شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الويل لمن تتشابه توقعاته مع أحلامه

الويل لمن تتشابه توقعاته مع أحلامه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الأربعاء 24 أبريل 202412:13 م

في العام 2011، قضى ما يقارب الـ 150 ألف شخص في المجاعة الشهيرة التي ضربت الصومال، وفي 2017، حذّرت الأمم المتحدة وأبدت خشيتها من أن عشرين مليوناً معرضون لخطر الموت، بسبب المجاعة التي كانت تقترب من نيجيريا وجنوب السودان والصومال.

ومع أن الصومال بلد عربي، وهو عضو في الجامعة العربية منذ العام 1974، ومع أنه بلد إسلامي، وأحد الأعضاء المؤسّسين لمنظمة المؤتمر الإسلامي، إلا أن ذلك لم يحمه من المجاعة ولم يشفع له، لا أمام العروبة ولا أمام شيوخ الله أو شيوخ النفط، وأذكر، شخصياً، أن أكثر تضامن حازه الصومال في رمضان 2011، من ناشطي وناشطات فيسبوك، هو اللعب اللغوي على كلمة الصوم وتفكيكها ثم إعادة تجميعها لتصبح صومال.

كان الناشطون يتداولون هذه اللعبة، والمعلقون يذرفون الدموع على شكل قوس مقلوب ونقطتين، أو وجوه حزينة بلغة اليوم، في تعليقاتهم، بينما كان أبناء وبنات الصومال يموتون جوعاً، تارة من الجفاف، وتارة من الحرب الأهلية التي قطّعت أوصال البلد.

لكن الناشطين يحبون الحرب رغم أثمانها الباهظة، أو ربما لعدم مساهمتهم فيها، ولا يعنيهم كل ما طرأ على القيم البشرية من تغييرات منذ الحرب العالمية الثانية. يقول الفيلسوف نيتشه، والذي يحب الناشطون أن يستشهدوا به وبأقواله: "الحرب فرصة للإنسان الأعلى لعرض البطولة والشرف وبقية الفضائل"، ويقول فيلسوف المثالية الألمانية هيجل: "إن الحرب فرصة للسماح بالتقدم".

