"جيل كامل تحت الضغط، تكريم كزبرة في جامعات مصر؟ كيف إذاً لمثلي أن يقنع أولادكم بالاجتهاد سعياً إلى مستقبل مشرق؟ أنا الآن مشفق عليهم حتى على المتفوّق منهم". كانت تلك رسالة معلم غاضب على موقع فيسبوك، نُشرت ضمن مئات المنشورات التي استنكرت تكريم "كزبرة" في الجامعة البريطانية، الذي سبقته استعراضات مطربي المهرجانات أمثال عمر كمال وحمو بيكا، لثرائهم الفاحش، وتزامن معها فيديو انتشر لعمر كمال عن مفهوم الرزق، يقول فيه إنه لم يعترض عندما كان فقيراً يعاني في مهن شاقّة، لكنه استطاع بالاجتهاد وفهم الزمن وتغيراته أن ينجح "لأن الله عادل جداً خلق الناس طبقات فوق بعضها"، والآن جاء دوره كي لا يعترض أحد على ما وصل إليه.
لكن يظل فيديو تكريم "كزبرة" في الجامعة البريطانية، هو الأكثر إيلاماً للطبقة الوسطى، إذ يعلن بشكل نهائي، ما تتعامى عنه، وهو أن الاجتهاد في سبل التعليم، وسيلة "الأفندية" منذ أواخر القرن التاسع عشر للترقّي الاجتماعي، لم يعد فقط السبيل الوحيد لذلك الترقّي.
يظل فيديو تكريم "كزبرة" في الجامعة البريطانية هو الأكثر إيلاماً للطبقة الوسطى، إذ يعلن بشكل نهائي ما تتعامى عنه، وهو أن الاجتهاد في سبل التعليم، وسيلة "الأفندية" منذ أواخر القرن التاسع عشر للترقّي الاجتماعي، لم يعد فقط السبيل الوحيد لذلك الترقّي
منذ زمن والجميع يعلم مثلاً أن أجرة لاعب الكرة أو أجرة الراقص/ة لا يمكن مقارنتهما بأجرة الجامعي أو حملة الدكتوراه. لكن الصدمة التي تأخرت كثيراً هذه المرة، مردّها أن أمثال "كزبرة" وعمرو صاصا، آتون من عمق جديد للفقر والعشوائيات والجهل، ولم يكتفِ المجتمع بإدانتهم لفترة طويلة، بل أنكر وجودهم.
يقول الكاتب والباحث الموسيقي محمد صالح في مقاله "تكريم 'كزبرة' وصراع كارل ماركس": "إن ثقافة كزبرة كممثل لقطاع عريض من المجتمع لا نعرفه، ونعيش في وهم أننا أغلبية، في حين أن ذلك القطاع هو الأغلبية الحقيقية وهو المرشح في المستقبل القريب لأن يكون 'معبّراً حقيقياً وصادقاً عن الهوية الوطنية'".
تلك الفكرة الخطيرة، هي مربط الفرس الذي يتجاهله أغلب الغاضبين من ذلك الصعود، ولا يستوعبه "كزبرة" نفسه، الذي علّق على الغضب البادي بسبب تكريمه قائلاً: "بس أنا مش عايزك تحكم عليا من بعيد، أو إن أنا شخص تراند وجت معايا صدفة، لا أنا راجل اجتهدت وتعبت واتظلمت كتير أوي، ومكنتش بيأس وكنت حاطط ربنا طول الوقت قدام عينيا، وكنت عارف إن هيجي يوم وربنا هيفرجها وهيعوضني، والحمد لله حصل ورضي ربنا عليا وكان أكثر ما كنت أتوقع وفعلاً لكل مجتهد نصيب، وأنا اجتهدت. فيه ناس مستكترة عليا الفرحة وطول الوقت شايفين إني شخص مستاهلش أي حاجة، وإن شاء الله الفترة الجاية هتكرّم في كل أنحاء العالم وبس نصيحة مني لكل بني آدم، فاضي ومركز مع غيره، أتمنى تركّز مع نفسك، وفي شغلك وحب الخير لغيرك، وصدقني محدش هياخد رزقك بس أنت اجتهد وحب عملك".
