب المسلمين في الفقه وفي المعتقدات بمثابة قلاع، يدافع عنها أتباعها ضد مذاهب المسلمين الأخرى، وأصبح التقليد داخل المذهب الواحد لأئمة المذهب بمثابة دين يُتديّن به، فتجمدت المذاهب فكرياً.

وكانت ردود الفعل المذكورة هي مواجهة لهذا التجمد بمحاربة "البدع" التي دخلت على الدين، وبالعودة إلى الدين "الأصلي"، دين ما قبل المذاهب التي أصبحت هي ذاتها الدين، والعودة إلى الأدلة النصية المباشرة من نصوص ومن مرويات منسوبة إلى النبي والصحابة والتابعين الذين هم الأجدر على فهم الرسالة، والتخلص من كل القواعد الفكرية وتراتب الأدلة وتراكيبها التي وضعتها مذاهب المسلمين، فخلقت "بدعاً" و"ضلالات" وحرَّفت في دين الله، دين الفطرة، ببساطته، التي كان عليها النبي وصحابته وتابعيهم، عبر رفض قواعد التفكير الفقهي المذهبية، واستخدام "فقه الدليل" النصي المباشر.

كشف الشبهات للمؤلف الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، وقامت وزارة الشؤون الإسلامية السعودية بترجمته إلى اللغة الأردية.

حاول محمد بن عبد الوهاب التواصل مع الجذر القديم الذي كان يتمرد على المذهبية سواء من نصوصية الإمام أحمد بن حنبل (780-855)، أو التأسيس الفكري والعقدي الذي قام به ابن تيمية (1263-1328) وتلميذه ابن قيم الجوزية (1292-1350)، لكنه تحالف مع الأمير لتُفرض هذه التصورات بالقوة، فيتم الاستقرار بالعودة إلى "الشريعة" وعقوباتها، بقوة أمير حازم، يحارب البدعة الدينية بقوة السيف.

من هنا، كان التعدي على العتبات الشيعية وعلى أضرحة ومقامات الصوفية يجري بـ"دليل" نصي من المرويات المنسوبة للنبي والتي تعكس طبيعة الحياة البدوية في الحجاز في القرن السابع الميلادي والتي لم تختلف كثيراً عن الحياة في نجد في القرن الثامن عشر.

"بالرغم من أن الحداثة هي في لبها حركة ضد التقليد، فإن التحديث عندنا أصبح تقليداً، ما جعل حركتنا تصير تحديثاً بلا حداثة، وتجديدنا عبارة عن تجاور بين بنيتين تُكبّل كل منهما حركة الأخرى"

وربما لطبيعة الحياة الثقافية وتراثها في الهند الذي يختلف عن الحياة في نجد، كان رد فعل شاه ولي الله الدهلوي على التحدي مختلفاً، إذ كان يشيع التصوف ويشيع المذهب الحنفي وتوجد أديان أخرى غير الأديان المنصوص عليها في المصحف.

ورغم أن الدهلوي اختصر الإسلام في "الشريعة" كما فعل ابن عبد الوهاب، ونظر إليها كأداة ضبط وربط لمواجهة التفكك الاجتماعي، ومحاربة التغيّرات الاجتماعية على أنها "البدع"، بل واعتمد كذلك على النصوص مباشرة، فإن هذه الجهود في القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر لم تقع تحت ضغط خطر تحدي الحداثة الغربية بعد، فكانت عودتها إلى الأصول بمحاربة "البدعة".

