ألقى عبد الله باتيلي، المنشفة بعد أكثر من عام ونصف العام في منصب المبعوث الأممي إلى ليبيا، قضى أغلبها في جولات مكوكية غرباً وشرقاً وجنوباً ووسطاً في محاولة لجمع الأطراف الليبية الرئيسية على طاولة واحدة، للاتفاق على مسار يؤدي إلى انتخابات ديمقراطية. أثارت استقالة الدبلوماسي السنغالي وخروجه من المشهد الليبي العديد من التساؤلات حول أسباب التعثر الأممي المتكرر في حل الأزمة الليبية، ومستقبل العملية السياسية في بلد ينخر الانقسام السياسي في جسده منذ أكثر من عقد.
وعلى عكس الركود السياسي الذي صبغ ولايته، اختار باتيلي خروجاً صاخباً. ففي إحاطته الأخيرة إلى مجلس الأمن الدولي في 15 نيسان/ أبريل الماضي، شنَّ الرجل هجوماً كاسحاً على المسؤولين الليبيين المتصدرين للمشهد السياسي، إذ وصفهم بأنهم "أنانيون، يُغلِّبون مصالحهم الشخصية على مصالح البلاد"، وبدا وكأنه يعزو استقالته إليهم عندما قال إن كل محاولاته "قوبلت بمقاومة عنيدة، ومطالب غير واقعية، وعدم اكتراث لمصلحة الشعب الليبي ورغبة في تأجيل الانتخابات إلى أجل غير معلوم".
وتتقاسم السلطة في ليبيا حكومتان إحداهما في الغرب برئاسة عبدالحميد الدبيبة، أفرزها حوارٌ ليبيٌ رعته الأمم المتحدة في جنيف في عام 2021، وطال بعض المشاركين فيها اتهامات بتلقي رشىً، وأخرى في الشرق برئاسة أسامة حماد، كلّفها مجلس النواب بعدما سحب الثقة من الأولى، وهذه الأخيرة تحظى بدعم قائد القيادة العامة للجيش، المشير خليفة حفتر.
8 مبعوثين لأجل حل لا يأتي
وركزت إحاطة باتيلي - الذي بات ثالث مبعوث أممي يستقيل من منصبه بعد اللبناني غسان سلامة، والسلوفاكي يان كوبيش- على ما للانقسام الليبي من دور في الفشل الأممي المتكرر في ليبيا، لكن الكاتب الليبي أحمد التهامي يضيف إلى ذلك عاملاً آخر يزيد من تعقيد القضية، لافتاً إلى أن الدبلوماسي السنغالي لم يركز عليه بشكلٍ كافٍ.
منذ دشّنت الأمم المتحدة بعثاتها إلى ليبيا، في عام 2011، تزامناً مع الثورة الليبية، تعاقب على رئاستها ثمانية مبعوثين عرب وأفارقة وأوروبيين. استقال ثلاثة منهم، وفشل جميعهم في التوصّل إلى حل للأزمة الليبية… ما سبب هذا الفشل الأممي المتكرر في ليبيا؟ وهل تعني استقالة آخر مبعوث أممي أن لا أمل في إنهاء الصراع هناك؟
يقول التهامي لرصيف22: "الأزمة الليبية هي على مفصل مركب. ثمة انقسام ليبي ليبي يسنده أيضاً انقسام دولي دولي حول ليبيا. هذا الانقسام المزدوج جعل الجمود هو سيد الموقف، فكل طرف وصل إلى حده الأعلى في الجهد السياسي والحربي، وبالتالي أصبحت كل الأطراف تفضل الانتظار حتى تغير الأحوال الدولية".
ومنذ أن دشّنت الأمم المتحدة بعثاتها إلى ليبيا، في عام 2011، تزامناً مع الثورة الليبية، تعاقب على رئاستها ثمانية مبعوثين، بداية بالدبلوماسي الأردني عبد الإله الخطيب، وصولاً إلى السنغالي باتيلي، في محاولات متتالية لإخراج البلاد من حالة الاقتتال والانقسام، التي خيّمت عليها منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي.
