أنجز المخرج السينمائي السوري ثائر موسى، فيلمه الروائي الطويل "مزار الصمت" مؤخراً بعيداً عن سوريا التي يحبها. أما وقد أهداه إلى أبيه الذي رحل عن البلاد التي أحبها بدوره قبل أن يشهد الخراب الذي حلَّ بها، فيمكن هنا الملاحظة بشيء من الدقة أن الخراب قد طال كل شيء من بعد رحيله؛ البشر والحجر. وحتى السينما التي حلم بها موسى، وكان محظوظاً إذ درس علومها في بولندا قبل عقود، لم تنجُ من هذا الخراب الآنف الذكر، إذ يمكن للمخرج السينمائي أن ينتظر طويلاً، هناك في البلاد التي يحبها، قبل أن يحظى بفرصة فيلم واحد، وقد لا يحظى بها أبداً إن لم يمتلك مشروعاً مناكفاً في تفاصيله، أو إن كان مسجَّلاً على قائمة "المغرضين".
أن يصنع ثائر موسى فيلمه في تونس مع ممثلين "توانسة" وهذه إشكالية كبيرة بحد ذاتها، فموضوع الفيلم سوريا أولاً، وسوريا أخيراً، وليست الرموز التي يسوقها أمامنا -كمشاهدين غير حياديين- إلا أداةً جماليةً وتعبيريةً لتسهيل الحلول الإخراجية في مكان غريب، ومع ممثلين غريبين تماماً عن الموضوع، وعن حساسيته المكلفة، وهنا سوف يقع العبء الأكبر في إعادة توجيه دفَّة كل شيء وتصويبه نحو النتيجة المثلى في كيفية صنع فيلم روائي طويل مع عناصر فنية تبدو غير متجانسة للوهلة الأولى على عاتق المخرج نفسه.
وبالتأكيد على صانع الفيلم، أو "المايسترو" بتعبير أدق، أن يتحوَّل في التفاصيل إلى حائك ماهر في تحريكه لهذه العناصر من خلال التعامل الدقيق والنبيه، مع ممثليه الذين يعوّل عليهم كثيراً في رفع المنسوب الدرامي إلى حدّه الأقصى، عبر التثبت من الحكاية نفسها في فضاء متحوّل، غير يقيني، خاصةً مع ممثليه الأساسيين: الفلسطيني القدير محمد البكري (لعب دور زيدان)، ونور حجري (لعبت دور ليلى)، وعيسى العيسى (لعب دور أحمد).
موضوع الفيلم سوريا أولاً، وسوريا أخيراً، وليست الرموز التي يسوقها أمامنا -كمشاهدين غير حياديين- إلا أداةً جماليةً وتعبيريةً لتسهيل الحلول الإخراجية في مكان غريب، ومع ممثلين غريبين تماماً عن الموضوع
تلعب الجغرافيا أيضاً دورها في الفيلم، وليس المكان بسطوته المتخيَّلة فقط، وإن لم يكن ممكناً عزله عنها، ولكنها ستشكل هنا عامل ضغط إضافياً غير مرئي على الحلول البصرية والسمعية والإخراجية، وهي تتلاقى أمام المخرج في بوتقة واحدة منصهرة، فإما سيرضى بها، أو يضغط بدوره ليحظى بحلول قد ترضيه، وليس أمامه سوى تلوين الصورة، والأجواء التي ستحتمي بها بتنصيب الإضاءة التي ستتولى من الآن فصاعداً إعادة تدوير ذائقة المشاهد النهم في الجمال.
