شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"فن التفاهة"... يوميات السخف العادي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 19 أبريل 202411:16 ص

 ساعتان وأنا جالسة على الشرفة بوجه الشمس، أمتصّ الضوء كورقة، ليساعدني في عملية التركيب الفكري. أريد نسغاً جديداً أستطيع من خلاله أن أعبر ما تبقى من العمر دون أن أدخل مصحّاً جسدياً أو عقلياً، فقد أنهار، كورقة، في أي لحظة  .

أردت أن أدخل في ثنائية أنا /الحياة بعلاقة تقايضٍ، فرضيتُ بالتعايش وقبّلت يدي (وجه وقفا) لكنها لم ترضَ. قلت لها: لا تجعلي علاقتك بي تنافسية، لا أجيد التنافس ولست من أهله، لذلك أعلن خسارتي، فارتاحي. لم يهدأ لها بال حتى نظرت لي شذراً (يعني هديك النظرة) وأرادتها علاقة تطفّل، تمتصّ مني الهدوء والفرح والرغبة والذاكرة والحنين والأمل وراحة البال، والصحة كذلك.

 مرة، ودون قصد، سمعتُ حديثاً بين عجوزتين كل منهما على عكازة، خرجتا للسير تحت الشمس. سرتُ وراءهما وقربهما. يبدو أنني أكذب، فقد أبطأت خطواتي عمداً لأقطف منهما خبرات الثمانين عاماً عسى لا أتعب بالتفكير، ويقدمون لي وجبة "كيف أعيش" بملعقة من سهولة مجانية.

تُذَكِّر إحداهما الأخرى بالماضي الجميل، حين كانتا بالعشرين وكانت الحياة سهلة بسيطة ولكن ذات معنى، ورمت جملة زادت طينتي بلّة: "صايرة الحياة صعبة وقاسية ومقدّدة متل الخبز اليابس، تخافي تاكليها ينكسروا أسنانك، بس أنت جوعانة" .

قلت لحظتها: يا لها من امرأة. لو سنحت لها فرصة لصارت كاتبة.

قالت العجوز: "صايرة الحياة صعبة وقاسية ومقدّدة متل الخبز اليابس، تخافي تاكليها ينكسروا أسنانك، بس أنت جوعانة"

الحياة المقدّدة، العالقة في قسوة جدية مفرطة ، هكذا بدت لي. حياة تحتاج لكمية أقل من التفكير، تشابه مدرّس مادة الديانة، لو تبسمتَ وأنت تقرأ " فإنّ مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا"، لأجاد في توبيخك وتذكيرك بالنار التي ستعلق بها، إذ يخال تبسّمك استهتاراً وتفاهة، وأنت ما تبسّمت إلا إيماناً بأنّه لا بدّ بعد هذه النار برد وسلام .

 حياة عابسة بوجهنا، حريصة على الازدراء بنا. حاولت مرة أن أمحو الرقم "أحد عشر" المرسوم بين عينيها. غنيت لها، وحين تذكرت أن صوتي ليس جميلاً كفاية لترضى، عزمتُ أصحابي. غنى لها صديقي بصوته الطيب الطربي "الحياة حلوة بس نفهمها".

واعتقدنا جميعاً أنها حلوة وأننا نفهمها، نحفظها ونحبّها، لكنها زادت في منزلة العبوس منزلة، و يا غافل لك الله، انفجرت قنينة النبيذ الوحيدة الرخيصة، وسال أحمرها أمام أعيننا وفمنا المتشوق لنبيذ، وإن كان مزاً فقد رضينا. عندها غنينا "يا اللي بتسأل عن الحياة، خدها كده زي ما هي"، وكانت تلك الشرارة التي كسرت ظهر التفكير .

وصرختُ: " يوريكا... يوريكا "، مقلدة أرخميدس حين ركض عارياً مكتشفاً قانون الطفو للأجسام .

من الجيد أن الطقس بارد وليس ثمة وسيلة تدفئة، لذلك تدفأت بالشمس حينها، وقد ارتديت اثنتي عشرة قطعة من الثياب لم ألحق أن أخلعها عني .

أيها الذكي، يا أرخميدس، يا رجل. أعرف أنك لم تفكر بها، لكن دعني أخبرك أن قانونك لا يقتصر على المادي ، وهذا اكتشافي أنا، وأخيراً " وجدتها... وجدتها"، و"سوف تطفو بنا الحياة ونلهو". لن أبقى على تماس مع الحياة، لم لا أنغمر بها؟

يقول قانون الطفو لدى أرخميدس إن "الجسم المغمور، كلياً أو جزئياً، في سائل، لا يذوب فيه ولا يتفاعل معه، فإن السائل يدفع الجسم بقوّة (قوّة الطفو ) وهذه القوة تساوي وزن السائل الذي يزيحه الجسم عند غمره"، أما قانوني العبقري، وللمرة الأخيرة: إن "الجسم المفكّر المغمور في الحياة القاسية الحارقة حد الانصهار والسيولة، لا يذوب معها ولا يتفاعل، فإن الحياة السائلة تدفع الجسم بقوة طفو، وهذه القوة تساوي وزن القسوة المائعة للحياة الذي يزيحه الجسم المفكر عند غمره" .