لقد تعوّد العالم على أن الشعب الفلسطيني قابل للمجاعة أيضاً، لكن طائرة مساعدات من هنا وشاحنة أو خمسين من هناك ستخفّف من وطأة هذا المشهد اللاإنساني
لكن ومنذ محاكمات نورنبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تم فيها محاكمة القادة والمسؤولين الألمان المتورّطين في مذابح الهولوكوست، تغير مفهوم الحرب إلى شيء آخر، إلى عمل غير أخلاقي، واستطاعت المنظومة الدولية أن تكرّس ذلك وأن تؤكد عليه، على الأقل في جانبه النظري، بصياغتها للقانون الدولي الإنساني ولاتفاقية جنيف، وغير ذلك من تشريعات وقوانين.
ليس الناشطون هم من يفتعل الحرب بالطبع، وليسوا من يتحمل مسؤولية استمرارها بكل تأكيد. فهناك في الدولة التوسعية الخارجة عن كل ما يمت للقانون الدولي بصلة، والمسماة إسرائيل، من لا يستطيع تحقيق برامجه ولا تطلعاته إلا من خلال الحرب والعدوان، وإن كان لا يلزمه مبرّر لشنّ الحرب علينا، كما يقال، إلا أنه بحاجة في كل مرة لشرعنة هذا المبرّر أمام العالم، وجعل الحرب ضرورية، بل ومقدسة، من أجل الحفاظ على وجوده من الاندثار كما يدعي دوماً.
لذلك، فحين تتشابه توقعات القائد، أو المفكر، أو الكاتب، مع أحلامه فإن النتيجة هي التصفيق للحرب، أي حرب، حتى لو كانت نتائجها تزداد كارثية كل يوم على شعبه وعلى قضيته، في المدى المنظور أو البعيد
الناشطون لا يفعلون شيئاً سوى أنهم يصدقون هذا المبرّر. يصدقون أن العدو على وشك الاندثار، وأن قليلاً من الصبر وقليلاً من الثقة بالله وبالنفس يمكنهما أن يحققا ذلك. هذا الإيمان المدعوم بقوّة الحق وقوّة الحظ وقوّة الدعاء، والذي يستمد شرعيته من المعاناة الطويلة والأرقام التي لا يمكن إحصاؤها من الشهداء والجرحى السابقين، والأسرى السابقين، وكل من قدم تضحية كبيرة أو صغيرة على درب النضال... هذا الإيمان مفهوم ومشروع في جانبه العاطفي، لكنه لا يمتلك لا الأدوات ولا الحلفاء ولا البرامج. ولأنه مفهوم ومشروع عاطفياً، فإن كل محاولات نقده أو تصويبه تبوء بالفشل، بل وبمعاداة أصحابها ونبذهم.
من الطبيعي، في حالة المعاناة، أن تكتسب الحرب مؤيدين أكثر مما يكتسب السلام، لكن من غير الطبيعي أن ينجرّ أصحاب الأقلام، أو المفكرون، أو النخب، إلى إرضاء النزعة العاطفية لدى الناشطين وجمهورهم. وإن شئنا أن نكون أكثر وضوحاً، يمكننا الجزم بأنه لا يجوز للكاتب، أو للمشتغل في الحقل الثقافي أو السياسي، أن تتوافق قناعاته مع أحلامه.
القناعات، كما نعرف، مستمدة من دراسة متأنية للواقع، ومن فهم حقيقي للقدرات الذاتية وقدرات العدو بما يسمح بقياس جدّي لحسابات الربح والخسارة، وهي التي تقود أي عمل نرى أنه يؤدي إلى الهدف الذي ننشده. أما الأحلام فشيء آخر، وهي مشروعة على كل حال، لكنها ليست هي التي تقود أفعالنا، ولا هي التي نصوغ خطابنا السياسي انطلاقاً منها أو من مدى مشروعيتها. لذلك، فحين تتشابه توقعات القائد، أو المفكر، أو الكاتب، مع أحلامه فإن النتيجة هي التصفيق للحرب، أي حرب، حتى لو كانت نتائجها تزداد كارثية كل يوم على شعبه وعلى قضيته، في المدى المنظور أو البعيد.
قلائل من كانوا حريصين على مصير شعبهم وقالوا "لا" لهذا الذي يجري، أما الناشطون فيحبون الحرب رغم أثمانها الباهظة، ويا ويلك لو عارضتهم
وهذا هو بالضبط ما نراه بعد مرور مئتي يوم على الحرب التي تشنّها دولة الاحتلال على شعبنا الفلسطيني في غزة. لقد تم ما يشبه الدحرجة للمواقف، بحيث أن كل موقف كان يأخذ شرعيته من رتوش معينة للموقف السابق، أو بمعنى أوضح: يبدأ الكاتب بطرح موقف شديد القناعة بحتمية الانتصار في الميدان، ثم وبعد خيبته من مسار الأحداث الذي يخالف توقعاته، يصوغ موقفاً بحتمية الانتصار على نتنياهو، وحين يرى أن نتنياهو لا يختلف عن غانتس، ولا حتى عن لابيد فيما يخص الحرب، يبدأ بصياغة مواقف تتحدث عن انتصار أخلاقي في المستقبل، أو يراهن على حركة عالمية جلّها من شعوب هو بالأساس يعاديها أو يعتبرها من أعدائه، وبينما هو منشغل بإراحة ضميره، يتم هدم البيوت وقتل وتشريد شعبه ومسح كل مقومات الحياة الآنية والمستقبلية في وطنه، وصولاً إلى المجاعة التي بدأت تلوح في الأفق. كل هذا ولا أحد يجرؤ على الاعتراض، أو على وضع بدائل توقف هذه الكارثة.
قلائل من كانوا حريصين على مصير شعبهم وقالوا "لا" لهذا الذي يجري، أما الناشطون فيحبون الحرب رغم أثمانها الباهظة، ويا ويلك لو عارضتهم.
لا أحد يريد أن يعترف، أو حتى يتذكر، أنه في الوقت الذي كان يموت فيه شعب الصومال من المجاعة دون أن يسعفه أحد، كان الفلسطيني يكسب تأييد العالم لو ولدت امرأة على حاجز إسرائيلي. قد يسأل سائل: وهل كان العالم يفعل شيئاً آنذاك؟ وهذا سؤال محق وإجابته بالنفي: لا لم نكن نأخذ سوى التعاطف الذي لا يغني ولا يسمن من جوع، لكن ما الذي نأخذه اليوم أيضاً، أليس هو التعاطف ذاته؟
الفارق هو في حجم ما أصابنا، وما أصابنا يتعدّى كل ما نراه على شاشات التلفزة يومياً. لقد تعود العالم على أن هذا الشعب يمكن أن يُقتل منه مئتا شخص في يوم واحد، لكن ثلاثين شخصاً أفضل لصورة إسرائيل من مئتين. وبالتأكيد فإن عشرة شهداء يومياً أو كل يومين ستكون مريحة لضمير العالم. ولقد تعوّد العالم على أن الشعب الفلسطيني قابل للمجاعة أيضاً، لكن طائرة مساعدات من هنا وشاحنة أو خمسين من هناك ستخفّف من وطأة هذا المشهد اللاإنساني.
قلائل من كانوا حريصين على مصير شعبهم وقالوا "لا" لهذا الذي يجري، أما الناشطون فيحبون الحرب رغم أثمانها الباهظة، ويا ويلك لو عارضتهم.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نؤمن في رصيف22، بأن بلادنا لا يمكن أن تصبح بلاداً فيها عدالة ومساواة وكرامة، إن لم نفكر في كل فئة ومجموعة فيها، وأنها تستحق الحياة. لا تكونوا زوّاراً عاديين، وساهموا معنا في مهمتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard