حدث في صيف 2007، الحصة الدرسية الأخيرة في مدرستي الابتدائية، جلّ ما أتذكره حول فحوى الحصة أنها كانت من مادة التربية الدينية الإسلامية، لأنني أتذكّر شكل الآنسة التي كانت شابةً في بداية زواجها، اختصاصها كان "مادة الرسم"، وأُلصِقت بها مادة "الديانة"، أو كما نُسميها "الإسلامية"، لكي تُكمل نصابها من الساعات الدرسيّة، وربما لأنّ عدد خرّيجي الشريعة كان قليلاً في الساحل، في قريةٍ هانئة ووادعة يُخيم عليها السحر والملل في آنٍ واحد، ترفع الصور والأعلام، وتُحيي أعراسها الوطنية بصخبٍ ناعم، وتمارس حقها الانتخابيّ.
أما أنا، فكل ما كان يشغل بالي حينها هو حفظ الدروس وكتابة الوظائف في أسرع وقتٍ ممكن كي يتسنى لي لعب الكرة مع الأصدقاء، يأتي علي فينتظرني لتكمل أمّي "التسميع" ولا تسمح لي بالخروج إلا بعد أن أُعيد كل جملةٍ أخطأتُ في كتابتها.
تكمل الآنسة شرح الدرس، وأكمل أنا بخيالاتي. لا علاقة لي بما يحدث من حولي، غارقٌ في عالمٍ أصنعه بنفسي لا علاقة لأحدٍ به، أنا فيه الحاكم والمُحيي والمميت وصاحب الزمان والمكان، أنا فيه "القائد الخالد" والسيد الرئيس معاً.
تكمل الآنسة شرح الدرس، وأكمل أنا بخيالاتي. لا علاقة لي بما يحدث من حولي. غارقٌ في عالمٍ أصنعه بنفسي لا علاقة لأحدٍ به، أنا فيه الحاكم والمُحيي والمميت وصاحب الزمان والمكان، أنا فيه "القائد الخالد" والسيد الرئيس معاً
محاولة بريئة لقتل الملل
في حصة الديانة تلك، "نكلَني" علي صديقي وشريكي في "الطابة" والمقعد الخشبي الذي يُقرقع كلما تحرّكنا قليلاً، فتح "المفكرة" التي كانت بيننا، وأخذ يُقلب بالصور التي تكون في بدايتها ونهايتها بغرض التسلية وقتل الملل. بانت صورة كُتب تحتها "القائد الخالد حافظ الأسد" على اليمين (من جهتي أنا) وأخرى "سيادة الرئيس الدكتور بشار الأسد" على اليسار(من جهته)، استلّينا أقلامنا وبدأنا نرسمُ على الصورتين، كانت صورة الأب أقرب إليّ فاستلمتُها، والابن أقرب لعلي، لكنه كان يتعدّى على لوحتي فيضيف قُروناً وأحمر شفاه وبودرة خدود ودموعاً ويَزيد تحديد العينين، فعاملتُه بالمثل وتعدّيتُ على لوحته فأضفتُ الذقن الطويلة والشوارب المعقوفة ونظّاراتٍ هزليةٍ وأنياباً تنزل منها قطرات الدم.
كانت الحالة مُفرطة في البراءة لطفلين بعمر 11 عاماً، وجدا تسلية لقتل الوقت، ولأنّ قتل الوقت لا يتناغم مع فكرة الخلود والقائد الخالد؛ الذي يقتضي في حالٍ من الأحوال إيقاف عجلة الزمن عنده بحيث لا تتحرّك إلا إذا تحرّك، استنهض الأخير من قبره -الذي لطالما قيل أنه لا يزال يحكم منه- رُعبَ الآنسة، حين غاظها انشغالنا بشغفٍ عن الشرح، لكن ما إن وقعَت عيناها على "لوحاتنا" حتى شهقَت شهقةً طويلةً، قطعَتها بوضع راحة يدها على فمها واحمرّ وجهها وانكتم الصف معها لثوان.
كان الصمتُ مرعباً، لذلك استجمعت أنفاسها: "يا قليلين الأدب، يا قليلين الذوق، يا قليلين التربية، لك شو عاملين يخرب بيتكم". كانت الآنسة من الجيل الذي دُرّس التربية العسكرية في المدرسة، حين كانوا يعلمونهم استخدام الأسلحة وفكّها وتركيبها، وعلى ما يبدو أنّ الجيش بتعداده الكبير نسبياً، وخصّه بالنسبة الأكبر من ميزانية البلاد، لم يكن كافياً لاسترجاع الجولان، لذلك استعانوا بطلاب المدارس.