هكذا سأطفو، وستنسكب عن جنباتي الجدية القاسية للحياة، وتقل رويداً رويداً.

حسناً أيها الصباح، أهلاً بك. لقد تدبّرتُ أمري وعرفت ما علي فعله، سأتحاشى، بصعوبة بالغة، ما يثير التفكير لعلي أنجو. سأستخدم من عقلي ما قلّ ودلّ. يبدو أن للفكرة وزناً حقيقياً، و إلا لماذا أشعر بثقل في وزني كلما فكرت، أليست "ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهن شوامخ"؟

دفعت بيدي كل ذكرى مؤلمة وركنتها في كهف جليدي. نحن ممتلئون بتلك الكهوف والأروقة. في أعمق ما بي، ربما أشرق عليها شمساً حين أكون أكثر خفة. حسناً تمت عملية التكهّف بنجاح .

أيها الذكي، يا أرخميدس، يا رجل. أعرف أنك لم تفكر بها، لكن دعني أخبرك أن قانونك لا يقتصر على المادي ، وهذا اكتشافي أنا، وأخيراً " وجدتها... وجدتها"، و"سوف تطفو بنا الحياة ونلهو"

 وقفت في وجه باب البيت أتجهّز للخروج، أدرّب وجهي على حركات بهلوانية. خرجت للحياة بوجه بهلواني، قبال الباب "عيناي في عينيه في شفتيه في يديه"، أودّعه بقبلة مهرجة. أترى؟ لقد ابتسمت.

 في الطريق إلى العمل، لا بدّ أن أعرّج على فرن الخبز. على كوّته رجل يرتدي "فيلد" عسكرياً، للأمانة أغلب الرجال يرتدونه كدفءٍ لبقايا انتصار، أو هكذا يشبّه لهم، وعادة أقف في الطابور أفكر ريثما يأتي دوري الذي لا أسمح لأحد بسلبه مني. أفكر كي أبعد عن سمعي محاضرة سمجة يرخيها  صاحب "الفيلد" على جموع الحاضرين: "أنتو شعب ما بيليق فيكُن غير البوط العسكري" .

 المرة الأولى، والأخيرة، حين رددت عليه: "كل واحد يحكي عن حاله أخي"، يومها خرجت أرغفة الخبز محروقة ومحمّضة وكرَهني الطابور. صرت أسمع جملته، وأبتسم وأقول: "تسلم أخي. هالفيلد العسكري شو لابلقلك"، وأضحك مع الجميع على سخريته منا، نحن الشعب وهو المستثنى منه. أليس بيده قوت يومنا؟ هكذا أنا أخف.

الأغنية التي كنت أرددها على مسمع الأطفال بالمدرسة:" يا حرية يا بعيدة، تعي لعند الصبي،

 ليكبر الصبي"

وكانت الفتيات الصغيرات يضحكن: "أنسة بس الصبي بيكبر بالحرية؟"، وأقول: "لما الصبي يكبر بالحرية رح تكبر البنت معه"، وأتابع بجدية: "لو قال لتكبر البنت، ما كانوا سمحوا له أن يغنيها".

أيضا نحتاج للمواربة في الكلمات، كي لا تبقى حبيسة وثقيلة في الرأس، وكان يتعبني تعليق المدير وتقاريره، فبدلت الأغنية بواحدة لا تثير الأسئلة، بل تمنح الأولاد خفة، ويقفزون عليها بنشاط وحيوية:" كل ما الشمس تهمس همس، صباح الخير سوريا، فأرسل المدير بطلبي: "هيك الأغاني الوطنية اللي بترفع المعنويات" .

وافقته وأنا أهز برأسي وضحكت. كنت أشبه الكلب اللعبة ذا الرأس النابض الذي يستجيب رأسه لكل حركة للسيارة.

ضاءلت وقت السياسة واكتفيت برؤية الأحداث مختصرَة على قنوات إخبارية على الإنستاغرام. مقتطفات كافية لإصابتي بتوتر عال، لكني بادلتها بمشاهدة الصينيين وهم يأكلون بصوت كفعل نقار الخشب على الصدغ (ومالو؟). أكتم الصوت وأتابع باهتمام الحرب الدائرة بين جورجينا رودريغز، عشيقة رونالدو، وياسمين صبري، أو أتركها على إحدى القنوات السورية التي تحتفظ بحق الرد على غارة إسرائيلية في الثلاجة، وتضع برنامجاً عن "البطاريق في القطب المتجمد" .

