إذا كنت تتمشّى داخل مدينة صور البحرية القديمة، وشاهدت حافلة ضخمة تحمل عشرات الأولاد، فهذه في الغالب حافلة المسرح الوطني اللبناني في صور، ومن بداخلها هم أطفال النازحين من القرى الجنوبية الحدودية، الذين أرغموا مع أهاليهم على الخروج من منازلهم إلى المناطق الداخلية الأكثر أمناً ومنها مدينة صور، خوفاً من بطش آلة الحرب الإسرائيلية، إذ مضى على نزوحهم ما يزيد عن الستة أشهر.
الحافلة الكبيرة والتي تحمل صورة الفنان الراحل حسن علاء الدين (شوشو)، وبعض الرسومات التي ترمز إلى المسرح اللبناني، أقلّت منذ بداية الحرب عشرات الأطفال النازحين، في مبادرة أطلقها المسرح الوطني اللبناني في مدينة صور، لاستضافة هؤلاء الأطفال على مدار الأسبوع داخل المسرح حيث أعدت لهم برامج مميزة بهدف التخفيف من معاناتهم واكتشاف مواهبهم.
المسرح فعل مقاوم
مؤسّس المسرح الوطني اللبناني الممثل والمخرج قاسم إسطنبولي أكّد في حديث لرصيف22 بأن المسرح هو فعل مقاوم دائم تجاه أي أزمة أو مشكلة، فكيف إذا كانت حالة حرب؟ فبعد أن تفاقم عدد الأطفال المتواجدين داخل المدارس في منطقة صور وبرج الشمالي، كان من الضروري أخذهم بعيدًا عن هذا الجو، لكي يكونوا في بيئة أفضل.
وينوّه إسطنبولي إلى أن تنظيم رحلة بسيطة تتضمن زيارة للمسرح، تعد وسيلة لتخفيف الضغط النفسي الذي يعاني منه الأطفال ، وتوفر لهم تغييرًا بعد فترة طويلة من النزوح والسكن في المدرسة.
تُقل حافلة كبيرة تحمل صورة الفنان (شوشو) أطفال النازحين إلى المسرح الوطني اللبناني في مدينة صور، ويستضيف المسرح هؤلاء الأطفال على مدار الأسبوع، حيث أعدت لهم برامج مميزة بهدف التخفيف من معاناتهم واكتشاف مواهبهم
بدأ المشروع باستضافة 25 طفل يومياً، وبعد شهرين ارتفع العدد إلى 300 من 5 مدارس مختلفة من مناطق صور وبرج الشمالي والحوش، وجميع هؤلاء الأطفال استفادوا ولا زالوا يستفيدون من الورش التي تقام داخل المسرح.
عندما يصل الأطفال إلى المسرح، يتم تقسيمهم إلى أربع مجموعات، منهم من يذهب إلى المسرح ليتدرب، ومنهم من يذهب إلى قسم الأشغال اليدوية، ومنهم من يشاهد فيلمًا، ومنهم من يتدرب على التصوير.
تشارك مُدرِّسة فنون الحرف اليدوية بهية زيات مع المسرح الوطني في تدريب الأطفال النازحين الذين يزورون المسرح، تتحدث زيات لرصيف22 عن الحالة النفسيّة السيئة التي كان الأطفال يعانون منها عندما التقتهم لأول مرّة، وتعرّفت عليهم.
تقول: "وجدنا الأطفال محاصرين في المدارس، ويعيشون في ظروف صعبة ومحدودة، فلا يخرجون ولا يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، وكذلك يفتقدون لبيئة تعليمية مناسبة، على الرغم من توفير الغذاء والشراب والألعاب لهم، إلا أنهم بحاجة إلى شيء إضافي ليشعروا بالتفاعل، فمجرد أن يصعدوا إلى حافلة المسرح الوطني اللبناني في صور، سيشعروا أنهم في رحلة.
