كانوا عشرة، أو كانوا عشرين، لا يعلم أحد على وجه الدقة عددهم. كانوا يحتفلون مساء السبت في 17 من شباط/ فبراير، بعودة زميلهم، وصاحبهم، مصعب المختار الضبع المشاي، معافى من علاج خارج البلاد، في حي أبو سليم، جنوب طرابلس، العاصمة الليبية. وفي أثناء الفطور المسائي في مزرعة طرفية، دخل "مجهولون مسلحون" على الآكلين المحتفلين، وقتلوهم جميعاً. والخبر يسمي اثنين من القتلى، مصعب المختار (على اسم الزعيم الليبي الكبير، عمر المختار 1858- 1931، وقائد الثورة الوطنية على الإيطاليين)، الضبع (على مثال أو سنّة تسمية الأبناء بأسماء تكيد "العدى")، والثاني محمد فتحي شنيش.
ويعرِّف الإثنين، ويخرجهما من الإغفال، صاحب نعيهما، وهو "جهاز دعم الاستقرار"، الميليشيا الطرابلسية التي "تنشط" في عاصمة البلد الشاسع شمال أفريقيا، جنباً إلى جنب بضع عشرة ميليشيا مثلها، وتقتسم الخوّات (من علاقة "الأخوة" بين جابي الأجر عن حماية مفروضة وبين مسدد الأجر رغماً عنه) تحت عباءة حكومة "الوحدة"، في عداد حكومات أربع أو خمس تتربّع في سدّة مرحلة انتقالية متجددة المدد والصلاحيات والنزاعات.
و "جهاز دعم الاستقرار" يلم شتاتاً من المسلحين المحترفين، يتقاضون مرتّبات مصدرها عوائد النفط وآباره المنتشرة على ساحل ليبيا المتوسطي، إلى عوائد أخرى أقل إدراراً وانتظاماً. ويجمع الشتات، غالباً، نسبان قبلي ومحلي هما واحد أو متضافران ومتشابكان في المجتمعات الليبية الكبيرة الثلاثة (برقة وطرابلس والفزان). ويصل "الكيان" المسلح بمصدر رزقه، وبيت ماله، عَلَم عليه هو اسم زعيمه أو عقيده (والعقيد في القبيلة العربية هو عقيد الغزو، أي من يُعقد له لواء الإغارة على قبيلة أخرى، أو واحة، أو "قرية" محصنة عليها أمير).
ولواء "جهاز دعم الاستقرار"، وولايته تقتصر على جنوب طرابلس، معقود لشيخه وأميره وعقيد غزوه وغاراته، عبدالغني الككلي. ولما كان عمل (وظيفة) مثل هذا، أي قيادة ميليشيا طفيلية في ظل حكم ريعي طيفي أو شبحي، لا يستقيم ولا ينقاد إلا لشخصية مسرحية، والأرجح سينمائية (على مثال أشرطة ف. ف. كوبولا أو مارتن سكورسيزي)، وتنفرد بلقب يصف جوهرها الثابت ("الوحش"، "النمر"، "الأسد"... في المصارعة الحرة)، لُقب الككلي وعُرف بـ"غنيوة"، شأن عقداء الميليشيا الآخرين من أصحاب الألقاب. وخص النعي بالتسمية مسلحَيْن عاملين أو رسميين. وأحصى الخبر، في رواياته المتفرقة، تارة تسعة قتلى، وتارة أخرى 17 قتيلاً، وأغفل أسماءهم وألقابهم.
لمّا دب الحراك في أوصال سوريا الأسدين، اشتم "حزب الله" الإقليمي، والقاري (الآسيوي) اليوم، مؤامرة مدمرة عليه. فانتصر للرئيس السوري الممانع، وهجم على القُصير، نظير بلدة القصر الهرملية، وبسط سيطرته على مسرح التهريب القديم. والجوار اللبناني ليس ميداناً سياسياً، استراتيجياً وعسكرياً، فقط. فهو ميدان أهلي ومحلي، جبلي وسهلي
ويُقتل الناس جماعات في البلدان أو المجتمعات التي تجرّ أذيال حروب أهلية لم تنصرم، أو لم تَدْرج ولم تمض، على شاكلة ذاكرة مجتمعات منقسمة أخرى، وعلى وجه أشد قسوة، وأثخن قتلاً. ومن غير علم بداوي مقتلة حي أبو سليم في ضاحية العاصمة الليبية، ربما يصدق الحدس في أن قصد القتلة هو اللحمة التي تجمع القتلى، أي رابطة اندماجهم في الجسم المسلح- نسبهم، وجوارهم، وعوائد سلاحهم، ومصادر العوائد تحت جناح صاحب اللقب، والعَلَم على الجسم أو "الجهاز".