أبدأ في قراءة كتاب علّه يسرقني، كتاب دسم، لكن هيهات. الدسامة قد تسد الشريان. أقرأ الصفحة الأولى وحين أقلب للصفحة الثانية، أجدني دون كلمات عالقة في رأسي فأعيد الصفحة الأولى. الصفحة الأولى... الصفحة الأولى. أرمي الكتاب وأدخن سيجارة. أشهق احتراقها من البداية للنهاية، وأقول لنفسي: "حلو احتراق الكلام بين الشفتين". ممّ يشكو  كتاب أحلام مستغانمي "الأسود يليق بك" ، أو "أحدى عشرة دقيقة لباولو كويلو"؟

أمضي الوقت واقفة على شباك المطبخ، أتابع ورق الشجر في الغابة المقابلة، فأرى أن الورق القلبي تلعب به الريح، وأما الأبري فيقول: "يا ورق ما تهزك ريح"، أو أتابع القطط أسفل البناية، والمارة من رجال ونساء يتحدثون للشارع وحيناً يقهقهون، فلا أخرج بعبرة .

ما أشعر به من خفّة وطفو ليس سوى أن  تفاهتي ما زالت أقل كثافة، حسب مبدأ كثافة الأجسام المغمورة في جسم سائل، فالجسم الأقل كثافة في التفاهة يطفو، وأما المغرق به فقد صار في قاع القاع

أبادل أم كلثوم "قربك نعيم الروح" بجورج وسوف "حلف القمر". أقضم ليمونة حامضة حين يقول: "قالي الدوا بين الجفون"، لكن جفون حبيبي مغمضة، فأسرع وأبادل "حلف القمر" بأي شيء زعّيق، فيصيح علي الديك "ضبي كليكيشك"، فتصيبني الحماس وأبدأ بالرجرجة .

أتابع مسلسلا هندياً، والمشهد طويل، فالكاميرا ترصد البطل الأسمر، ذا الشعر اللامع والمصفّف بكيلو من الزيت. (انشالله ما يكون زيت زيتون صار غالي كتير) وهو يندهش وببطء يفتح الشفتين ويرخي اللسان، ومن خلال فم البطل المتفاجئ دهراً نعرف لون بوكسره، والمشهد يبدو واقفاً. أغير القناة، فتتبختر عينيّ مع البطل، وهو يمرّ بين زخِ الرصاص في الفلم الأميركي الطويل جداً، وأعود للمسلسل الوطني، فأعتقد أن ممثلة واحدة تقوم بالأدوار جميعها. لقد نفخن جلدهن وأشياء أخرى فغرقن في الشبه، وأستمتع بالمسلسل، إذ إن أفكاره بها إسهال، أقصد استسهال، لا يحتاج سوى وصلة واحدة في الدماغ، والباقي لا بد أنه في سبات، وهو المطلوب  .

هكذا أمضيت أيامي بجهد تفكر يساوي الصفر، وعبور كثيف للتفاهة، وما لفتني أنها كانت متاحة وسائدة، وبدا لي أني من كان يقاومها، وأن تفاهتي المصطنعة الاختيارية. لا شيء يذكر أمام تفاهة عامة، تسيد وتميد. ابتسمت في قرارة نفسي، وقلت: "لا بد  أن أكتب عن فن التفاهة. سيكون دليلاً جيداً لأمثالي" .

وقلت أيضاً لا بد أن أحداً سبقني بالكتابة عن "فن التفاهة"، و أنه قبض على الفكرة العبقرية لقانون الطفو "طفو التفاهة ". كتبت فن التفاهة على جوجل، فرد علي بكتاب "نظام التفاهة" لآرنو دونو. للحق عنواني مثير وأجمل.

لم أتعب عقلي في قراءة الكتاب، واكتفيت بأن أطّلع على فحواه من مقاطع على اليوتيوب مصورة وممتعة، واستعرت الجمل الأولى التي كتبها في المقدمة: "أليس المكتوب مبين من عنوانه؟".

يقول آرنو دونو:  "ضع كتبك المعقدة جانباً، فكتب المحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً، ولا حتى مرتاحاً، لأن هذا يمكن أن يظهرك بمظهر المغرور. خفّف من شغفك لأنه مخيف، وقبل كل شيء لا تقدم لنا (فكرة جيدة) من فضلك، فآلة إتلاف الورق مليئة بها سلفاً. هذه النظرة الثاقبة في عينيك مقلقة: وسّعْ حدقتي عينيك وارْخِ شفتيك. يجب أن يكون للمرء أفكاراً رخوة، وينبغي أن يظهر ذلك".

وفرحت، إذ تبينَ لديّ الخيط الأبيض من الأسود، وما اعتقدته جدية قاسية للحياة، تبين أنه نظام تفاهة تأخذه على محمل الجد وبيدها عصا الشرطي، وأن التفاهة هي النظام السائد في العالم أجمع، وأن ما أشعر به من خفّة وطفو ليس سوى أن  تفاهتي ما زالت أقل كثافة، حسب مبدأ كثافة الأجسام المغمورة في جسم سائل، فالجسم الأقل كثافة في التفاهة يطفو، وأما المغرق به فقد صار في قاع القاع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image