بالطبع هذا خطاب يسعد اليمينيين والنيو-ليبراليين و"عبيد النجاح" بأشكاله كلها، الذين يحددون قيمة أي شيء بمدى انتشاره، وفي الوقت الذي نستمع فيه إلى أفكار من مدرّب التنمية البشرية صلاح أبو المجد، يرى فيه أن كل من بلغ الثلاثين من عمره، ولا يستطيع ادّخار 500 ألف جنيه سنوياً، يُعدّ فاشلاً، دون أي اعتبار للظروف الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بالجميع.
هذا الخطاب لا يختلف عن خطاب "كزبرة" نفسه في تبسيط مسألة النجاح، إذ يجعل من السوق معياراً وحيداً لكل شيء، مهما تدنّت قيمة هذا الشيء، كما أنه ببساطة يلغي مسألة العدالة الاجتماعية بحجة الاجتهاد أو بحسب استعمال عمر كمال للآية "ورفع بعضكم فوق بعض درجات"، دون اعتبار لتتمة الآية القرآنية "ليبلوكم في ما آتاكم"، مكتفياً بجزء منها ينفي المسؤولية الاجتماعية، مرسخاً الوضع السيئ لممتهني الأعمال الشاقة وقهرهم والتسلط عليهم باسم الدين، وفرص نجاتهم من الفقر وقهره معدومة، إذ لا يملكون كلهم حظّ عمر كمال أو حتى اجتهاده في الغناء في المهرجانات.
قبل 53 سنةً، نشر عالم الاقتصاد الحاصل على جائزة نوبل، ميلتون فريدمان، مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" يهاجم فيه فكرة المسؤولية الاجتماعية للشركات، مدافعاً عن قناعته بأن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة لها هي تعظيم الأرباح للمساهمين، وفاز فريدمان، الذي أثّرت أفكاره الاقتصادية إلى حد بعيد في سياسات الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، بجائزة نوبل للاقتصاد عام 1976، عن طروحاته في الاستهلاك والسياسة النقدية وتحرير الأسعار، وهي أفكار لعبت أدواراً محوريةً في فلسفات الحكم لتاتشر وريغان، لكن الأسوأ أنها رسمت مصائر شعوب، ومن بينها شعوبنا المنكوبة.
وبعد 50 سنةً على مقالته، يتهمه كثيرون بالمسؤولية عن إرساء فترة طويلة من الرأسمالية "القاسية"، التي تسعى إلى تحقيق الربحية دونما اعتبار لغيرها من المعايير، وهو ما عُرف لاحقاً بـ"مبدأ فريدمان"، الذي تسبب في تسريح العمّال من الكثير من الشركات الأمريكية وانتهاك حقوقهم والمعايير البيئية.
ويرى كثيرون أن مبدأ فريدمان تراجع كثيراً في الآونة الأخيرة بفضل وجود درجة أعلى من الوعي بقضايا إنسانية على سبيل المثال، ومن ذلك ما تشير إليه دراسة لجامعة ستانفورد الأمريكية حول شركة "نايكي" الأمريكية التي كادت تغلق أبوابها بسبب اعتمادها على عمالة الأطفال في تصنيع الملابس في تسعينيات القرن الماضي.
فبسبب ما انتشر حول توظيف الشركة لعمالة أطفال في شرق آسيا في ظروف قاسية تجعلهم يعملون 16 ساعةً يومياً، انطلقت حملات مقاطعة شعبية واسعة للشركة، حتى تشير الدراسة إلى أنها خسرت 70% من مبيعاتها في ظرف عامين فحسب (الفترة الزمنية طويلة بسبب عدم وجود وسائل التواصل الاجتماعي حينها، ولكن حملات مشابهةً يمكن أن تحقق تأثيراً في عصرنا الحالي).
فوفق مفهوم فريدمان، كانت إدارة "نايكي" تتصرف بشكل صحيح من منطلق التزامها بتعظيم الأرباح على حساب أي عنصر آخر، ولكن هذا كاد "يودي بالشركة"، كما تفيد دراسة ستانفورد، التي تشير إلى أنها كانت تعاني في هذه المرحلة من أجل توفير الأجور الأساسية للعاملين فيها.