عشائر وتهريب وخطف
وتخلف الحروب الأهلية ("العربية"، في المعرض الذي تتناوله العجالة) غير المنصرمة، والماضية على "عسِّها" التحتي على رغم انتصار أهل القوة فيها على أعدائهم، موصلات عنف مزمن ومتناسل. ففي الحادثة الليبية القريبة، وعلى شاكلتها حوادث كثيرة، لا شك في أن "المجزرة"، على الاسم الذي تداولته وسائط التواصل ووكالات الأخبار، نجمت عن عوامل عامة هي انتشار الجماعات المسلحة الخاصة، أو الميليشيات الأهلية، واقتتالها "الضروري" على عوائد الريوع في نطاق ديراتها أو دوائر سكنها ونفوذها، وولاية "طبقة" حاكمة صورية على أجهزة دولة متصدّعة ومشرذمة ولا تزال تتمتع ببعض مواصفات السيادة (العملة، التمثيل...) وفشو المعاملات غير المشروعة في التحصيل والتوزيع والتسعير والتداول.
وما يُلجأ إلى الحدس والتخمين والتعميم في وصفه وتعليله يَمثل ويشخص في حوادث سورية، قريبة ومتشابكة. ففي النصف الأول من شباط/ فبراير الجاري، اقتتلت عائلتان تقيمان في بلدتين بريف حمص الغربي، بحذاء الحدود اللبنانية- السورية المشتركة. والبلدتان هما الدلبون والمزرعة. واندلعت اشتباكات عنيفة بين العائلتين. وتوسلت "العشيرتان"، قياساً على "عائلة" ثالثة في بلد قريب، بسلاح "خفيف ومتوسط". ولم يقتصر الاقتتال على موقعي البلدتين، وتجاوزهما إلى طريق حمص- مصياف، "المدينة" العلوية التي تتوسط الجبل، وتشرف على الساحل واللاذقية. وزرع أحد المتقاتلين، أو كلاهما، عبوة ناسفة وقاتلة على طريق حمص هذه، القريبة من البلدتين، فقتلت مقاتلاً من "حزب الله"، أو ربما "شخصاً تابعاً" له، في صيغة الخبر المضطربة، ربما جراء اضطراب علاقة الرجل بالحزب العتيد.
ولما أمرت السلطات قوات أمنية رسمية بتطويق البلدتين، والحؤول دون دوام الاقتتال، قتلت عبوة أخرى ضابطاً "برتبة ملازم" كان في عداد الدورية. وفي الأثناء، شهد مسرح آخر قريب، ريف حمص الشمالي، اقتتالاً بين عشيرتين في مدينة الرستن، المختلطة، وهي مدينة العماد أول ("الجنراليسيم") مصطفى طلاس، رفيق درب الرئيس السوري السابق حافظ الأسد. وإحدى العشيرتين هي عشيرة التركاوي. وسقط أحد أبنائها قتيلاً أواخر العام الماضي.
ولا يتناول الخبران المركبان موضوع الخلافات التي نجم الاقتتال والقتل عنها. ولكن مسرح الاقتتال، وصفته، لا يترك شكاً في الموضوع هذا، أو في دواعي الاقتتال والقتل. فجوار حمص، غرباً وشمالاً، وعلى الأخص غرباً، يحاذي لبنان الشمالي، عكار جبلاً وسهلاً وطرابلس مدينة وميناءً.
ومنذ 2012، في السنة التي تلت "الثورة"- على المعنى العربي الذي يصف الثوران، على قول برنارد لويس الذي أثار حفيظة إدوارد سعيد الشديدة، وعلى المعنى السياسي الذي يعني الخروج على طاعة صاحب الأمر- وراية "يا حسين"، تعلو مآذن بلدات الوجه الغربي من السهل. ويسهر على أمن الرعايا، وعلى حسبتهم وأسواقهم وطرقهم وقوافلهم، والي الفريق قاسم سليماني ("دام رعبُهُ") و"حرسه" على هذه الناحية من "غرب آسيا" (الاسم الذي تطلقه الحملة الانتخابية الرسمية الإيرانية على المشرق، سوريا والعراق وفلسطين ولبنان).
ومناطق الريف هذه، قبل "الثورة" وبعدها ولكن على تفاوت، تسرح فيها وتمرح عصابات التهريب والخطف. فالحدود القريبة يصدق فيها، وفي حكمها السياسي، قول "شاعر البعث" الأول، سليمان العيسى (قبل انصرافه إلى نظم شعر الأطفال والإقامة في الإمارات هرباً من دولته): "لوددت لو أني صهرت بقلب صاعقة وجودي/ ومضيت أكتسح الحدود وصدر من خلقوا حدودي". فهي ممر سائخ، اكتسحه وجود المهربين ومن لف لفّهم. ويرعى المهربين، منذ عقود ضاربة في البعد، وكلاء "الدولة" وضباطها وشيوخ العشائر و"أكواع" (وجهاء) أحياء حمص الداخلية، ووسطاء حارات المهاجرين إلى حزامها وأطواقها.
"الثورة" والرديف
ولمّا دب الحراك في أوصال سوريا الأسدين، اشتم "حزب الله" الإقليمي، والقاري (الآسيوي) اليوم، مؤامرة مدمرة عليه. فانتصر للرئيس السوري الممانع، وهجم على القُصير، نظير بلدة القصر الهرملية، وبسط سيطرته على مسرح التهريب القديم. والجوار اللبناني ليس ميداناً سياسياً، استراتيجياً وعسكرياً، فقط. فهو ميدان أهلي ومحلي، جبلي وسهلي. وضمّت "الدولة" السورية إلى عسكرها المقاتلين دون معقل عصبيتها (جبل العلويين) جماعات من المسلحين، على شاكلة "جهاز دعم الاستقرار"، ضوتهم "قوات الاتحاد الوطني"، تيمناً باسم منظمة المتطوعين للدفاع عن دولة فيصل بن الحسين الهاشمي، في 1919.
ضمّت "الدولة" السورية إلى عسكرها المقاتلين دون معقل عصبيتها (جبل العلويين) جماعات من المسلحين، على شاكلة "جهاز دعم الاستقرار"، ضوتهم "قوات الاتحاد الوطني"، تيمناً باسم منظمة المتطوعين للدفاع عن دولة فيصل بن الحسين الهاشمي، في 1919.وهؤلاء يسمون اليوم، وبعد انصرام (معظم) الحروب السورية الداخلية، "الميليشيات المحلية الرديفة"
وهؤلاء يسمون اليوم، وبعد انصرام (معظم) الحروب السورية الداخلية، "الميليشيات المحلية الرديفة". وجنّد النظام يومها، بين 2012 و2018، على وجه التقريب، مسلحين من سواقط (متساقطين) الأسلاك، والطبقات، والمهن، والأحزاب، والجماعات المقاتلة السابقة والمنحلة (وبلغ عددها عشية إسعاف روسيا بوتين سلالة الأسد نحو 1200 "منظمة")، في وحدات محلية، واجتمعت على فتات عصبيات، وخليط انتماءات يضبطها التمويل.
وكان على الوحدات الأهلية هذه أن تتولى تمويلها بنفسها، أي من نهبها أهل الديرة التي تُقْطَعها الوحدة الأهلية، أو يُقطِعها إياها رأس عصبية الدولة أو وكيله على الناحية. وأسهم بعض الأثرياء في تشكيل جماعات، على المثال نفسه، حماية لأعمالهم، أو استثماراً في مرفق مجزٍ، أو انتصاراً لعصبية يؤيدونها أو يحالفونها إلى أجل.
فلما انحسرت "الثورة"، ودمّر الطيران الحربي الروسي الجيوب والإقطاعات المنتشرة، وحررها المستشارون، وورثتها ميليشيات النظام في رعاية السرايا الأمنية والعسكرية والحزبية، على شاكلة وكالات، آل حكمها إلى خليط الجماعات الموالية. وفي الأثناء، جفّف الدمار الاقتصادي والنزوح والهجرة والسياسة النقدية وإعالة "القطاع العام" (العسكر والأمن والإدارة)، وقانون قيصر، الموارد، بينما استقرت شراكة النافذين، القدامى والجدد، على حكم البلاد "المحررة"، والعائدة إلى دولة العصبية.
