شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
نحن من جعلناهم وحوشاً

نحن من جعلناهم وحوشاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والطفولة

الأربعاء 8 مايو 202411:06 ص

"شَخَت أخته عالبلّوعة"... ما زالت هذه العبارة ترنّ في أذني منذ ثلاثين عاماً، كلما سمعت أن فتاةً تحب شاباً وأهلها لا يعجبهم هذا الحب.

"شَخَتَ" في لغتنا الدارجة تعني ذبح أو نحر كما تذبح الشاة، و"البلّوعة" هي فتحة لتصريف المياه في المنازل، والقصد من ذبحها على فتحة التصريف هذه هو عدم تدنيس أرض المنزل بدمائها النتنة.

كنت في العاشرة من عمري عندما وقعت هذه الحادثة في حينا، تناقلت النساء الأحاديث عن الشاب البطل الذي غسل عار عائلته بذبحه لشقيقته التي تزوّجت من تحب دون رضا أهلها.

فرخة بكشك

تنظر إليّ الجارات وينظر إليّ زوجي نظرة لائم، لأنني تركت ابني وحيداً دون أن أنجب له أخاً ذكراً يشدّ عضده فيه.

في عالمنا العربي يسمى الولد الوحيد وحيداً إذا كان لا إخوة ذكور لديه، حتى لو كان له عشر  أخوات، إلا أنه وحيد في عرفنا الاجتماعي القاصر، وغالباً، لا بل دائماً، ما يعامل هذا الوحيد على أنه "فرخة بكشك"، كما يقول المصريون، في دلالة على تمييز الولد وتفضيله على أخواته.

في عالمنا العربي، يسمى الولد الوحيد وحيداً إذا كان لا إخوة ذكور لديه، حتى لو كان له عشر  أخوات، إلا أنه وحيد في عرفنا الاجتماعي القاصر، وغالباً، لا بل دائماً، ما يعامل هذا الوحيد على أنه "فرخة بكشك"

نشأنا هنا مقتنعين بأننا ننجب ذكوراً كي يصبحوا امتداداً لنا في هذه الحياة، ليحملوا أسماءنا ويورثوها لأبنائهم من بعدهم، وكأن الأرض لا تقوم إلا بذكرنا. ننجب ذكوراً كي نصنع منهم رجالاً يعينونا عندما نصل أرذل العمر بعضلاتهم المفتولة، ولا ندري غالباً الوصفة الصحيحة لصنع هؤلاء الرجال، فنحولهم وحوشاً يستلذون أكلنا وأكل أخواتهم من بعدنا.

أنجبناهم ثم أعطيناهم القوامة على من حولهم، فمن جعل الرجال قوامين على النساء، وما معنى هذه العبارة؟

هذه العبارة التي شطّها ومطّها الذكوريون لتتناسب مع هيمنتهم على أقاربهم من النساء، فقد جاء في القرآن: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، والقوامة تعني في اللغة المحافظة والحماية والرعاية والإشراف، وفسّر الإسلام المعتدل معنى القوامة على الزوجة بصيانتها ورعايتها والإنفاق عليها والمحافظة على مشاعرها وعواطفها وجسدها وأولادها وبيتها، إلا أن الكثير من الموتورين حولوا هذه القوامة إلى كبر واستعلاء وتعنيف وتحقير وإذلال وضرب وإهانة لمن يخصّهم من النساء، سواء كانت زوجةً أو أختاً أو ابنة.

في محاولة مني لكسر نمطية هذا المجتمع وخوفاً من تلك القصة التي تعشش في ذاكرتي حاولت دائماً أن أعامل الصبي كما أعامل الفتاتين، متساوين في الحقوق والواجبات، يحترمهما كما يحترمني ويحنو عليهما كما سيحنو على ابنته في المستقبل.

لنمعن النظر في ماضينا اذا أردنا أن ننجو بهم

في الكتاب الذي أحدث ضجة كبيرة إثر صدوره "الكتاب الذي تتمنى لو قرأه أبواك وسيكون أطفالك سعداء لأنك قرأته"، تقول فيليبيا بيري: "إن العائق الأكبر يمكن أن يتمثل في ما قدمه لنا أهلنا عندما كنا أطفالاً وأولاداً، وإن لم نتمعن في طريقة تنشئتنا وإرث التربية الذي نحمله معنا فسوف يعود هذا الإرث للانتقام منا".

لطالما كنت أنبّه زوجي كلما قسا على أطفالنا: "لا نريد أن نربيهم كما ربونا أهلنا"، وأقصد بذلك التعنّت الزائد في بعض المواقف حيث لا لزوم له.

منعني والداي من زيارة صديقاتي في منازلهن إلى أن بلغت السابعة عشرة، عندها سمحا لي بزيارات قصيرة يحدّد وقتها بالساعة، وينتظرني توبيخ قاس وحرمان من رؤيتهن اذا ما تجاوزت هذه الساعة، في محاولة لحمايتي من وحوش قد تسكن منازلهن أو من سمعة سيئة تلاحق الفتاة التي تكثر الخروج من منزل أهلها.

