التباين خلق رموزاً مجتمعية مناطقية لم تخل من تماس سياسي، فكل العراقيين سياسيون وإن لم ينتموا. يفتخر الجنوبيون بحزمة من الأسماء كانت أسطورية بشجاعتها ومواقفها، شعلان أبو الجون (زعيم قبلي) مثلاً واجه، مع رجاله، مدافع التاج البريطاني في العشرينيات، في ثورة شعبية أنتجت المملكة العراقية، والمعادل الموضوعي كردياً سيكون الملا مصطفى البرزاني (زعيم قبلي وسياسي).
تنقطع الصلة بين كرد العراق ورموزهم وعرب العراق ورموزهم أيضاً في الفرات الأوسط يتقولب الرمز دينياً مرة، بسبب حوزات النجف، وقبلياً مرة. في غرب العراق يقتل ضاري (زعيم قبلي) الجنرال لجمان (الحاكم البريطاني) بانفعال عشائري غير مسيّس هذه المرة، يتحول إلى رمز مناطقي غير مشترك في الجغرافيا العراقية كالعادة.
العراق بلا رأس، وكلما نما له رأس احتزه العراقيون أنفسهم. مفارقة المفارقة
التباين حاد حتى في الرموز العراقية التي تبجّل في مكان ولا تذكر أصلاً في مكان آخر. ماذا عن البعد الزمني؟ الأمر لا يختلف كثيراً، فما هو صالح كرمز للأربعينيات يبقى نكرة لجيل الثمانينيات إلا من إشارة خاطفة له في المنهاج المدرسي، وهذا أيضاً يخضع لمزاج النظام الحاكم، فثورة العشرين ورجالها وهي الأساس في العراق الحديث، تجيّر لصالح أسماء أخرى ومدن أخرى خارج جغرافيتها الحقيقية، لتعارض الحاكم مع عرّابي الثورة وقادتها من الزعماء الدينين في النجف مثلاً.
بعد 2003، طفت المرجعيات الدينية الشيعية بعمائمها وصورها وأخبارها وأوامرها السياسية بالظاهر والباطن على سطح الأحداث بقوة، ملزمة الفرد العراقي الذي لا يتبعها روحياً أن يتبعها إدارياً، كونها من مصادر التشريع والسلطة، حسب الدستور العراقي المستفتى عليه بنعم بعد 2003، بينما غير ملزمة سلطة "الكاكا" البرزاني أو الطالباني إلا في إقليمه.
يمكن أن تقيس على هذا سلطات محلية أخرى للمسيحيين والصابئة واليزيديين المفرغين من السلطة، والذين تمرّ أسماؤهم دون أهمية تذكر عدا لأتباعهم، مع أنهم رموز وطنية كذلك، ويمكن رصّهم في التقويم السياسي العراقي للاحتفاء بهم كشركاء في الوطن.
للشيوعيين رموزهم النضالية والوطنية الخاصة. فهد سلمان وسلام عادل مثلاً، والتي يصرّون على جعلها رسمية، لكنهم يفشلون كل مرة، بينما، ولأسباب معروفة، ينجح أي رمز ديني في أن يدمج أو يحشر بالسجل الرسمي للدولة العراقية، ويحتفى به وتسمى أقضية ومدن باسمه، عدا عن جسور ومستشفيات وشوارع. مدينة "الصدر" مثلاً، بعد أن كانت مدينة "صدام" تم تبديل الاسم رسمياً بعد 2003. يجب الإشارة إلى أن التسمية تحظى برضا شعبي من ساكنيها بصورة مطلقة.
للقوميين، حكام العراق المنتهية صلاحيتهم، رموزهم. صدام وعفلق مثلاً. حظي البعث في العراق بزمن ذهبي لإخضاع الرمز والتسمية الحكومية لسطوته، ولا زالت بعض الشوارع تحمل رائحة الرمز القومي والبعثي في العراق، رغم وجود قانون عراقي يجرّم الاحتفاء والإشارة إلى تلك الحقبة السابقة من عمر العراق.