لكنّ التربية العسكرية لم تصلني لحسن الحظ، أذكر أنّ لي صورةً في الصف الأول الابتدائي بالمريول البني الذي تحول للأزرق في الصفوف التالية، انعكس عدم تلقينا أنا وعلي "التربية العسكرية" على "أدائنا الوطني"، حيث أعدنا مرةً صياغة أحد الأناشيد في كتاب القراءة، كان عنوانه "للبعث يا طلائع" يقول: (للبعث يا طلائع/ للنصر يا طلائع/ أقدامنا حقول/ طريقنا مصانع/ وتلمع الرايات/ وتلمع الرايات في مواكب الطلائع...)، فكنا نستبدل كلماته بكلماتٍ ساخرة وأخرى بذيئة بأسماء أعضاء جسم الإنسان، وقد نلنا نصيبنا وقتها من العصي و"البهادل" والتهديد الممزوج بخوف الأستاذ علينا: "والله بتروحو بخبر كان، بياخدوكم انتو وأهاليكم عالسجن".
طبعاً كان الأمر عصياً على فهم طفلين على وشك إتمام العقد الأول في الحياة، رغم إصرار الأساتذة على أننا يجب أن نفهم، أما بالنسبة لنا فقد كانت السخرية تُحقّق لنا المرح والضحك والتسلية، أي السعادة؛ غير مُدركَين لمخاطر هذا النوع من المرح، وربما كان ذلك سبب السعادة، التي تكمن في غياب الوعي حول المخاطر المحتملة.
"بكرا بيكبر وبيصير إرهابي" و"بكرا بيكبر وبيصير شبيح"... هذا العبث لا يصلح سوى لتوريث الأحقاد التي تُذكي هذه النار التي لا تزال تحرقنا جميعاً
ديليما أخلاقية
ولم تتوقف سخريتنا على نشيد طلائع البعث، بل شمل أكثر الأناشيد ترديداً "النشيد الوطني، حماة الديار عليكم سلام"، فكثيراً ما كُنا نستبدل كلماته مع الحفاظ على اللحن، لكنّ ذلك للأمانة لم يُثر حفيظة الأساتذة كما فعلت السخرية على نشيد البعث، فيما تفوّق الرسم على صور الأب والابن بدرجاتٍ كبيرةٍ على الحالتين السابقتين، إذ شهقَت المعلمة وتوقف الدم في عروقها ووجّهت "عرّيف الصف" باستدعاء مديرة المدرسة التي شاهدت الصورتين، ثمّ تسمّرت في مكانها وجاهدَت لإخفاء رعبها بصبّ جام غضبها علينا.
عندما شعرَت المديرة أنّ الموقف أكبر منها ويفوق طاقتها كامرأةٍ في مجتمعٍ ذكوريّ، وجّهت عريف الصف ثانيةً باستدعاء جميع المعلمين وركّزت على حضور مُعلمَين (من الذكور) كانا قد بقيا في المدرسة صدفةً يحتسيان المتة، وقد بدا على المديرة الارتباك والوقوع في "ديليما" أخلاقيةٍ؛ فهل تُخبر "الأمن" بما حدث لتزيح عن نفسها المسؤولية وهي في الوقت نفسه تخاف إيذاء طفلَين لا يعرفان عن السياسة ولا عن الحياة شيئاً، ينتظران بفارغ الصبر جرس المدرسة للانطلاق راكضَين في الهواء الطلق.
وحتى لو لم يُصابا بأذى، فإنّ مجرد التبليغ يعني خسارتها لسمعتها واحترامها كمعلمة ومربية "وشَت" بطفلين من أبناء بيئتها ومعارفها، ولكن ماذا لو تكتمت على الأمر ووصلت الحادثة بطريقةٍ أو بأخرى إلى الجهات المعنية، حينها قد تؤذي نفسها وربما تتعرّض للمساءلة، لذلك فإنها على ما يبدو اختارَت الحل الوسط، بأن تستدعي جميع المعلمين وخاصةً الذكور، ليشاركوها مسؤولية أيّ قرارٍ يجري اتخاذه، وبعد التهديد الممزوج بالخوف، انتقل الخوف إلينا هذه المرة على عكس المرات السابقة، وتعرّفت للمرة الأولى على حافظ الأسد ولو من بعيدٍ ومن خلال صورة، رغم أننا لم نفهم لماذا أحدث الرسم عليها في مفكرتي الشخصية هذه البلبلة والاجتماع الموسّع والتهديد والترهيب والوعيد.
