يسهل فهم جاذبية مفهوم "الأكوان الموازية" روائياً، لأنها تلامس أحلاماً وأفكاراً تلاعب خيالنا جميعاً على غرار: ماذا لو كنت فعلت هذا بدلاً من ذاك؟، ماذا لو كانت نسخة أخرى منك تعيش حياة مثالية؟، ماذا لو كان هناك عالم مختلف بقوانين وأعراف أفضل من العالم الذي تعيش فيه؟
المفهوم ازداد انتشاراً وعالمية في السنوات الأخيرة، بفضل أفلام هوليوود، وبالأخص الأعمال المرتبطة بالشخصيات الخارقة مثل سبايدر مان ودكتور سترينغ، بل واقتنص فيلم "كل شيء في كل مكان في نفس الوقت" المرتبط بهذا المفهوم، أوسكار أفضل فيلم عام 2023.
أشهر أفلام "الأكوان الموازية" في السنوات الأخيرة
لامست أعمال عربية مثل مسلسل "الصفارة" الكثير من جاذبية فكرة "ماذا لو" أيضاً حتّى لو غاب عنها مفهوم الأكوان الموازية. فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة"، في المقابل، هو الأكثر مباشرة في تناولها، وبالتأكيد هو اختيار فانتازي منسجم بالنظر إلى مسيرة بعض صناع العمل الفني.
فالبطل هشام ماجد كان واحداً من ثلاثي فني - مع أحمد فهمي وشيكو - ساهم في ضخ جرعة الفنتازيا للكوميديا المصرية في السينما والمسلسلات، بفضل أعمال مثل "سمير وشهير وبهير"، و"بنات العم"، و"الحرب العالمية الثالثة"، و"قلب أمه"، و"الرجل العناب"، و"اللعبة".
نجح فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة"، رغم الملاحظات عليه، في تحقيق مهمته الأساسية كعمل يتم تسويقه باعتباره "فيلم العيد"، وينتزع من جمهور القاعات عدداً كافياً من الضحكات لتبرير وجوده. لكنه على جاذبية وثراء الفكرة، أخفق في استثمار كل الفرص المتاحة، وينتهي دون أن يتحول إلى فيلم كوميدي مهم، من النوع الذي يثبت في الذاكرة
نفس الطابع الفنتازي الكوميدي، كان محور نجاحات المؤلف شريف نجيب في أعمال أشهرها "لا تراجع ولا استسلام"، و"كلب بلدي"، و"سيما علي بابا"، وكلها باستثناء "كلب بلدي" كانت من إخراج أحمد الجندي مخرج الفيلم.
يقدم الثلاثة - ماجد ونجيب والجندي - عادةً كوميديا تمزج بذكاء بين الثقافة الجماهيرية المصرية بكل موروثها السينمائي والتليفزيوني، وبين ثقافة المينستريم الأمريكية، وتستخدم بالتبادل واحدة فيهما للسخرية من الأخرى، أو لخلق مفارقة عجيبة.
يُلاحظ مثلاً في فيلم "سيما علي بابا" كيف تورّط "حزلئوم" - الشخصية الرئيسية - بكل ما يمثله كرمز للبلاهة والجهل في الثقافة الشعبية، داخل مغامرة فضائية عجيبة، مقتبسة بصرياً وصوتياً من سلاسل لها وزنها في الثقافة الأمريكية مثل "ستار وورز"، وطريقة الفيلم في اختلاق الكوميديا عبر السخرية من مكونات الثقافتين، أو التصادم بينهما.
أو كيف استلهم مسلسل الرجل العناب الكوميديا، من التناقض الصارخ بين الشخصيات الخارقة الأمريكية مثل سوبرمان، وبين ظهور بطل من نفس النوع داخل حارة شعبية.
في "فاصل من اللحظات اللذيذة" تغيب نسبياً جزئية السخرية من الثقافة الأمريكية والعالمية، حتى لو حضرت بشكل لافت وفعال ككوميديا في قليل من المشاهد، مثل الحديث عن التشابه بين الحمام في منزل البطلين، والحمام الموجود في الفيلم الكوري الشهير بارازيت.
التشابه بين الحمام في منزل البطل في "فاصل من اللحظات اللذيذة" والفيلم الكوري بارازيت
لامست أعمال عربية مثل مسلسل "الصفارة" الكثير من جاذبية فكرة "ماذا لو" أيضاً حتّى لو غاب عنها مفهوم الأكوان الموازية. فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة"، في المقابل، هو الأكثر مباشرة في تناولها، وبالتأكيد هو اختيار فانتازي منسجم بالنظر إلى مسيرة بعض صناع العمل الفني
لكن لا يغيب عن الفيلم تأسيس أبطاله بتركيبة أسرية جماهيرية، مطابقة لنموذج سائد في الثقافة والكوميديا المصرية - زوج فاشل وظيفياً منفصل عن واقعه ومقتنع بأنه عبقري، وزوجة غاضبة سليطة اللسان تهدد زوجها بالخُلع طول الوقت، وطفل مشاغب متعثر دراسياً.
الكوميديا هنا تحدث عندما تكتشف الأسرة بوابة لكون آخر موازٍ، يعيش فيه كل منهم حياة أكثر مثالية ونجاحاً وثراءً، لتبدأ محاولاتها للسطو على هذه الحياة، بدلاً من أن تصلح أحوالها.
