قد تكون مشاهدة الأفلام من الأشياء التي أحبها والتي تساعدني على اجتياز الوقت والملل.. أحياناً قد تعود عليّ بالفائدة، وأحياناً أخرى تكون مضيعة للوقت، ولكن تلك ليست بمشكلة، فوقتي ليس ثميناً جداً على أية حال.
في ليلة من الليالي الاعتيادية وبينما كنت أشاهد فيلماً كورياً يدعى "parasite" أو "الطفيلي"، كنت قد سمعت عنه كثيراً، بما أنه حاز على عدة جوائز أوسكار في السنة المنصرمة، لاحظت أن هذا الفيلم لا يعرض فقط حياة الفقراء مع مقارنتها بحياة مغايريهم من الأغنياء، بل يغوص بتفاصيل قد لا تخطر على بال المتابعين، كذكر رائحة العائلة الفقيرة غير المألوفة عدة مرات، ومن بين تلك المرات، تذمر الرجل الغني من رائحة سائقه الغريبة التي تعبق بالسيارة، وتصله إلى المقعد الخلفي.
وهنالك أيضاً مشهد الرجل الغني نفسه، يتورع عن إنقاذ رجل فقير مصاب غارق في دمه، مع أنه بكل تأكيد يملك مكاناً إضافياً في سيارته الفارهة… ولماذا؟ لأن لذلك الرجل المدمى رائحة وخزت أنف الآخر الغني، وعبر عنها بإشارة اشمئزاز… فكيف تبدو تلك الرائحة؟ أهي فعلاً رائحة الفقر؟
لا أعتقد أن الأثرياء أو الميسورين الجالسين في بيوتهم المريحة، قد يشغلون فكرهم بمواضيع تعتبر ثانوية بالنسبة لديهم، كالقلق مثلاً من عدم توافر مياه الاستحمام أو عدم توافر الكهرباء لتسخين هذه المياه، أضف إلى ذلك أنه دائماً ما يتواجد في غرفة نومهم الكثير من زجاجات العطور العالمية ومزيلات العرق، ولطالما توفرت لديهم عدة كاملة للاستحمام، للمحافظة على مظهرهم "اللائق والنظيف".
بالطبع لا ينطبق هذا الكلام على الأثرياء فقط، لا بل نجده أيضاً في الدول ميسورة الحال، التي يتمتع شعبها بقدر من الرفاهية التي تنقص دولنا مثلاً، حيث ينفق عدد لا يستهان به من السّكان نقودهم على مستحضرات الاستحمام، العطورات المختلفة، الكريمات المرطبة ومواد التجميل التي أصبحت أكثر ما نشاهد في الأسواق، وقد لا يكون الكثير منها ضرورياً.
على عكس الوضع في الدول أو المناطق الفقيرة التي تعاني من اقتصاد ضعيف، أو الدول المنكوبة من الحروب وتوابعها الكارثية، أو تلك التي تحدث فيها كارثة بيئية، والقائمة تطول للمصائب التي يمكن أن تتكرر وتحدث في هذا العالم.
تختلف أولويات الأفراد القاطنين في هذه الدول المنكوبة، فمن البديهي ألّا يفكر الإنسان الذي تعترضه مصيبة ما (من تلك المصائب التي ذكرت أو غيرها) بمواد الاستحمام والعطورات، من البديهي ألا يهتم بالأساس برائحته أو مظهره، حيث تكون اهتماماته منصبة على جوانب وأولويات أخرى، كتأمين الغذاء والمأوى والمواد الأساسية اللازمة للحياة.
بالطبع لن يدفع إنسان منكوب مبالغ تبدو بالنسبة له باهظة من أجل الاهتمام بمظهره الخارجي، ومن أجل الحصول على رائحة الزهور والعطور التي تعدنا هذه المستحضرات بالحصول عليها.
تختلف أولويات الأفراد القاطنين في الدول المنكوبة، فمن البديهي ألّا يفكر الإنسان الذي تعترضه مصيبة ما بمواد الاستحمام والعطورات، وألا يهتم بالأساس برائحته أو مظهره، حيث تكون اهتماماته منصبة على جوانب وأولويات أخرى، كتأمين الغذاء والمأوى والمواد الأساسية اللازمة للحياة
أتذكر دائماً أنني سمعت قصصاً من أصدقاء أو معارف لي، عن بلدان زاروها أو ذهبوا إليها مرغمين، عن مساوئ الروائح التي صادفوها في المواصلات العامة، أو في المناطق العشوائية والفقيرة من تلك البلدان، ولكن هل خطر لأحدنا من قبل التفكير بأسباب هذه الرائحة قبل الانتقاد؟ لماذا يبتعد الزبائن في المكان الذي أعمل به عن المشردين الذين يأتون طلباً لبعض الطعام الرخيص؟ لماذا يرمقونهم بتلك النظرة التي تعبر عن القرف والاستهجان؟ ولماذا يردّ المشردون بنظرة حقد بالمقابل؟
قد تكون هنالك أجوبة كثيرة لهذه الأسئلة وقد لا يكون هناك جواب مقنع، ولكن الطبقية كانت ولا تزال موجودة بين البشر، منذ لحظة اختراع نظام الحكم الملكي ووجود طبقة النبلاء وطبقة الخدم والحشم، مروراً بجميع المراحل التاريخية التي لم يستطع البشر خلالها، على الرغم من الثورات والتغييرات التي حصلت، أن يغيروا هذه الحقيقة.
حيث ينظر أصحاب المال في أغلب الأحيان إلى الفقراء على أنهم قطعة من ثياب رثة ذات رائحة غير جميلة، ويفضّلون الحفاظ على مسافة أمان بينهم كي لا يتسخوا، أو كيلا تعلق عليهم تلك الرائحة الواخزة، تلك الرائحة التي يمكن أن ندعوها برائحة الفقر.
ربما يجب على البشر أن يدركوا أن رائحة الفقر ليست مقززة، لا بل وجود الفقر بحد ذاته وإلى يومنا هذا، رغم ما وصلت إليه البشرية من تطور، هو الحقيقة المقززة
من جهة أخرى، ينظر الفقراء للأغنياء نظرة قد تحمل في طياتها حقداً دفيناً وإحساساً عالياً بالظلم، حيث تكون الحياة غير عادلة حين يأتي الأمر لتوزيع الثروات، فتتركز القيمة الكبرى منها بيد مجموعة من البشر، ويبقى القسم المنسي منهم، يكافح ويناضل من أجل الحصول على أشياء بديهية بالنسبة لغيرهم من الجنس ذاته.
ذلك ما يرفع الإحساس بالمظلومية لدى الفقراء، ويجعلهم كارهين لنظرات الاشمئزاز والشفقة التي يتلقونها خلال حياتهم، ولكنهم يحاولون بوسائل عدة تقليد ماركات الثياب والعطورات العالمية بأخرى محلية الصنع، مع تغيير طفيف بالأسماء وعالٍ بالجودة.
لا يزال ذلك المشهد الذي ذكرته من الفيلم يتكرر في ذاكرتي باستمرار، ولا تزال ردة فعل الأب الفقير على تصرّف الرجل الغني تثير التساؤلات في داخلي، حيث يستطيع تصرّف مثل هذا أن يجرح ويغضب إنسان بهذا العمق، ويدفعه لارتكاب جريمة!
ربما يجب على البشر أن يدركوا أن رائحة الفقر ليست مقززة، لا بل وجود الفقر بحد ذاته وإلى يومنا هذا، رغم ما وصلت إليه البشرية من تطور، هو الحقيقة المقززة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع