قد تستغربون إذا علمتم أن ثاني أقدس المقامات اليهودية في العالم يقع في إيران، والأغرب من ذلك أن هذا المكان مفتوح برغم العداوة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل. ما نتحدث عنه هو مقام "أستير ومُردخاي" الذي يقع في مركز مدينة هَمَدان غرب إيران، ويستضيف يومياً اليهود من جميع أنحاء العالم وعلى وجه الخصوص يهود إيران، الذين يزورونه للتبرّك وتأدية فرائضهم الدينية.
وبرغم أن الضريح مفتوح في وجه الزوّار، إلا أن بعض الإيرانيين يعدّونه قنصليةً لإسرائيل في إيران، إذ يشهد في غالبية الأحيان تجمعات احتجاجيةً تنديداً بالعدوان الإسرائيلي على غزة والأراضي الفلسطينية. وخلال هذه التجمعات، عادةً ما يحرق المتجمعون أعلامَ إسرائيل ويهتفون بشعارات ضدّها.
لكن في المرة الأخيرة التي تجمّع فيها الناس في هذا المقام، وتحديداً بعد قصف إسرائيل قنصليةَ إيران في دمشق في الثاني من أبريل/نيسان الجاري، تعدّت أساليب احتجاجهم حرقَ العلمِ والهتافات إلى إلقاء مواد حارقة (على ما يبدو قنابل مولوتوف) في ساحة المقبرة، مما استدعى تدخّل السلطات الأمنية في هذه المدينة، وقد وعدت بملاحقة كل من شارك في محاولة إحراق هذا المكان وإلحاق الضرر به، والقبض عليه.
ما ذنب أستير ومردخاي؟
على خلفية هذه الأعمال، سأل الصحافي والناشط السياسي الإيراني الكردي إجلال قوامي، عن ذنب هذا المكان، وكتب في مذكرة قصيرة: "بطبيعة الحال، كان الناس المتجمعون أمام قبر 'أستير ومردخاي' عبارةً عن مجموعة خاصة ليست لها أي صلة بالمؤسسات المدنية في همدان، بل كان معظمهم عناصر مندسين من قبل جهات حكومية... وفي السنوات الماضية، كلما تصاعد الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، كانت تقام مثل تلك التجمعات أمام هذا القبر".
يقع أقدس مقام يهودي في العالم في غرب إيران، والأدهش من ذلك أن هذا المكان مفتوح برغم العداوة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل، ويُسمّى "مقام أستير ومردخاي"، ويستضيف يومياً اليهود من جميع أنحاء العالم وعلى وجه الخصوص يهود إيران
وتابع: "لكن السؤال الواضح الذي يطرح نفسه هو: ما ذنب أستير ومردخاي؟ هل قدسيتهما لدى اليهود تترجم صلتَهما بإسرائيل؟ وهل يجب على هذين الشخصين اللذين ماتا قبل قرون، ودُفنا في الساحة المركزية الحالية في همدان، أن يجيبا عن تصرفات الحكومة الإسرائيلية؟".
ما هو هذا المقام الذي تحوم حوله كل هذه الأحداث والجدالات؟
مقام أستير ومردخاي
وفقاً للتقاليد اليهودية الإيرانية، فإن هذا المقام هو مدفن أستير ومردخاي، لكن هذا التقليد غير مدعوم من قبل سائر اليهود، إذ لا يظهر في أي من التلمودَين "البابلي" أو "المقدسي"، كما أن المصدر اليهودي الأول الذي أشار إلى هذا المقام، هو كتاب الرابي بنيامين التطيلي، الذي زار مدينة هَمدان عام 1067، وحسب ما يقول فقد عاش 50 ألف يهودي في همدان، حيث دُفنت أستير إلى جانب مردخاي أمام كنيس المدينة.
وفي كتاب الشاعر اليهودي الإيراني شاهين، وهو المصدر الأول للتقاليد اليهودية الإيرانية، تُروى أحلام أستير ومردخاي ورحلتهما إلى همدان، حيث توفي مردخاي في الكنيس، ثم توفيت أستير بعد ساعة من وفاته. كان وجود هذا الضريح عاملاً مهماً في استمرار وجود اليهود في إيران، وتحديداً في همدان، حيث تسبب في تجمع اليهود حوله، ومكوثهم في حارة "قبر أستير" القريبة من المقام.
الملك خَشايار ومردخاي
بناءً على رواية قديمة، فإن قصة مقام أستير ومردخاي بدأت حين أقيمت حفلة في بلاط الملك الأخميني أخشورش أي خشايار (أو خَشايارْشا)، حيث استدعى خشايار الملكةَ وشتي، وهو في حالة نشوة، وطلب منها أن تُظهر جمالها أمام الضيوف، لكن الملكة رفضت ذلك، فقرر الملك خلعها وقتلها واستبدالها بملكة أخرى، وذلك بعدما أخذ بنصيحة مستشاره اليهودي مردخاي.