ومع انتصار العصبية الأسدية- وتربع دولتها في رأس الخليط المتخلف عن ذيول حروب أهلية لم تنصرم ولم تحسم، إلا جزئياً، ومؤقتاً، ومن غير أبنية سياسية جديدة- تولى التسيير المحلي حلف من أطراف أو جماعات متنافرة. في ريفي حمص الغربي والشمالي يتشارك السيطرة "السلطات الأمنية المحلية"، و"حزب الله" الحرسي اللبناني. ويحكم الاثنان في شؤون المحكومين، من غير تكليف أو انتداب غير تكليف القوة والغلبة، وربما التحكيم في علاقات العشائر بعضها ببعض. وثمة شريك ثالث، أو رابع إذا احتُسبت العصبيات العشائرية والعائلية والمحلية، هو "العصابات الخارجة على القانون".
وهذه، لم يؤدِّ الانتصار الكثير الآباء (الروسي والإيراني والأسدي) إلى حلّها وتسريحها، أو إلى دمجها في بعض أسلاك الدولة، الأمنية والعسكرية والإدارية. ومعظم هذه الأسلاك، سابقاً وحالياً، يشغلها أنصار العصبية الحاكمة وأجراؤها، وبعضهم "يعمل" في الجهازين، ويتنقل بينهما. فالقول إنها "خارجة على القانون" إنما هو على سبيل الروتين والانفعال الشرطي. فهي العصابات، أو سلكها، "تظللها"، على قول الوكالات، سلطات الأمن وحليفها الحرسي اللبناني.
اقتصاد أسود
وفي الظل الوارف والهانئ هذا، اعتاد الأهالي تواتر حوادث القتل، والسرقة، والاشتباكات بالأسلحة، ما دون الثقيلة والحق يقال. وتدور الاشتباكات بين المهربين، داخل جماعتهم أو جماعاتهم المتنافسة، وبين جماعة منهم وبين جماعة أمنية، وبين جماعة أمنية وجماعة أمنية أخرى. ويلاحظ الأهالي أحلافاً متقلبة بين عصابة تهريب وبين جماعة أمنية بعينها، تعرف باسم ضابطها الآمر. وقد تحتمي عصابة بضابط آمر أعلى رتبة من آمر المفرزة أو السرية التي تتولى "أمن" المحلة المباشرة.
وينبغي ألاّ يوهم الكلام على التهريب، وهو ممالك ومسالك، أن "الاقتصاد" المحلي يقتصر عليه. فالخطف قوة راجحة من قوى الإنتاج الاجتماعية في "الدولة" المحررة من التكفيريين، ومن الجمعيات غير الحكومية ("إن جي أوز")، على ما هي حال معظم سوريا اليوم. وفي أحيان كثيرة، يجمع قادة العصابات أو الجماعات الإنتاجين معاً. و"ذو الإنتاجين"، على قول كتب الأدب في أحد ممدوحي أبي الطيب المتنبي، التهريب والخطف، يتبوأ مكانة عالية، ويعرف بالإسم والشهرة، على شاكلة شجاع العلي. ويعرّفه "المرصد السوري لحقوق الإنسان" بـ "أحد أبرز زعماء الميليشيات في تلك المناطق، (و) ذاع صيته في السنوات الثلاث الماضية بعد أن وجد في عمليات خطف الأفراد، ولاسيما المقتدرين مادياً منهم، مصدراً يدرّ عليه عشرات آلاف الدولارات شهرياً".
والعلي، ندُّ الككلي الطرابلسي الليبي، كان في أثناء الحرب على رأس جماعة مسلحة بلغ عديدها الأربعمئة، قاتلت جنباً إلى جنب الجيش. ولقاء قتاله مع قوات النظام "نال ثقة الضباط". وسيَّل الضباط ثقتهم الثمينة، أو "قرّشوها" على قول اللبنانيين في العطاء والجزاء، "دعماً" جزيلاً. فالعلي، أو "الخال" وهو لقَبَه أو نَصْبه المعنوي والثابت، نُدب إلى مراقبة طرق الفرار والنزوح إلى لبنان، القانونية منها وغير "الشرعية".