ابن حزم الأندلسي

في هذا الإطار يتم استدعاء خطاب ابن حزم الأندلسي (994-1064)، في كتابه "المُحلى"، في محاولة للخروج من التقليد المذهبي الفقهي، ويستدعي آخرون مقاصد إبراهيم الشاطبي (1320-1388) للخروج من ضيق أصول الفقه التقليدي والسعي وراء المقاصد والمصلحة، في القرن العشرين، وما زالت هذه الجهود مستمرة.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبح الخطر الغربي وتحديه الحضاري مباشراً وواضحاً، وجاثماً من خلال السيطرة الغربية المباشرة وغير المباشرة عبر النفوذ الغربي وعبر عمليات الاحتلال العسكري المباشر. وتجلى عجز الإجابات المبثوثة في كتب التراث ومقالات وآراء السلف أمام خطر الحداثة وفتنتها، وأمام التحدي الثقافي للتيارات الفكرية الغربية، فكان تيار الإصلاح الديني بكل روافده، يحاول مقاومة جمود التقليد، بالعودة إلى السلف الصالح أيضاً، مثل سابقيه، ولكن السلف هنا كان السلف وقت تأسيس العلوم في ثقافات المسلمين أيضاً وليس سلف الصحابة والتابعين وتابعيهم فقط.

وحاول هذا التيار أيضاً تحديث الفكر الديني عند المسلمين بشكل يواكب العصر، وفي نفس الوقت يقاوم خطر الاستعمار الغربي، سواء مقاومة سياسية، عبر السعي إلى وحدة المسلمين سياسياً، سنّة وشيعة، كما سعى السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني (1838-1897)، أو عبر مقاومة التقليد والغرب عبر التربية والتعليم وتحديث الفكر وتقديم فهم جديد للنصوص القديمة يتوافق مع منتجات العلوم الأوروبية الحديثة، كما في كتابات محمد عبده (1849-1905) وأحمد خان في الهند (1817-1898).

نشأة المؤسسات التعليمية الحديثة

نتيجة لاهتمام تيار الإصلاح الديني بالتعليم والتربية، ونتيجة لشبه الفشل في تحديث مؤسسات التعليم الدينية التقليدية، مثل التعليم في الجامع الأزهر، كان الاتجاه نحو إنشاء مؤسسات تعليمية حديثة، تواكب العصر، ولا تقتصر على المسلمين فقط، بل تكون جامعة، وطنية، وغايتها العلم، مثل مدارس أوروبا وجامعاتها.

ورغم أن جامعات أوروبا والغرب العريقة كانت في ذاتها مدارس دينية تدافع عن دين أو عن مذهب أو عن معتقدات طائفة دينية، فالسوربون كانت مدرسة تدافع عن الكاثوليكية ضد البروتستانتية، وهارفارد مسماة باسم واعظ ديني وظل خريجوها مكتسحين للوعظ الديني في ولاية "ماساتشوستس"، و"ييل" كانت مدرسة مخصصة للدراسات الدينية فقط، تماماً مثل مدارسنا الدينية التراثية، إلا أن هذه المدارس الدينية المنشأ، تحوّلت إلى دراسة الدين كموضوع للدرس العلمي النقدي، واستطاعت الحداثة أن تتولد من داخلها، فانتقلت من الدفاع عن دين أو عن معتقدات طائفة ما ضد الطوائف الأخرى وضد الأديان الأخرى إلى أن تُصبح دراسة الدين فيها دراسة من أجل الفهم والاستيعاب، بل ولم يعد الدين فيها هو مصدر المعرفة ومورد العلوم، بل أصبح موضوعاً للمعرفة ومادة للبحث النقدي، وليس مجرد جدل وسجال دفاعاً عن العقيدة الصحيحة ضد خصوم من أديان أخرى ومعتقدات "باطلة".

ورغم أن الحداثة هي فعل تجاوز من داخل هذه المؤسسات الدينية، التراثية، الغربية، فإن التحديث عندنا، تقريباً ترك القديم على حاله، ولم يحاول تحديثه، وأقام بجواره مساراً موازياً، ننقل من خلاله تجربة التحديث الأوروبية، نقل نموذج كامل، سابق، لتصبح الحركة في وعينا حركة بين متجاورين: القديم الموروث والحديث المنقول، ويصبح التحديث عبارة عن نقل وتقليد.