يصح هنا القول إن تصميم إضاءة كل مشهد على حدة جاء ليشكل إضافات جماليةً مبهرةً للفيلم، وهو ينقل إحساساً جديداً للمشاهد -مرةً أخرى غير الحيادي- وهذا أمر بالغ الدلالة في صناعة فيلم مثل "مزار الصمت". نحن نقف أمام مخرج متمكن من أدواته، وهو يعيد تركيب المكان كما يهوى، لأن سوريا التي في البال بعيدة، وليست بمتناول عدسته، أو هي عصية على الالتقاط، وتالياً ليس أمامه سوى تركيب المشهد تلو المشهد في خمائر لونية مركَّبة، ليقصص حكايته بمرونة بصرية أكبر وأوسع من "الجغرافيا" المستحيلة التي تدور فيها.
عندما انتشر عموم السوريين بعد المقتلة الدامية التي بدأت سنة 2011، في مختلف بقاع الأرض بالملايين، تجمَّع جزء كبير منهم في مخيمات اللجوء القريبة من سوريا بقلوب مدمَّاة. كانت الخيام التي ستأويهم مجرد أقمشة لا تحمي من برد الشتاء، أو قيظ الصيف، لكن الأخطر هنا لا هذا ولا ذاك، بل تربّص الذئاب البشرية بالكائنات الأكثر ضعفاً. الكائنات الرقيقة القابلة للخدش والانتهاك تحت مسمَّيات شتى.
هذا ما يحدث بالفعل عندما يُعتقل أحمد، ويُزجّ به في غياهب السجون، وليس أمام أمه، اللاجئة المسكينة، إلا تزويج ابنتها ليلى من رجل طاعن في السن، قصد المخيم باحثاً عن وريث ذكر في ضحية جديدة، إذ أخفق في تأمينه من زوجته الأولى (لعبت دورها شاكرة رماح)، التي لا تنجب له إلا الإناث، وهو يمكنه أن يتذرَّع بما يشاء ليحظى بصبية جميلة تصغره بكثير، والثمن يجيء عبر مقايضة ساذجة من الأم سعاد (لعبت دورها سوسن معالج): زواج الابنة الجميلة من هذا "الوحش" مقابل حرية الابن المعتقل في بلده، ولكن وعود زيدان بتأمين إطلاق سراح هذا الابن تذهب أدراج الرياح،
وكل معارفه الذين يتبجَّح بمعرفته إياهم، لا وجود لهم في الواقع، أو هم لا يمدون له يد العون. على أي حال لن تستقيم الأوضاع مع زيدان، فليلى سوف تتدرب على ألا تسلم نفسها له، وسوف تنجح إلى حدٍ ما، فهي ماهرة في غزل الصمت على نول الرجاء، ويبدأ هو بالإذعان التدريجي، أو التقهقر لحساب صمتها "الأبدي" إذ يفقد سطوته، ولكنه يتمرد أحياناً، ويتململ، ويظهر لها أنيابه بين الفينة والأخرى، ولكن دون طائل.
لا يبتعد ثائر موسى عن حلوله البصرية، وإنما يزيدها بتكثيف بيّن، وهذا يمكن ملاحظته مع خروج أحمد من السجن بعد مرور ثلاث سنوات على اعتقاله. هكذا دون سابق إنذار يخرج ليعانق حريته، ويعود إلى حضن أمه المهدور في عتمة مخيم اللجوء، ليسأل عن ليلى. ليلى التي لم تعد إلى مخيلته إلا كنداء منبعث من زمن ماضٍ، لم يعد متوفراً الآن. لا تكون الإجابة إلا بحجم الكارثة التي يعيش الجميع على وقعها. ومن هم هؤلاء الجميع؟ إنهم السوريون في الخيام، أو في الشتات السوري الذي سيتكلم عنه "الجميع" دون مواربة.