وبينما مرّت ولاية أول مبعوثيْن أمميَّيْن إلى ليبيا، الأردني الخطيب، والبريطاني إيان مارتن، بسلام إذ كانا شاهدين على ما بدا في حينه "انتقالاً سلمياً للسلطة" عقب سقوط نظام القذافي، بدأت الأمور تأخذ منحنى آخر، بدايةً من ولاية المبعوث الثالث اللبناني طارق متري إذ تفجّرت الأوضاع في البلاد مع اندلاع عمليّتي "فجر ليبيا" في طرابلس، و"عملية الكرامة" في بنغازي، وساءت أكثر مع أزمة تسليم السلطة بين المؤتمر الوطني والبرلمان في عهد الإسباني برناردينو ليون، رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، الذي خلف متري.
ورغم محاولات ليون والمبعوثين من بعده رأب الشقاق الليبي، باءت جهودهم بالفشل بسبب "خطأ" وقعت فيه المقاربة الأممية لحل الأزمة الليبية، على حد وصف الأكاديمي والسياسي الليبي، الدكتور أحمد العبود.
يقول العبود لرصيف22 إن المقاربة الأممية كانت "خاطئة" في الأساس من حيث ترتيب الأولويات، موضحاً "الأزمة في ليبيا أمنية بامتياز، ولن تُحل دون توحيد المؤسسة العسكرية". ويضيف: "بعد 13 عاماً من تدوير وتدويل الأزمة الليبية، فإن البداية الحقيقية للحل تتمثّل في تنفيذ ترتيبات أمنية تذهب بنا إلى توحيد المؤسسة العسكرية، وفقاً للقوانين العسكرية الليبية. ثم تصفية التشكيلات المسلحة عبر آليات الدمج، ونقل من لا تنطبق عليهم معايير هذا الدمج إلى الحياة المدنية، إضافةً إلى تنفيذ قرارات المجتمع الدولي بشأن إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة، والبدء في ترتيبات أمنية تحقق الأمن والاستقرار".
علاوة على المسار الأمني، يلفت العبود إلى مسار اقتصادي يتمثّل في "ضرورة تضافر الجهود لوضع حدٍ للفساد المالي، وانخفاض قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية، وإيجاد آليات لتوزيع الموارد المالية"، مشدداً على أن المسارين بمثابة "الترتيبات المؤسِّسَة" للبدء في عملية سياسية حقيقية تفضي إلى الانتخابات.
إدارة للأزمة أم لحلها؟
نشأت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بقرار مجلس الأمن رقم "2009" الصادر في 16 أيلول/ سبتمبر 2011، لفترة أوّلية قدرها ثلاثة أشهر، لكن مذاك يجري التمديد لها دورياً. حدّد القرار مهام البعثة الأممية في دعم العملية السياسية في ليبيا عن طريق الوساطة والمساعي الحميدة، إضافة إلى رصد حالة حقوق الإنسان والإبلاغ عنها، ودعم المؤسسات الليبية الرئيسية، والجهود الرامية إلى نزع الأسلحة غير الخاضعة للمراقبة، وتوفير الخدمات الأساسية وتقديم المساعدات الإنسانية، وتنسيق المساعدة الدولية.
وبعيداً عن هذه المهام، يذهب النائب الليبي صالح افحيمة إلى أن "البعثة لم تفشل في ليبيا إذ إنها تؤدي الدور الذي رسمته لها بعض الدول المستفيدة من استمرار الفوضى في البلاد". يقول النائب الليبي لرصيف22: "أصبح من الواضح أن البعثة تسعى إلى إدارة الأزمة وليس إلى حلها، وللأسف سيستمر الأمر كما هو عليه، طالما لم يتخذ الليبيون موقفاً موحداً وحازماً من هذا العبث". ويضيف: "باتيلي جاء لهدف معين، هو بالتأكيد ليس الهدف المعلن، واستقال أيضاً لهدف معين، بعد تعيين الأمريكية ستيفاني خوري نائبة له ليتكرر سيناريو مواطنتها ستيفاني وليامز" التي أوكل إليها تسيير مهام البعثة، بعد استقالة المبعوث الأممي سابقاً، اللبناني غسان سلامة.