تحسن حالة الأطفال
مع بداية الورش التدريبية كان الأطفال يشعرون بالملل، كونهم ليسوا معتادين على المسرح ولا على الأشغال اليدوية، فبحسب بهية أخذ التحول في ذهنية الأطفال بعض الوقت، وتؤكّد أنّه مع مرور هذا الوقت، بدأ كل فرد يظهر اهتمامًا بالرسم والمسرح والتصوير والأشغال اليدوية، وحدثت تغيّرات كبيرة، وبدأ يظهر أثر التعليم بوضوح على تطورهم، حيث لاحظ المدربون الفرق في سلوك الأطفال وتفاعلهم بين الزيارات المتتالية، وتقول بهيّة: "صار الأطفال ينتظرون وصول باص المسرح بفارغ الصبر وتغمرهم فرحة عارمة، ما كان يدفعنا إلى تشجيعهم ويعطينا جرعة للاستمرار".
بدأ المشروع باستضافة 25 طفل يومياً، وبعد شهرين ارتفع العدد إلى 300 من 5 مدارس مختلفة من مناطق صور وبرج الشمالي والحوش.
بدوره يشير إسطنبولي إلى هذا التطور الكبير الذي حصل على سلوك الأطفال، فبعد مضي شهرين متواصلين معهم لمس تغيّرًا بالنسبة لهم ولأولياء الأمور على حد سواء، لأن الأهل أيضًا يحضرون العروض المسرحية، خاصة أن المسرح يقدم نشاطات تفاعلية تجمع بين المتعة والتعلّم وتعزّز التواصل الاجتماعي.
ويضيف: "هذه الورش تساعد الأطفال على الخروج من الأزمة التي يعيشونها، مما يخفف من آلامهم ويشعرهم بالوجودية، ويتيح لهم التعبير عن طاقاتهم ومواهبهم، كما تمكّنهم من تفريغ الحزن من داخلهم، كما تشكل هذه الورش فرصة للتعارف والتقارب أكثر فيما بين الأطفال، في ظل خطاب الكراهية الذي يفرق المجتمعات في لبنان، نحن نسعى إلى تقريب الناس من بعضهم، ونشعرهم بأننا جميعًا بشر، والحرب على الرغم من صعوباتها، أصبحت وسيلة لتقريبنا أكثر ودفعنا للتكاثف، لأننا في النهاية جميعًا نتشارك نفس الآلام ونحلم بشيء واحد، وهو إنهاء الحرب وعودة الناس إلى منازلهم".
مدرب التصوير الفوتوغرافي حسام خطاب والذي يدرب الأطفال على الكاميرا وأجزائها وكيفية التقاط الصور بطريقة احترافية، يؤكّد لرصيف22 أن الأطفال في البداية لم يتأقلموا كثيراً مع الكاميرا، وكانوا غير متحمسين للتصوير، إذ لم يكونوا يشعرون بالراحة حين يصورهم أحد، وهذا الأمر سبّب مشكلة، وأثّر عليهم وجعلهم يخشون أن تُنقل صورهم بشكل غير لائق، لكن مع الوقت بدأوا يتكيّفوا ويتعلموا، حتى أن بعضهم بدأ يتفوّق ويستمتع بالتصوير، لأنه يريد أن يتّخذ من هذه الهواية مهنة له في المستقبل.
المسرح الوطني مساحة لاكتشاف الطاقات
يسجل لبنان تراجعاً للمسرح بشكل كبير جدًّا، فيما يسعى إسطنبولي وزملاءه في المسرح الوطني لإعادة إحياء المسارح، أقله في المدن، لهذا وجد الأطفال النازحون في المسرح كوكباً جديداً لم يروه من قبل، من هنا يرى إسطنبولي في المسرح حياة، ويقول: "في القرى لا توجد مسارح، لكن الأطفال يحتاجون إلى الفنون، والمدينة التي لا تملك مسرحًا لا تحمل حياةً أو مكانًا للتعبير عن الذات، الأطفال في هذه القرى يمتلكون القدرات والطاقات، وبعضهم يعاني من احتياجات خاصة، لذلك جلبنا فتاتين من ذوي الاحتياجات الخاصة لتندمجا مع الآخرين وتشاركا في التمارين والأنشطة والأعمال اليدوية التي نقوم بها".