عندما طلبت منا ابنتنا البكر الإذن للذهاب في أولى رحلاتها المدرسية، تذكرت كمية التضرعات والتوسلات والواسطات التي كنت أقدمها لوالدي ليسمحا لي بالذهاب في الرحلة السنوية التي تقيمها المدرسة، لكنني في لحظة لتغيير الموروث حيدت خوفي جانباً وسمحت لها أن تبدأ في اكتشاف الحياة خارج أسوار المنزل.

تقول بيري أيضاً: "التفكير في المشاعر التي كانت تغمرك عندما كنت في سن طفلك سوف يساعدك في التماهي مع مشاعر أطفالك، ما يعينك على فهمهم والتعاطف معهم عندما يتصرفون بطريقة تدفعك إلى إبعادهم عنك".

لطالما تذكرت تلك المشاعر التي كانت تعتريني كلما مررت بمواقف مماثلة مع أطفالي، قبل أن تصدر بيري كتابها بعقود.

ترى بيري أننا من خلال الهيمنة على الطفل فإننا نعلمه الهيمنة وفي ذلك من الدقة الكثير، فالأطفال لا يفعلون ما نقوله لهم، بل يقلدون ما نفعله نحن، لذلك قبل أن ننظر في سلوك أطفالنا من المفيد _ والضروري حتى _ أن نبحث عن قدواتهم الأولى، وأحد هذه القدوات هو نحن.

يمكننا دائماً السعي إلى إصلاح الخلل مهما جاءت محاولاتنا متأخرة، ويتم ذلك من خلال البحث عن المشاعر الكامنة خلف سلوكنا وسلوكهم ومحاولة فهم هذه المشاعر.

ثمة آباء يرون أن صنع رجل من طفلهم يكون بتعليمه القسوة والتسلط والعناد وكبت مشاعره والتظاهر بالقوة والقسوة والعنف، ولا يعلمون أنهم بذلك يصنعون منه وحشاً سيلد وحوشاً أخرى في المستقبل.

أصنع من طفلي رجلاً عندما أعلمه الاعتماد على نفسه ومشاركة مسؤوليات المنزل ومساعدة أخته. أصنع منه رجلاً عندما أعلمه التعبير عن مشاعره وضعفه، كي لا يحولها الكبت إلى عنف وعدوانية، فليس الرجال من لا يبكون وإنما الوحوش القساة فقط.

إذا كنتم بصدد تربية طفل، لا تربوه لأجل الآن، بل ربوه لأجل ما يجب أن يصبح عليه في المستقبل، ربوه ليصبح رجلاً سوياً، فيكفينا ما أنتجنا حتى اليوم من وحوش

يعتقد البعض أن تنشئة طفل قويم يتم بالتعنيف والترهيب والضرب، ويغفلون عن أننا نحن من نغرس في طفلنا العنف عندما نعنفه، ويعتقد هذا البعض أيضاً أن تعليم الطفل إطاعة الأوامر يتم بالقسر والإجبار، ويغفلون أن الطريقة الصحيحة تكون بالمشاركة.

تقول صديقتي منال: "كانت طفلتي ذات طبع متمرد في عمر الثلاث سنوات، لا تستجيب لأوامري، فكنت أَجلس أخاها على مقعد وآمرها أن تحضر له أشياء مختلفة تحت تهديد العصا وسط صراخها وبكائها الشديد، لم أكن أعلم أنني أزرع في داخلها كرهاً دفيناً لي ولأخيها، وأزرع فيه تسلطاً لن ينجو منه أي منا في المستقبل".

في بداية عهدنا بتربية طفل نربيه كما ربتنا أمهاتنا، وكما يربي جيراننا أطفالهم، وكما نشاهد التربية في المسلسلات الاجتماعية، غافلين أن ليس جميع الأطفال في نفس السوية، وليس جميع طرق الأمهات في التربية تصلح مع جميع الأطفال. نقارن قدرات أطفالنا بقدرات غيرهم، ونوبخهم لأن ابن فلان أفضل منهم، في اعتقاد غبي منا أننا نحثّهم على التقدم والنجاح، دون أن ندري أن مقارنتنا هذه تدمرهم وتضع ألف عقدة في شخصياتهم.

لكن، لم يفت الأوان بعد، إذا كنتم بصدد تربية طفل، لا تربوه لأجل الآن بل ربوه لأجل ما يجب أن يصبح عليه في المستقبل، ربوه ليصبح رجلاً سوياً، فيكفينا ما أنتجنا حتى اليوم من وحوش.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نفكر بالأطفال من أجل اليوم والغد

"هيك متعودين. هيك كانوا يعاملونا أهلنا"، وغيرها من الإجابات الجاهزة، تؤدي إلى تفادي التغيير.

المستقبل المشرق، هو أن يعيشوا في أيامنا هذه حياةً سليمةً.

كيف؟

عبر تسليط الضوء على قصصهم، وما يؤثر في حيواتهم، والمطالبة بحقوقهم وحسن تربيتهم.

من خلال التقارير والمقالات والحوارات، يمكن للإعلام أن يدفع نحو تغييرات في السياسات التربوية، وأن يعزز الحوار الاجتماعي حول قضايا الأطفال.

معاً نطرح القضايا الحساسة المتعلقة بسلامتهم النفسية والجسدية والبيئية والمجتمعية.

حين نرفع أطفالنا على أكتافنا، نرى الغد بعيونهم كما لو يكون الآن.

Website by WhiteBeard