إنهم السوريون الذين سيدفعون ثمن المطالبة بحياة حرَّة وكريمة، وإذ بهم يجدون أنفسهم مطاردين في فلوات قريبة وبعيدة في الوقت نفسه. وربما من تلاقوا في المنافي القريبة كانوا ضحايا من نوع مختلف مهين للروح، ويشكل في قسوته إضافةً غير موصوفة للجغرافيا التي يتلألأ فيها الفيلم، بما يعني ذلك من إثارة نفسية وسلوكية قد يحتاج إليها المرء غير المحايد أيضاً، وهو يكمل مشاهدة الفيلم حتى اللقطة الأخيرة منه بانجذاب قد لا يمكن تفسيره، ولكن يمكن وسمه بذلك الدافع الشعوري الذي لا يتخلص منه المرء بسهولة حين تنهك ضميره اليقظ حكاية من هذا النوع.
يمضي أحمد إلى سجن أكبر هذه المرة وهو يبحث عن زيدان. لكن زيدان أصبح جاهزاً، وهو على عتبة الهبوط النهائي ليروي حكاية ليلى أمامه، وقد تحوَّلت إلى صانعة كرامات، بالصمت الذي تتقنه أكثر من أي شيء آخر في الوجود، وقد اكتفت من حياتها الجديدة بزيارات ليلية إلى مقام الشيخ مسعود، لتضيء له الشموع، وتقدّم النذور، وتنشأ عنها الخوارق، فتسكت رضيعاً حيَّر البلدة أياماً طوالاً ببكائه بمسحة من يدها على جبينه، وتنقل الطعام لعازف الربابة التائه حسن الذي لا يعرف أهل البلدة أي شيء عن منبته، أو المكان الذي وفد منه، فيما يستمع الجميع إلى عزفه من غرفته التي يلوذ بحيطانها دون أن يرى وجهه أحد، كما أنها تقتاد ابنة زوجها زيدان التي طردها زوجها من بيته للتو لأنها لم تحمل منه، وتوقع زيدان-الأب في تناقض مريع مع نفسه. تعيد تركيب حكاية الوريث بلمسات جمالية منها على وجه الابنة، وتردّها إلى زوجها لتحمل منه بما يشبه معجزةً إضافيةً ضروريةً.
"مزار الصمت" فيلم عن سوريا "التعيسة" التي لم تكتمل دورة إحيائها في الجغرافيا المشار إليها، وظلت عرضةً للنهش والتجريح والعقاب في الفلوات القريبة والبعيدة التي انتشر فيها أهلها
ليس بعيداً عن تذكر زيدان أمام أحمد، كل ما يتعلَّق بشقيقته ليلى، فيما يلمع نصل السكين بيده، وهو يفرم التبغ على مرأى منه وضوح تلك الرغبة الجامحة بقتله، وهو يقص على مسامعه كيف أعاد تشكيل الصفقة مع الأم: أن تقنع الابنة باستسلامها له مقابل تجديد الوعد بتأمين الإفراج عنه. وفي تلك الليلة "الفاصلة" التي تشعر فيها ليلى بأنها قد ارتكبت فعلاً "آثماً" بخضوعها المشروط لهذا الوحش الآدمي تمضي إلى حتفها بصمت، والمطر يلاحق المطر كما في المعجزات، وتنام تحت شجرة الزيتون نومتها الأخيرة. لا شيء مبللاً فيها. لا الثوب الأبيض الذي ميَّز براءتها ونقاءها، ولا شعرها الذي ظلَّ يربطها بماضيها البعيد، عندما تشفق عليه بالحنَّاء، ولا تلك الجغرافيا التي تشكلت من صمتها عبر أخاديد موغلة في قسوتها، وان حنت عليها، وهي تتمدد تحت شجرة مثمرة ومعمرة.
"مزار الصمت" فيلم عن سوريا "التعيسة" التي لم تكتمل دورة إحيائها في الجغرافيا المشار إليها، وظلت عرضةً للنهش والتجريح والعقاب في الفلوات القريبة والبعيدة التي انتشر فيها أهلها، وهو من إنتاج حديث مشترك لشركتي "ميتافورا" و"سينيتيلفيلم"، وأدار التصوير فيه حاتم ناشي، والمونتاج لأنس السعدي، والموسيقى لحمزة بوشناق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...