هذه تركيبة يسهل أن تسقط في فخ الوعظ الاجتماعي المباشر كعادة السينما المصرية، لكن السيناريو الذي كتبه شريف نجيب وجورج عزمي، يتفادى إلى حد كبير هذه الجزئية باستثناء مشهد أو اثنين، وهى ميزة تُحسب لهما وللفيلم عامة.
في المقابل يسقط الفيلم في فخ آخر، ويلتهم بنفسه للأسف الكثير من أفكاره ومعطياته الثرية سريعاً، دون أن يخلق منها نتائج ذكية، أو كوميديا أقوى.
في بداية الأحداث، مثلاً، تظهر تركيبة معمارية وجغرافية كارثية ومضحكة لمنزل البطل، لكن الفيلم يكتفي باستعراض تفاصيلها في هذا المشهد، دون أن يوظفها لاحقاً بنفس الكفاءة وسط الأحداث، رغم ما تمنحه من فرص لاختلاق كوميديا بصرية، وهو عنصر غائب للأسف عن أغلب أفلامنا.
هنا الزاهد وهشام ماجد من فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة"
على صعيد الإخراج والصورة، نجح المخرج أحمد الجندي، أغلب الوقت، في تأسيس مكونات بصرية جذابة للكون الموازي، وهي نقطة مطلوبة لإغواء المشاهد واستيعابه لدوافع الأبطال في إدمان هذا العالم. لكنه يضيف، كمخرج، من وقت لآخر، لمسات ساخرة متوارثة من إعلانات الكمبوندات المعزولة، والحياة المثالية بثوابتها الدعائية الفجّة المعاصرة في التليفزيون والسوشيال ميديا.
هنا الزاهد وهشام ماجد من فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة"
في المقابل، أخفق المخرج مع كل من البطلين هشام ماجد وهنا الزاهد، في تأسيس اختلافات حركية وسلوكية قوية بين شخصياتهما في عالمنا، وشخصياتهما في العالم الموازي، وهي نقطة ضرورية ومطلوبة جداً للفيلم. هنا الزاهد كانت أفضل نسبياً في هذه الجزئية، مع الوضع في الاعتبار أن الفيلم يمنحها مساحة زمنية أقل من البطل.
يدفع هذا للتساؤل: إلى أي مدى كان سيستفيد الفيلم من نجم صاحب كاريزما أكبر، وأكثر مهارة في تأسيس سلوك وأنماط حركية مختلفة لشخصيتين مقارنة بهشام ماجد؟ أحمد مكي مثلاً كخبير في هذه الجزئية؟ أو محمد رمضان الذي لم يستثمر نفسه حتى الآن بدرجة كافية في الكوميديا، رغم أنه يملك متطلباتها؟
يُلاحظ في "فاصل من اللحظات اللذيذة" غياب تيمات تسمح بالكثير من النكات والملاحظات الاجتماعية، مثل الجنس في الكون الموازي، وإن كان من الممكن تفهّم مأزق صناع الفيلم المقيدين بضوابط المؤسسات الرقابية، وبالضوابط المطلوبة جماهيرياً أيضاً، لفيلم يستهدف الأسرة والأطفال فترة الأعياد
الرابح الأكبر على أي حال وسط نجوم الفيلم قد يكون محمد ثروت، الذي يقتنص العديد من الضحكات. يورّطه الفيلم خلال النصف الأول منه في بعض مقاطع الكوميديا الكسولة النمطية الخاصة بصديق البطل، لكنه يمنحه في النصف الثاني فرصاً متكررة لتداخل فوضوي وعبثي مع الأحداث، ولا يهدر أى منها كممثل كوميدي، وهو ما لم يحدث مع بيومي فؤاد الذي يظهر في الفيلم بأداء نمطي باهت، لشخصية أكثر نمطية وتكراراً في مسيرته.
محمد ثروت وهشام ماجد من "فاصل من اللحظات اللذيذة"
نفس الشيء يمكن قوله عن الطفل الذي يلعب دوره جان رامز. هذه الشخصية لم يستثمرها الفيلم بشكل فعال في نصفه الثاني، واكتفى بتكرار نكتة واحدة تقريباً تخصها مراراً وتكراراً، رغم أن مشاهدة ورصد الاختلاف بين العالمين من منظور الطفل نفسه كما حدث مع الأبوين، كان من الممكن أن يضيف الكثير.
إجمالاً نجح فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة"، رغم الملاحظات عليه، في تحقيق مهمته الأساسية كعمل يتم تسويقه باعتباره "فيلم العيد"، وينتزع من جمهور القاعات عدد كافي من الضحكات لتبرير وجوده. لكنه على جاذبية وثراء الفكرة، ورغم تقديم صُنّاعِهِ الكثير من المعطيات والتفاصيل الواعدة، أخفق في استثمار كل الفرص المتاحة، وينتهي دون أن يتحول إلى فيلم كوميدي مهم، من النوع الذي يثبت في الذاكرة.
في كون موازٍ آخر، ربما توجد فعلاً النسخة الأقوى من فيلم "فاصل من اللحظات اللذيذة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 16 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...