ويضيف: "هذا يظهر أهمية أن يكون الفن متاحًا للجميع، وقد وجدنا أن لدى الأطفال مواهب وقدرات، بما في ذلك القدرة على التصوير الفوتوغرافي، وهم بحاجة ملحّة للتعبير والتفريغ نظرًا لما يمرّون به، وعندما تنتهي الحرب ويعودون إلى قراهم، سنظل على اتّصال معهم، لأن التواصل أصبح جزءًا من حياتهم وأصبحوا جزءًا من المسرح الذي بات مثل المنزل بالنسبة لهم، وهو مفتوح لجميع الناس، سواء كانوا لبنانيين أو سوريين أو فلسطينيين، ونحن نسعى جاهدين لتحقيق هذا التنوع في المشاركة".
بدوره أعرب خطاب عن سعادته لأن الأطفال أصبحوا مهتمين بالتصوير، حتى أن أهلهم لمسوا لدى العديد منهم حبهم للتصوير، وشعروا بأن أبناءهم لديهم مواهب لم يكونوا على دراية بها.
يؤكد القيّمون على المبادرة على تمسكّهم بالقيام بهذه المهمّة الصعبة حتى بعد انتهاء الحرب، لأن كل شيء يمكن ترميمه إلا الواقع النفسي للأطفال إذا تهدّم، وهذه مسؤولية كبيرة لن يتخلوا عنها تجاه أجيال من بناة المستقبل كما يقولون
في إحدى جلسات التدريب سأل خطاب الطلاب عن رغبتهم بمتابعة التصوير في المستقبل؟ فالعديد منهم أبدى حماسته، وقد أجابه أحدهم بأنه عندما يكبر يريد أن يصوّر الحروب، فأجابه بأنه بإذن الله لن تكون هناك حروب مجددا، عندها قال التلميذ أريد أن ألتقاط صورًا لقريتي، وأظهر للعالم حجم الدمار الذي تعرّضت له. كما أن العديد من الفتيات أبدين رغبة في إنشاء استيديوهات خاصة لتصوير الناس في بلداتهم بحسبه.
تقصير الدولة والجمعيات الأهلية
من يتابع من كثب أوضاع الجنوب اللبناني خلال الحرب الإسرائيلية الدائرة عليه، يستطيع أن يتلمس تقصير الجمعيات شبه التام عن تقديم المساعدات عن النازحين، وفي هذا السياق تؤكّد الزيات أن الأولاد ليسوا بحاجة فقط للجمعيات التي تأتي لتزورهم وتقدم لهم الطعام والشراب، فهؤلاء الأطفال بحاجة ماسة إلى جمعيات تشجّعهم وتوجّههم، سواء كانت كشفيّة أو اجتماعيّة أو نسائيّة، ويجب أن تكون هذه الجمعيات ملتزمة بتوفير الفرح والمرح لهؤلاء الأطفال، وتنوّه الزيات إلى أن هذه الجمعيات يجب أن تقدّم الدعم النفسي والمعنوي للأهالي والأطفال خلال الحرب وبعد الانتهاء منها.
أما الدولة فهي غائبة بشكل كلّي عن تقديم الدعم اللازم لهؤلاء الأطفال وحتى يسجل غيابها عن تشجيع المبادرات التي تدعم الأطفال النازحين، وفق ما يؤكّده إسطنبولي، الذي لفت إلى تلقي المسرح الدعم فقط من اليونيسيف من قصص أطفال وبعض الحاجيات، آملا أن تتطور هذه المساعدة خاصة مع استمرار الحرب.
غابت الدولة والجمعيات فحضر المسرح الوطني ليسد فراغاً جسيماً له آثاره النفسية على الأطفال النازحين، حيث يأمل القيمون على المبادرة انتهاء الحرب في القريب العاجل، وفي الوقت عينه يؤكدّون تمسكّهم بالقيام بهذه المهمّة الصعبة حتى بعد انتهاء الحرب، لأن كل شيء يمكن ترميمه إلا الواقع النفسي للأطفال إذا تهدّم، وهذه مسؤولية كبيرة لن يتخلوا عنها تجاه أجيال من بناة المستقبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 10 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.