"بعد 13 عاماً من تدوير وتدويل الأزمة الليبية، البداية الحقيقية للحل تتمثّل في تنفيذ ترتيبات أمنية تنتهي بتوحيد المؤسسة العسكرية، وفقاً للقوانين العسكرية الليبية. ثم تصفية التشكيلات المسلحة عبر آليات الدمج، ونقل من لا تنطبق عليهم معايير هذا الدمج إلى الحياة المدنية، إضافةً إلى تنفيذ قرارات المجتمع الدولي بشأن إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة، والبدء في ترتيبات أمنية تحقق الأمن والاستقرار"
ومع التسليم بحالة الانقسام الليبية، يحمل المحلل السياسي الليبي، عبد الله الكبير، الأطراف الدولية والإقليمية المسؤولية الأولى عن تعثر الجهود الأممية في ليبيا، معتبراً أن استقالة باتيلي تعكس "فشلاً أممياً" في إيجاد حل للأزمة الليبية، وإنهاء الصراع، ووضع البلاد على طريق الحل السياسي.
يشرح الكبير لرصيف22: "لم يجد باتيلي أي دعم، كان من المفترض أن يكون هو نقطة التقاء المصالح الدولية، لكن بدلاً من ذلك ألقت الصراعات والخلافات الدولية بظلالها على الأزمة الليبية"، محدَّداً أربع صفات ينبغي أن يتحلى بها المبعوث الأممي الجديد لـ"إخراج ليبيا من أزمتها"، وهي: المرونة، والدبلوماسية، والمبادرة إلى طرح مقترحات تراعي مصالح الأطراف كافة، فضلاً عن الحزم في مسألة حقوق الإنسان، وما يتعرض له الليبيون من انتهاكات على يد الميليشيات المسلحة.
خماسية أم سداسية؟
وكان باتيلي قد أطلق، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، مبادرةً لجمع الأطراف الليبية الرئيسية الخمسة على طاولة واحدة، لحل الإشكالات التي تسببت في تعثر إجراء الانتخابات في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021. لكن الفرقاء الليبيين لم يتفقوا على معايير لها. والأطراف الرئيسية هي: رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة، ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وقائد القيادة العامة للجيش المشير خليفة حفتر.
اشترط حفتر إشراك الحكومتين أو استبعادهما معاً من المبادرة الأممية بينما أصر الدبيبة على الانتخابات كشرط لتسليم السلطة. في الأثناء، رفض تكالة قوانين الانتخابات الصادرة عن مجلس النواب لكن الأخير تمسّك بها. في حين لم يدر المنفي أن يكون طرفاً وإن أبدى استعداده لدعم المبادرة، وفق إحاطة باتيلي أمام مجلس الأمن في 15 شباط/ فبراير الماضي.
يرجّح افحيمة عدم انعقاد هذا الاجتماع بعد رحيل باتيلي، وأن تأتي نائبته، خوري، مع "خطتها الخاصة وترتيبات مختلفة لتنفيذها"، بينما يؤكد العبود إمكانية نجاح مثل هذا الاجتماع "شريطةً أن يكون متوازناً، عبر توسيع دائرة المشاركة فيه، لتشمل الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة أسامة حماد".
يذهب الكاتب التهامي إلى أبعد من ذلك إذ يتوقع أن تقود خوري "تفاوضاً سرياً بين أطراف الأزمة الليبية"، ينتهي ربما بصفقة تضمنها الولايات المتحدة بشكل يراعي مصالح كل الأطراف.
"خرس سياسي" وسط مخاوف من "قعقعة السلاح"
ومع تدهور اقتصادي أمني متزايد، وتعثر سياسي مستمر جراء وجود رؤيتين مختلفتين للحل في ليبيا، تدعو أولاهما إلى تشكيل حكومة جديدة وموحدة تتولى التحضير للانتخابات، ويتبناها معسكر الشرق، وتطالب ثانيتها بإجراء الانتخابات بعد إصدار القوانين اللازمة لها، ويتمسك بها معسكر الغرب. وبين هذه وتلك، تزداد المخاوف من انزلاق البلاد مجدداً إلى هاوية الحرب، على شاكلة محاولة قوات القيادة العامة بقيادة حفتر السيطرة على العاصمة طرابلس في 2019.