في أثناء البحث عن فتاة تحلّ محلّ الملكة، تم إحضار الفتيات العذراوات الجميلات إلى القصر لاختيار الملكة الجديدة، وكانت من بينهن فتاة تُسمّى هدسة، وهي فتاة يتيمة من يهود السوس المنفيين. ولما رآها الملك أُغرم بها واختارها لتكون الملكة الجديدة. هذه الفتاة هي أستير، التي كان يجهّزها خالها، وفي رواية أخرى ابن عمها، مردخاي، لتصبح يوماً ما ملكة إيران. يُذكر في هذه القصة أن مردخاي اكتشف مؤامرةً دبّرها شخصان من حاشية خشايار، وعزا هذا الأمر في ما بعد إلى ترقيته إلى منصب مستشار الملك.
وبعدما تزوج الملك خشايار من الفتاة اليهودية أستير، توسع نفوذ اليهود بشكل كبير في البلاط الملكي، لكن هذا النفوذ أثار حفيظة الكثير من رجال الدولة، ومن بينهم شخص كان يُدعى هامان، وكان أحد رجال الحاشية ذوي النفوذ والقدرة، والذي كان يخشى من تزايد نفوذ اليهود، ولذلك أقنع الملك بقتل مردخاي وجميع اليهود الموجودين في مملكته، فأصدر خشايار حكماً بقتل اليهود وعلى رأسهم مردخاي.
مردخاي المحكوم مع جميع اليهود بالموت، طلب العفو عن طريق الملكة أستير، لكن الملك خشايار عدّ حكمه غير قابل للرجعة عنه، وبدلاً من إسقاط أمره أصدر مرسوماً جديداً، يقونن فيه الدفاع عن النفس، الذي كان حتى ذلك الحين غير قانوني وفقاً لمرسوم الملك السابق، وبهذه الطريقة سمح خشايار لليهود الموجودين في كل مدينة بالتجمع والدفاع عن مردخاي وعن أنفسهم.
اليوم الذي صدر فيه هذا المرسوم الملكي، له قيمة كبيرة عند اليهود ويُعرف باسم عيد المساخر، ويحتفل به اليهود في 13 آذار/مارس من كل عام، كما يؤدون خلاله شعائر مختلفةً، منها الأدعية الخاصة بهذه المناسبة والصلوات والصيام، وقصة هذا العيد هي السبب الرئيس والأهم لشُهرة هذا المكان.
المقام المقدس... قبر أستير
استغلّ اليهود تسامح ملوك العصر الساساني، وتركوا وراءهم أماكن وأعمالاً رمزيةً في إيران، يمكن عدّ مقام أستير ومردخاي الذي يُسمّى عموماً "مقبرة أستير"، أشهرَ هذه الأعمال والأماكن. وهذا المبنى عبارة عن مبنى بسيط لولا بيئته الطبيعية لكانت حالته العامة أكثر إثارةً للاهتمام؛ رُمّم مرّاتٍ عدّة، أقدمها تلك التي حصلت في قبر تحت الأرض يقع في المدخل وأمام القبة المقوسة، وفيه مزاران خشبيان فارغان أحدهما قديم جداً، يرجع إلى فترة وجود سلالة المغول في إيران. ويقال إن الضريح الثاني هو تقليد جديد للضريح القديم، الذي تم بيعه واستبداله بالموجود حالياً.
برغم جميع الأحداث والظروف الصعبة التي يمرّ بها مقام أستير ومردخاي، إلا أنه يظل في الدرجة الأولى مكاناً تراثياً، يُثري التراث التاريخي الإيراني، وفي الدرجة الثانية هو مكان مقدس لليهود يجمعهم في إيران
هذا المبنى مصنوع من الحجر والطوب، والطراز المعماري المستخدَم في بنائه هو الطراز المعماري الإسلامي الذي يعود إلى القرن الهجري السابع، وقد بناه أرغون خان المغولي، ويوجد عند مدخل الباب الرئيسي لهذا الضريح باب صغير مصنوع من الحجر يُفتح ويُغلَق بواسطة مزلاج قديم.
نُقش على الجزء العلوي من الجدار الأمامي للقبر، نَقشٌ بارز باللغة العبرية، كما أن هناك نقوشاً أخرى جصّية بارزة على سائر جدران المقام، تعود جميعها إلى القرنَين الهجريين الثامن والتاسع، وفي منتصف الساحة الرئيسية للمبنى، يوجد قبران يُنسبان إلى أستير ومردخاي، وهذان القبران عبارة عن تابوتين خشبيين، منقوشة عليها نصوص بالعبرية.
اختلفت الآراء حول هوية المدفونَين في هذا المقام، لكن الرواية الأكثر شهرةً والتي تتوافق مع رواية المؤرخين اليونانيين ورواية التوراة عن قصة أستير ومردخاي، تشير إلى أن هذا المقام هو مدفن هذين الشخصين.
كان في هذا المقام كتاب توراة قديم مكتوب على جلد الغزلان، ولكن تم نقله إلى متحف مركز الثقافة والفنون في مدينة همدان، من أجل الحفاظ عليه.
برغم جميع الأحداث والظروف الصعبة التي يمرّ بها مقام أستير ومردخاي، إلا أنه يظل في الدرجة الأولى مكاناً تراثياً، يُثري التراث التاريخي الإيراني، وفي الدرجة الثانية هو مكان مقدس لليهود يجمعهم في البلد الذي بين نظامه وإسرائيل عداوة شديدة تحتدم يوماً بعد يوم، باعتبار الأخيرة الموطن الأساسي لليهود حالياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.