"حين تمت عمليات التحديث لمدارسنا الدينية التقليدية في القرن العشرين وتحوّلت من مجرد جامع، أو حوزة تقليدية، لأن تصبح جامع وجامعة ومرجعيات دينية، ظلت البنية التقليدية القديمة كما هي وتم طلاء سطحها بزركشات ونقوش حديثة"

وبالرغم من أن الحداثة هي في لبها حركة ضد التقليد، فإن التحديث عندنا أصبح تقليداً، ما جعل حركتنا تصير تحديثاً بلا حداثة، وتجديدنا عبارة عن تجاور بين بنيتين تُكبّل كل منهما حركة الأخرى. فتقريباً لم تتكون حركة في الوعي ولم يحدث في مدارسنا التراثية أو الحديثة التجاوز المعرفي الذي حدث داخل مدارس الغرب الدينية ليجعلها جامعات حديثة، عبر "قتل القديم فهماً ودرساً" لتجاوزه من داخله وتجليه داخل وعينا العام.

فإذا كانت مدارسنا الدينية التقليدية في الزيتونة في تونس أو الأزهر في مصر أو القرويين في المغرب أو النجف في العراق، أو قم في إيران وغيرها عبر بلاد المسلمين، مدارس قامت لنشر مذهب معين في المعتقدات أو في الفقه والدفاع عنه، على أنه مذهب أهل الحق، فإنها لا زالت، مع كل المسوح التي وضعتها لتدريس المذاهب الأخرى، تدرس الأخيرة لتثبت وتجادل بأن تعاليمها هي تمثل دين الحق ودين الوسطية، ضد الآراء والأفكار والمعتقدات "الشاذة" أو "المنحرفة" أو "الضالة" التي تمثلها المذاهب الأخرى.

وأضافت هذه المدارس في العصر الحديث الدفاع عن مذاهبها ضد الغزو الثقافي لتيارات التفكير الغربية، مثل الليبرالية والعلمانية والديمقراطية والماركسية والبنيوية والوجودية، إلخ، والتي تعاملت معها مدارسنا الدينية التقليدية على أنها مجرد صور أخرى من انحرافات فرق المسلمين التراثية التي ستتعدى السبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة هي الفرقة الناجية، بل بدأت تكوّن أيديولوجية "إسلامية" في مواجهة هذه التيارات الغربية "الغازية"، لتكون "الأسلمة" في مواجهة "التغريب".

كان لتركيز تيار الإصلاح الديني على التوفيق عبر التجاور بين الحداثة ومنتجاتها وخصوصاً في مجال علوم دراسة الكون ودراسة الحياة عليه، وفكرة النظم الاجتماعية الحديثة وخصوصاً القانون والنظم السياسية، وبين تراثنا الفكري والفقهي منه تحديداً أن تم التركيز على مسائل الفقه في المعاملات، ومحاولة تجاوزها، دون التعامل نقدياً مع الأسس الفكرية التي قامت عليها المذاهب في أصول الفقه وفي أصول الدين أو بتعبير تراثي تم التركيز على نقد "الفروع" ومسائلها وليس نقد "الأصول" وإعادة النظر فيها.

تجنّب تيار الإصلاح الديني مراجعة ونقد الأصول الفكرية التي قامت عليها المذهبية، وركّز فقط على التجديد في فروع المذاهب، في المسائل العملية المباشرة والجزئية، عبر استخدام ثنائيات يدور بين رحاها التفكير مثل "الثابت والمتغير"، "الشريعة والفقه" أو "الدين والفكر الديني" أو "المنهج والمسائل" أو "الأصالة والمعاصرة"، إلخ.

هذه الثنائيات كل هدفها هو محاولة التوفيق بين المتباينات والمتناقضات عبر مجرد التجاور بين العناصر، ليتحول التوفيق إلى مجرد تلفيق يستطيع عبره تيار السلفية والتقليد أن يوسع نفوذه ويأكل مساحات التجديد.

فتيار التقليد يتقوقع في معنى واحد لا ثنائية فيه وهو أن الدين ثابت وواحد لا متغير فيه، والواقع هو الذي يجب أن يخضع لهذا الدين الثابت الشامل المطلق الأبدي بل ويخضع بالقوة، ويصبح أي تغير شهدته المجتمعات هو بدعة وضلالة وانحراف عن "صحيح الدين"، كما كان أيام النبي والصحابة والتابعين قبل أن يتلوث نقاؤه بما عند الفرس والهنود واليونانيين من القدماء وبما عند الغربيين وغزوهم الثقافي في عصورنا الحديثة.