يحكم من سلة مهملات
وبعد انتهاء حفلة التوبيخ التي لم تتحوّل لحسن الحظ إلى حفلة ضرب، لكنها زخرَت بالتندّر على أيام التربية العسكرية: "هالجيل فلَت وصار قليل أدب وما بيتحكّى بعد ما لغوا 'الفتوّة' من المدارس"، وللعلم سيقفون -ووقفوا- وقفة التندّر والحسرة ذاتها على أيام "الفتوة" في بداية الأزمة، وحمّلوا إلغاءها مسؤولية اندلاع المظاهرات والتمرد على "الدولة"، لكنّ معظمهم سيعرف -وعرف- بعد انتهاء العمليات العسكرية والتجييش والخوف والتخويف والصخب والشعبوية التي رافقتها أنّ إلغاء الفتوّة لم يكن سبب الثورة، وللأسف الشديد فقد عادوا من المسيرات دون أولادهم فيما عاد المتظاهرون فلم يجدوا بيوتهم، ومنهم من لم يعد ومنهم من لا يزال يحلم بذلك.
بالعودة إلى غرفة الصف، طلبَت المديرة بعد التشاور تمزيق الصورة ووضعها في سلة المهملات. مزقتُ الصورتين بسرعة وذهبتُ نحو السلة، فاستوقفَتني بلطف الخائف: "مزّقها إلى أجزاء أصغر، بحيث يتعذر التعرف عليها"، فالخوف المزمن يتحول إلى رهابٍ حقيقيّ، ويبدو أنّ الرجل يحكم من القبر فعلاً لا مبالغة، ويحكم من سلة مهملات في أحد الصفوف، في مدرسة صغيرة في آخر قرية في ريف بعيد منسيّ من كلّ شيء، إلا من الخوف والقمع.
لم يؤرّق التهكم بنشيدَي "حماة الديار" و"طلائع البعث" بالَ إدارة المدرسة، إذ أثار التهكم بالأوّل بعض النصائح وبالثاني النقد وشيئاً من التخويف، لكنّ زلزالاً حدث حين اقترب قلمٌ من صورة الخالد وصورة ابنه، في ترجمة واضحة للخطوط الحمر التي تحكم بها السلطة مجتمعَها، إذ يُمكن شتم "الوطن" دون مشاكل تذكر، وانتقاد البعث قد يمرّ وقد لا يمرّ، بحسب الحالة والظرف، لكنها ليست الخطيئة الأكبر، أما انتقاد "الرئيس" فهو الذنب الذي لا يُغتفر ولا يستطيع صاحبه التطهّر منه، ولا وجود لمسيرة تكفيرٍ عنه، فالبعث أهم من الوطن، أمّا القائد فهو ما لا يجوز فتح أي بابٍ لمقارنته، القائد هو البعث والوطن وكل ما يمكن أن يخطر في بال ديكتاتور.
الخوف المزمن يتحول إلى رهابٍ حقيقيّ، ويبدو أنّ الرجل يحكم من القبر فعلاً لا مبالغة، ويحكم من سلة مهملات في أحد الصفوف، في مدرسة صغيرة في آخر قرية في ريف بعيد منسيّ من كلّ شيء، إلا من الخوف والقمع
عن حظي، وحظوظ أطفال آخرين
أثار اعتقال طفلٍ في التاسعة من عمره بعد ضربه وتعنيفه، من قبل مدير المدرسة في قرية مرج القطا في حمص، ذكرياتي هذه، وأشعرني بخوفٍ تجاوز خوفي ذلك اليوم، وبالحظ في الوقت نفسه. وربما شعر مدير المدرسة بالديليما نفسها، لكنّ الزمن قد تغيّر، والخوف أصبح خوفين... ثلاثة... مئة، ورائحة الدم والبارود والجثث المتفحمة والمتفسخة والإخفاء القسريّ لا تزال قريبة، ولم تأخذ الوقت الكافي لكي تغيب عن الذاكرة والعواطف والأفكار والسلوك والتصرفات.
وسألتُ نفسي: كم طفلاً لم ينجُ من هذه المقصلة، وكم نحتاج لنحيد الأطفال عن الصراعات والحروب؟ فإن لم يكن لدينا أملٌ على المدى القريب بإنهاء الحرب والصراعات المتفرّعة عنها، دعونا نُخرج الأطفال من حسابات الحرب، بصفتهم كائنات ضعيفة تحمل صكوك براءتها في لحمها الغضّ، دعونا نتفق أنّ عباراتٍ مثل "بكرا بيكبر وبيصير إرهابي" و"بكرا بيكبر وبيصير شبيح"، ليست صحيحة ولا منطقية ولا يمكن لأحدٍ أن يقرأ الغيب ويقرّر أن يُحيي من يشاء ويقتل من يشاء. إنّ هذا العبث لا يصلح سوى لتوريث الأحقاد التي تُذكي هذه النار التي لا تزال تحرقنا جميعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.