وهي المخاوف التي عكسها باتيلي في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، حينما حذَّر من تزايد احتمال تقويض السلام والاستقرار، خاصةً في ضوء وجود أطراف مسلحة، وانتشار الأسلحة الثقيلة في الغرب الليبي. واعتبر أن مناورات القوات المسلحة الليبية بالقرب من خط وقف إطلاق النار شرق سرت تشكل "خطراً" على اتفاق وقف إطلاق النار. وقال إن أي تصعيد للتوترات داخل ليبيا، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار، ليس فقط في تشاد والنيجر والسودان، إنما في جميع أنحاء منطقة الساحل.
"ليبيا مرّت بتجارب عديدة ومحاولات كثيرة من كل الأطراف لفرض السيطرة بالقوة، ما أدى إلى صراع تسلّح محلي محموم تدفعه مصالح دول أخرى في كثير الأحيان، وهذا بدوره تسبب بالصدفة في توازن رعب بين جميع الأطراف، يجعلها لا تفكر على الأقل على المدى المنظور في تكرار التجربة"
ولم يستبعد عبد الله الكبير في حديثه إلى رصيف22 الانزلاق إلى العنف في ليبيا، لكن دون أن يتطور إلى حرب واسعة النطاق، مثل الحرب على طرابلس في 2019، لسببين: أولهما يتعلق بعدم رغبة الأطراف الدولية المعنية مثل روسيا والولايات المتحدة وتركيا في شن حرب جديدة في المنطقة، وثانيهما يتعلق بعدم وجود نية لدى الأطراف المحلية أو إمكانات لشن هذه الحرب في ظل توازن القوى الراهن.
في هذا الصدد، يقول افحيمة إن ليبيا مرّت بتجارب عديدة ومحاولات كثيرة من كل الأطراف لفرض السيطرة بالقوة، ما أدى إلى "صراع تسلّح محلي محموم تدفعه مصالح دول أخرى في كثير الأحيان، وهذا بدوره تسبب بالصدفة في توازن رعب بين جميع الأطراف، يجعلها لا تفكر على الأقل على المدى المنظور في تكرار التجربة".
من أين تبدأ خوري؟
وفي ظل التوقعات بقيادة جديدة مؤقتة للبعثة الأممية في ليبيا، يُرجَّح أن تكون لنائبة باتيلي، خوري، يرى العبود أن المسؤولة الأمريكية أمامها فرصة لـ"إعادة ترتيب أوراق البعثة الأممية، عبر تقديم خارطة طريق واضحة، تضمن دعم المجتمع الدولي المنخرط في الملف الليبي، ودعم الأطراف الإقليمية الضامنة التي من صالحها أمن واستقرار الدولة الليبية".
وهو ينصح خوري بتقديم "خارطة طريق متكاملة" تبتعد عن "الغموض غير البنّاء" الذي انتهجه سلفها، و"المغالبة والإقصاء" الذي شهده عهد غسان سلامة ونائبته ستيفاني وليامز، على حد قوله، داعياً إلى تمثيل حقيقي للأحزاب السياسية، والمشايخ والقبائل والأعيان، والشخصيات السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، والقوميات، مثل: التبو والطوارق والأمازيغ.
وليس بعيداً عن هذا الاتجاه، يرى افحيمة أن نجاح خوري يتوقف على مدى جدّيتها في العمل على حل الأزمة. يقول لرصيف22: "إذا كانت جادةً في حلها فيجب عليها أولاً أن تجد مساراً مختلفاً عن ذلك المسار البائس الذي سلكه كل من ترأس البعثة قبلها، ثم عليها إشراك الليبيين بجميع أطيافهم خصوصاً المؤثرة منها وعدم تجاوزهم"، مردفاً "على المبعوث الأممي الجديد أن يستعين بالليبيين في حل الأزمة لا أن يستعين عليهم ويستقوي ببعض الدول من أجل فرض حلول مستهلكة لن تجدي".
وسط كل هذا التعقيد، وسقف التوقعات المنخفض، في إحداث اختراق لحالة الجمود الراهنة، لم يفقد المحلل السياسي، الكبير، الأمل بعد ولا يزال يتمسّك بإمكانية الحل السياسي مع حد أدنى من التوافق الدولي والإقليمي. فهل تشهد ليبيا انفراجة قريبة؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ ساعةتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
Ahmad Tanany -
منذ ساعةتلخيص دسم
Ahmad Tanany -
منذ ساعةتلخيص دسم
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا
مستخدم مجهول -
منذ يومينلا يوجد اله او شئ بعد الموت