ثنائية القديم والحديث في جامعتنا "الحديثة"

قامت جامعتنا "الحديثة" على الثنائية المتجاورة بين القديم والحديث، لكن رسّخ من تأثيرها أن التحديث قام على نقل النموذج السابق الجاهز، سواء أكان نقلاً عن الآخر الأوروبي أو عن أسلافنا.

كذلك، قامت جامعتنا الحديثة كمؤسسات في أغلبها بدوافع تحديثية من السلطة، حين أرادت أن تنقل ثمار الحداثة المادية من نظم دولة تضبط حركة المجتمع، ولذلك أضيف إليها، عدا المتباينات والمتناقضات التي قام عليها خطاب النهضة وخطاب الإصلاح الديني بعده، نوع من التسلط المعرفي، لتصبح المؤسسة التحديثية التي أتت لإخراج مشروع النهضة من أزمته هي ذاتها ممثل ونموذج للأزمة ولتعيد إنتاج التجاور والتوفيق، وفرضه عبر معرفة القوة وليس قوة المعرفة.

هذه الازدواجيات جعلت حضور التراث بشكل عام، والديني منه بشكل خاص، وكذلك حضور السياسة وحضور الآخر، كموضوعات للدرس علمياً داخل هذه الجامعات، نقاط التهاب، تنفجر بين حين وآخر.

جامعتنا "المدنية الحديثة" لم تستطع أن تتجاوز حالة العجز التي كان عليها تيار الإصلاح الديني بتركيزه على الفروع وتعامله على استحياء مع الأصول، وفي كل مرة حاولت ولو على الهامش لمس هذه الأصول نقدياً، ظهرت قضايا الالتهاب وكانت المعارك الفكرية.

بل إن الجامعة كانت تدرس التراث حتى الفكري والتاريخي منه بالاحتفاء به احتفاء أقرب إلى التمجيد. وكان الاتجاه النقدي فيها على استحياء، وإنْ كان قد تجلى في مجالات التراث اللغوي والفقهي قليلاً، ففي مجال الفكر الديني وخصوصاً المعتقدات تكاد تكون الرؤية النقدية لا تُرى تماماً. بل أصبحت هذه الجامعات مع توسعها مُنتجة لدوغما التصورات القديمة على أنها "المعلوم من الدين بالضرورة"، ومدافعة عن "دين الوسطية" ضد المفرِّطين والمُفرِطين، مثلها مثل مدارسنا الدينية التقليدية، بل وبصورة أكثر تشدداً، في محاولة لإثبات أنها مدارس ليست ضد الدين.

وحين تمت عمليات التحديث لمدارسنا الدينية التقليدية في القرن العشرين وتحوّلت من مجرد جامع، أو حوزة تقليدية، لأن تصبح جامع وجامعة ومرجعيات دينية، بإنشاء كليات "لأصول الدين" أو "للشريعة والقانون" أو للغة العربية، ظلت البنية التقليدية القديمة كما هي وتم طلاء سطحها بزركشات ونقوش حديثة.

فحين تم إنشاء كليات عملية تطبيقية لدراسة الطب والهندسة والزراعة، إلخ، تجاورت ثلاثة أبنية تُكبل كل منها الأخرى، وتُقصِيها، فيدخل أستاذ يُحاضر ويشرح حتمية قانون الحركة بين الأجسام، من خلال علاقات سببية بين الظواهر، ويدخل بعده أستاذ يشرح مذاهب الفلسفة الحديثة وأهمية الفلسفة والمنطق، ثم يدخل أستاذ "العقيدة" أو "التوحيد" ليلغي ما قاله الأستاذان السابقان، ويقول إنه لا موجود سوى الله، ولا فاعل في الكون سوى الله، وإنه ليس هناك علاقة بين سبب ومسبب، بل هي علاقة كسبية على سبيل ما تعودنا عليه، لكن المسبب هو الله.