يشذّ بدرجة ما عن كل هذا، رمز سياسي ربما لن يتكرّر، عبد الكريم قاسم أو الزعيم، كما يسمى عراقياً. ربما كان ثمن الاتفاق النسبي عليه هو رأسه (أعدم بعمر 49 سنة)، مرونته مع الطيف السائد وقتها من اليسار إلى اليمين، وشعبيته، وليس شعوبيته، حببت الملايين من العراقيين به، ولم يحد تشويه خمسين عاماً لشخصيته من ذلك، ما السر؟ كيف اتفق العراقيون وما زالوا عليه، من الشمال إلى الجنوب؟
بعد 2003 وسقوط حكم البعث في العراق، تهافت جيل ما بعد التسعينيات لمعرفة تاريخه، ولشراء صوره بالأسود والأبيض التي تُعرض جنباً إلى جنب مع الزعماء الروحيين وصور "آل البيت" المقدسة التخيلية!
ربما لم يكن سياسياً ناجحاً كما هو عسكري فذ (آخر مناصبه وأعلاها عراقياً كان رتبة فريق عام 1963).
يتفق العراقيون فقط على حاكمين منذ إنشاء الكوفة (638 ميلادي) بعد الغزو الإسلامي، الأول علي بن أبي طالب، بثقله الديني والتاريخي والمجتمعي (اغتيل عام 661 ميلادي) وإن كان حجازياً بالأساس، وعبد الكريم قاسم، كأول حاكم عراقي منذ سقوط بابل عام 538 قبل الميلاد إلى 14/7/1958.
حاولت النظم السياسية في العراق صب قوالب جاهزة لرموزها الخاصة، بعضها فعلاً يستحق الإشادة ولكن فرض احترامها حكومياً تنفر الشارع منها، القبول المجتمعي لا يحصل بوضع تمثال أو ضخّ إعلامي حتى. يحتجب معظم القادة الروحيين في العراق عن الإعلام إلا أن لهم حضور فاعل جداً، هل يصلحون كرموز؟ الإجابة نعم ولا، نعم بسمتهم الطائفية ولا بسمة المواطنة الأعم.
يتفق العراقيون فقط على حاكمين منذ إنشاء الكوفة (638 ميلادي) بعد الغزو الإسلامي، الأول علي بن أبي طالب، بثقله الديني والتاريخي والمجتمعي، وإن كان حجازياً بالأساس، وعبد الكريم قاسم، كأول حاكم عراقي منذ سقوط بابل
يستمر البحث عن رمز (زعيم) آخر قد يضحّى به بسيف معارضيه (الخوارج) أو برصاصة انقلابيي (القوميين)، وعلى هذا الرمز أن يكون "الفادي" عن العراقيين بتباينهم ومزاجهم المتقلب والحاد وإدمانهم السياسة دون أن يجيدوا لعبتها.
بالنسبة للرموز الفنية والثقافية والأدبية العراقية فالأمر متداخل، كأن يستقتل شاعر كردي بالدفاع عن الجواهري، العربي الشيعي، وأن يحتفي العراقيون بيهودية المطربة سليمة مراد، والمثقف العراقي أن يحتفل بـالأب أنستاس الكرملي كعلامة بارزة. ربما تنعدم التحيزات العرقية والقوميات والطائفيين في حقل الإبداع العراقي.
يتحد ويتكثف الرمز أكثر ويستقطب العراقيين قاطبة إذا كان لاعب كرة قدم متفوق على أي رمز سياسي آخر.
تحت سماء عراقية ثقيلة لا ترتفع توقعاتك بجديد، الأيام منسوخة جيداً، الوجوه، الأحاديث وكذلك السياسيون العراقيون، متشابهون جداً ومتباينون جداً بنفس الوقت والمقدار.
معادلة غريبة لكنها تحدث هنا في العراق الحديث. مثلاً حين تحادث العراقي الفرد ستحلق معه إلى اليوتوبيات كلها، الشرقية والغربية. يمسك بك ويضخّ سيلاً لفظياً مستمراً من القيم والمثل العليا، لكنها كلها تنتهي أو تستحيل إلى "بوله بشط" حسب المثل العراقي في أول ممارسة سلوكية في المواقف اليومية. مفارقة المفارقة هو الفرد العراقي.
مقاييسه عالية عادة في تقييم الآخر رغم أنهم لا يطبقها على نفسه، ولكن سيجد لك فذلكات مقنعة تقنعك بصحة ما يرى. الشيء وضده، الليل والنهار، الأسود والأبيض. العراقي قادر على أن جمعها في حفنة كلام ولن يتركك قبل أن تلتهم سرديته، أنت الممتن والشكر له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...