الوحدات المسلحة، ما عدا الإقليمية مباشرة شأن "حزب الله"، لا تستوي فواعل، أو ذواتاً فاعلة ومؤثرة، على قول مصطلح الإنترنت ومدوّناته، إلا إذا انخرطت في بنية أهلية، عائلةً أو حلف عوائل وعشائر، أو بنية محلية، بلدة أو قرية أو ضاحية، وربما بنية طائفيةً أو فرع طائفي. وإذا استوت الوحدة المسلحة فاعلاً أو ذاتاً، وجمعت السلاح إلى البنية، دخلت في شبكة متعددة الأطراف والوظائف، ومتفاوتة الأوزان
وقادته وظيفته إلى انتخاب الهاربين الميسورين وأولادهم وأقاربهم، وإلى معاملة المهربين. واستثمر علمه ومكانته، وجبايته من جرائهما، في محطات محروقات على طرق الفرار والتخفي واللجوء، وفي "سلسلة" مطاعم ومتنزّهات ومنتجعات على الطرق المشروعة. وإلى حلفه بالضباط، وتقاسمه معهم الربح الشريف، على شاكلة "المال الشريف" قبل الاتفاق النووي مع 5+1 وبعده، عقد حلفاً مع مهرب أدنى منه مرتبة، يقتصر على تهريب حبوب الكبتاغون، المخدر المعروف، من عشيرة كبيرة في البقاع الشرقي اللبناني الذي يهيمن عليه، من غير منازع، "الحزب"، من غير إضافة ولا تخصيص.
واقتطفت صفحة من موقع "الفساد في سوريا" الإلكتروني فقرات من مناشدة أهالي بلدة الغسانية، في ناحية القُصَيْر بريف حمص الغربي، والقرى حول بحيرة قطينة، "السلطات" أي المخافر والمراكز الأمنية وفروع حزب البعث العربي الاشتراكي- "وضع حد لشخص لبناني مقيم في البلدة، يقوم بالسطو المسلح على أرزاق الناس، وبترويعهم". واللبناني ذو السطوة، ومقتسم سطوته مع منظمات مسلحة إقليمية ودولية، يملك زورقاً يهرّب به "سلعاً" متفرقة، بحراً، طبعاً، وبراً. وصدرت في حقه إدانة طلب بموجبها إلى المثول أمام المخفر. و"مخفر القصير يوفر له الحماية".
"دولة" و "مجتمع"
و"متفرقات" مثل هذه متواترة في الصحف والمواقع والوكالات التي تروي المحليات في البلدان العربية التي علّقت خروجها من حروبها الداخلية والأهلية، وتسهم، على مقادير متفاوتة، في "وحدة الساحات". وبينما كان مسلحون يردون أنصار "جهاز الاستقرار" في ضاحية طرابلس الليبية، قتلت القوات الأردنية خمسة مهربين كانوا يتسللون من أراضي السويداء السورية إلى الشمال الشرقي من الأراضي الأردنية. وكان في حوزة القتلى "كميات كبيرة من المواد المخدّرة قادمة من الأراضي السورية". ويزعم بعض أهل الجنوب السوري، من "عشائر ومجاميع سكانية"، أن النظام السوري ضالع في "التحالف ودعم ميليشيات تهريب المخدرات نحو الأردن"، وأن "الجهات المحسوبة على النظام تغامر بأمن وسلامة السكان المدنيين، و (...) تلك أزمة سورية داخلية".
العنف وموصلاته هو قاضي القضاة في مجتمعات القواطع والسيطرات، على قول العراقيين.
ولم يكد "جهاز الاستقرار" يشيع قتلاه حتى اندلعت في وسط شارع الضمان، بمدينة الزاوية، غرب ليبيا، اشتباك مسلّح بين ميليشياتين محليتين. وتحركت آليات مدرّعة بذريعة فض الاشتباك، على قول "حراك تصحيح المسار في مدينة الزاوية". وتزعم ميليشيا أخرى، أن الآليات اشتركت في الاشتباك. واتهم "الحراك" حكومة عبدالحميد الدبيبة- "حكومة الوحدة" الطرابلسية، وهي واحدة من نحو أربع "حكومات" ليبية- بـ"المماطلة في إجراء الانتخابات البلدية"، مسايرة للمجالس القائمة. وتمد "الوحدة" "التشكيلات المسلحة الموالية لها بالعتاد والأموال"، على زعم "الحراك". وفي الأثناء يهدد حرس المنشآت النفطية في الزاوية بغلق مصفاة الزاوية ومجمعي ملّيتة ومصراتة. والغلق المزمع يتوسل بالقوة المسلحة إلى معالجة مسألة اقتصادية.
وفي بغداد، في الأسبوع نفسه، قُتل ناشط صدري، من أنصار مقتدى الصدر قائد "سرايا السلام"، بعد "جيش المهدي" و"الحوزة الناطقة"... والناشط القتيل مزدوج النسب، السياسي والأهلي. فهو صدري السياسة، خفاجي (من عشيرة خفاجة) الأهل والعشيرة. وقُتل الشاب، ربما اتفاقاً وربما عمداً، بعد يوم من اغتيال ابن عم هادي العامري، زعيم منظمة بدر، الجناح العسكري لحزب الدعوة، وهو الحزب الأم الذي تحدّرت منه أحزاب المعارضات الشيعية، "المدنية" والمسلحة إلى يومنا: "كتائب حزب الله"، "النجباء"، "سرايا سيد الشهداء"، "عصائب أهل الحق"... "المقاومة الإسلامية".
والحق أن التواتر هذا- وهو لا يزن في كفة الإحصاء وأرقام المتوسطات، على رغم فرادة الحياة الإنسانية- يصوِّر عوامل بنيوية فوق تصويره أحجاماً ومقادير. ففي الأحوال التي مرت كلها تنشأ حوادث القتل وتتناسل من 1) جوار أو "تعايش" جماعات نافذة، وغالباً مسلحة، أهلية (عائلية ومحلية، ومهنية أحياناً) أو سلكية (ينتظمها سلك من أسلاك الدولة الإسمية)، 2) غير مرتّبة على مراتب واضحة، و3) وتربط بعضها ببعض علاقات حلف أو منافسة متقلبة، و4) تتقاسم، غصباً وعنوة، موارد محلية ناجمة عن أعمال غير مشروعة، 5) إطارها العام "دولة" استولت عليها عصبية تتولى تسيير "مجتمعها" بالقوة العرفية، وبواسطة هرم عصبيات جزئية وظرفية، وتوزيع المرافق عليها بحسب موقعها من مراتب الهرم.
و6) تلتحق "الدولة"، على هذه الشاكلة، أجزاءً (عصبيات وكتلاً) وليس كلاً وجميعاً، بإطار إقليمي على المثال نفسه، يجمع "دولاً" ضعيفة التماسك العام إلى جماعات أهلية، متفاوتة الالتحام والانفصال عن الجسم السياسي الضعيف، ومتفاوتة الالتحاق، على حدة، بالشبكة والإطار الإقليميين، وبالقوة الغالبة فيهما وعليهما.
وهذا جلي، رغم تعقيده الظاهر، في مرآة ديرة حمص الواسعة، شمالاً وغرباً، وسهلاً وجبلاً، وبراً وبحراً، وطرقاً وحدوداً. فالوحدات المسلحة، ما عدا الإقليمية مباشرة شأن "حزب الله"، لا تستوي فواعل، أو ذواتاً فاعلة ومؤثرة، على قول مصطلح الإنترنت ومدوّناته، إلا إذا انخرطت في بنية أهلية، عائلةً أو حلف عوائل وعشائر، أو بنية محلية، بلدة أو قرية أو ضاحية، وربما بنية طائفيةً أو فرع طائفي.
وإذا استوت الوحدة المسلحة فاعلاً أو ذاتاً، وجمعت السلاح إلى البنية، دخلت في شبكة متعددة الأطراف والوظائف، ومتفاوتة الأوزان. وتحتكم الأطراف إلى ميزان قوة متقلب تحكمه العلاقات والحمايات العصبية الضيقة أو الواسعة، القوية أو المتوسطة، والمواقع الجغرافية التي تنزلها الوحدات المسلحة، ونوع الموارد التي قد تُجبى والاقتسام الذي تتيحه. وضعف الترتيب على مراتب مرسومة و "قانونية" يرتب اجتماع التقاسم والتنازع، التآلف والاقتتال، الاحتكام والانفراد، على حد واحد وغير مستقر. فالعنف وموصلاته هذه، هو قاضي القضاة في مجتمعات القواطع والسيطرات، على قول العراقيين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...