ثم يدخل أستاذ آخر بعد كل هؤلاء ويشرح مذهب المعتزلة والشيعة الجعفرية والإباضية والشيعة الزيدية كمذاهب لفرق مسلمين، وأستاذ الفكر الفلسفي الحديث يتحدث عن الوجودية والوضعية المنطقية والبنيوية... ويدخل أستاذ التوحيد ليقول للطالب إن كل هذه فرق شاذة وضالة ومنحرفة عن دين الوسطية الذي كان عليه النبي والصحابة، ومن المهم مواجهة هذا الإفراط وذاك التفريط، ويحذره من الباطنية الإسماعيلية، ليخرج الطالب بعد المحاضرات ليتنزّه في حديقة أغاخان بجوار الأزهر التي بنتها مؤسسة أغاخان الشيعية الإسماعيلية المعاصرة.

هذا التجاور تجده في البلد الذي مذهبه جعفري ويُنص على تبني المذهب الفقهي ذاته في دستور البلاد، وفي البلد الذي مذهبه إباضي. وإنْ كانت الحاجة في مجال القوانين قد جعلت الخروج عن أسر مذهب فقهي واحد وفرضت الأخذ بمذهب مقارن أو عدم التقيد بمذهب واحد في التقنين، أو الخروج عن ذلك بالتركيز على "مقاصد الشريعة" وعلى "المصالح المرعية"، فإن المعتقدات وأصولها ظلت ساحة يتم الاقتراب منها على استحياء.

ولم نستطع أن نتعرض لأصول المعتقدات بدرس علمي نقدي، درس لا ينطلق من الدفاع عن المذهب "الحق" و"الصحيح" ضد المذاهب الأخرى "الباطلة أو الضالة"، بل درس ينطلق من فهم معتقدات الآخرين حسب منطق مذاهبم بدون أن نكتفي كما نفعل دائماً بمجرد إصدار حكم قيمي بالصحة أو الخطأ، بل درس من أجل فهم واستيعاب وتمثل تمكننا من تجاوز المذهبية من داخلها معرفياً، بقتلها فهماً واستيعاباً، وهذا حديث آخر.

إن قرناً ونصف القرن من عمليات التجديد الفقهي ومن الإصلاح الديني، وقرناً على إنشاء جامعات "مدنية حديثة" وما يقرب من قرن من عمليات تحديث المدارس والمعاهد الدينية التراثية، بل وما يقرب من قرن من مساعي التقريب بين مذاهب المسلمين، ومثلها من جهود للحوار بين الأديان، لم تنتج عنها سوى جهود ضعيفة الثمار.

وأتصور أنها لن تُثمر ثماراً تؤثر في واقعنا، بدون الدرس العلمي النقدي للأصول نفسها، وإلا ستظل حركتنا حركة في المحل. فكيف لنا أن نجدد في فهم نصوص المصحف دون التعرض لطبقات التصورات والمعتقدات المنسوجة حول القرآن عبر العصور، من قدِمه أو حدوثه، ومن علاقة الله بالعالم، وطبيعة الوحي، ومن علاقة اللغة بتصوراتنا عن أنفسنا وعن الوجود وعن نشأة وأصل اللغة وكيف تعمل وهل هي مواضعة من البشر وكائن حي يعكس تصورات الجماعات البشرية، أم هي أصل سابق من الله والعلاقة فيها بين اللفظ والمعنى علاقة أوقفها الله؟

أو كيف نُجذِّر فكرة القانون، أو المسؤولية الفردية وفكرة الحقوق المدنية، دون التعرّض لفاعلية الإنسان وقدرته على خلق أفعاله ليصبح مسؤولاً عنها؟ وكيف نبني علماً عن الكون وعن الحياة فيه أو عن الإنسان، أو علوماً في الاجتماع البشري أو في السياسة، على بنية من التصورات ليس للإنسان فيها فاعلية، وليس لظواهر الكون فيها قانون أو حتمية سوى الفاعلية الإلهية التي ليس لحدِّها حدود، ولو حتى من داخلها؟

فهل يمكن أن يكون مرور أربعة عشر قرناً على مقتل علي بن أبي طالب وعلى تحزب الأحزاب مناسبة لإعادة النظر في هذه الأبنية وتصوراتها وأصولها وكونها تصورات لاهوتية أكثر مما هي تصورات مبنية على أسس علمية ومعرفية؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image