لا يمكن لوم عمر كمال أو "كزبرة" على تصوراتهما عن الغنى والفقر، في حدود ثقافتهما، ولكن يصبح من الضروري التصدي لأفكار اليمين التي تضرب بأفكار العدالة الاجتماعية عرض الحائط، وفكرته هي ببساطة "البقاء للأقوى"، وعلى الطرف الأضعف الاستسلام، وتنفي بالضرورة مسؤولية الغني عبر ضرائب حقيقية، النقابات، التأمين الصحي، تعويضات إصابة العمل، الأجر المناسب لممتهني الأعمال الشاقة التي تجعلهم جزءاً من المجتمع لا خدماً فيه، ويدفع الفقير وحده فاتورة التنمية، بينما تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
من ناحية أخرى، ما حدث هو فرصة ليدرك أبناء الطبقة الوسطى شيئاً عن الزمن، وفساد فكرة استحقاقهم لكل شيء، لمجرد أنهم سلكوا التعليم النظامي، الذي يعلم الجميع فساده، والتوقف عن اللطميات والعويل، إذ لم يعد يكفي في عالم تحكمه منافسة شرسة.
أما الصدمة فمستحقة، واستعلاؤهم على "كزبرة" وعمر كمال وأمثالهما هو استعلاء طبقي محض، لا يهتم بالأخلاق، بل يستخدمها لمداراة فساد أخلاقهم وضعفها في محاولة فاشلة لتثبيت الزمن، وأيضاً ضعف الكفاءة التي تنتج عن الاستسلام لتعليم المصنفة عالمياً ضمن الأسوأ، وإنكار بحسب ما توصل إليه الكاتب محمد صالح، أن ثقافة المهرجانات هي في الأساس ثقافة رفض للمؤسسات الرسمية، وهي وجه مصر البارز بعد ما تُركت للإهمال والعشوائيات، وتسعى الثقافة الرسمية إلى التخلص من وجودهم في المشهد كأنهم عار، برغم أنهم حقيقة واقعة لشكل جديد من أشكال المواطن المصري، تسعى البرجوازية إلى التنصل من وجوده، بينما يظهر بشكل واضح أن الفنانين الرسميين يستعملونهم لاستغلال شعبيتهم.
لا يمكن لوم عمر كمال أو "كزبرة" على تصوراتهما عن الغنى والفقر، في حدود ثقافتهما، ولكن يصبح من الضروري التصدي لأفكار اليمين التي تضرب بأفكار العدالة الاجتماعية عرض الحائط، وفكرته هي ببساطة "البقاء للأقوى"، وعلى الطرف الأضعف أن يستسلم
معارك النقابة الطويلة مع مطربي المهرجانات التي خاضها كلٌّ من هاني شاكر، النقيب السابق للموسيقيين، ومن بعده مصطفى كامل، هي معارك تذرعت بالأخلاق، بينما باطنها فساد تلك الأخلاق، إذ كانت شجاراً حول سيطرة مطربي المهرجانات على مزاج الجمهور، وتالياً استبعاد هاني شاكر ومصطفى كامل من الأفراح والسوق، برغم أنهما لم يعودا يعبّران عن ذلك الزمن وفنهما منفصل في الأساس عن الجمهور ويعيش لحظة جمود، وكثيراً ما صرّح مطربو المهرجانات عن تعرضهم للابتزاز المادي من قبل العاملين في النقابة من أجل دفع مبالغ كبيرة، كرشاوى غير رسمية، للحصول على تصاريح عمل.
تقول الباحثة الموسيقية فيروز السيد كراوية: "المهرجانات كوثيقة خطابية، بالكلام الكثير الذي تحتويه والحكايات، ديوان مفتوح للحياة المعاصرة وقيمها وعلاقاتها وألفاظها. ديوان سريع التغير بشكل رهيب، يحوّر المعاني والألفاظ، ويُدخل ألفاظاً جديدةً في مدة قصيرة. وهو معبأ بأحكام أخلاقية، وصور من التفكير الشائع، ونظرة فئات من المجتمع إلى بعضها البعض، ونظرتها إلى الثروة والصعود الاجتماعي، وعلاقات الرجال والنساء، والسلطة، وعلاقة الحاكم والمحكوم".
فضلاً عن كون أغاني المهرجانات ديوان الحياة المعاصرة، فقد صارت جزءاً من هويتنا، نتيجة سياسات الإفقار المستمرة لعقود، في حرب الديناصورات تلك. المهرجانات جزء من هويتنا، شئنا أم أبينا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...