أغنية "فلسطين بلادي" لحمود الخضر هي أغنية تشدّ من روح الفلسطينيين خلال رحلة إبادتهم الجماعيّة على يد الجيش الإسرائيليّ. وتدغدغ عاطفة العرب والأحرار في العالم، وتعدهم بأن فلسطين زهرة تتعرض للاهتزاز خلال الحرب، ولن تُقطع أو تسقط.
فعلى الطريقة الكلاسيكية، كطريقة جوليا بطرس في حروب لبنان السابقة مع إسرائيل، تدعم الأغنية صمود الضحية وتشد أزرها. تقول "فلسطين بلادي": "لا لن نستسلم". لكن حمود الخضر لم يلتفت إلى أنّ هذه الحرب أبشع من فكرة القتال والاستسلام. هذه المرة ثمّة إبادة لا تتطلب نداءً تقليدياً للحرية.
وعلى نفس النهج، أُطلقت، خلال الإبادة أيضاً، أغنية "لو مرة بس" للفنان بيج سام، مصاحبة لفيديوهات وصور من غزّة المدمّرة. يقول مطلعها: "نسقط إن سقطت، ولن تسقط لا ولن نسقط ما دمنا باقون صبّاً كنهر الغيظ". تشدّ الأغنية من أزر الشعب المُباد وتتمنى له الراحة. مجرّد أمنيات تمضي على إيقاع سريع.
أغنية ثالثة انتشرت بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، نسمعها وهي ترافق مقاطع وصوراً قاسية تأتي من ميدان المحرقة والإبادة للأبرياء في غزة، هي أغنية "تلك قضيّة" لكايروكي باند.
أغنية تفضح وجه العالم وميزانه
يفهم المستمع مع مطلع الأغنية التي تقول: "ينقذ بسلاحف بحريّة... يقتل حيوانات بشريّة... تلك قضيّة وتلك قضيّة"، بأنّها لم تُكتب كي تشدّ من أزر الغزيين. ثمّة ما يفرض شعوراً بالانتكاسة حين تبدأ الأغنية بخلع القناع عن وجه العالم، ليبدو كم أنه محترق ومشوّه.
لذا عليك أن تغلق غرفتك عليك، وتطفئ النور، وتجلس للاستماع لـ"تلك قضية". ربما لتبكي وحيداً، أو لتسأل، في الأقلّ، هل هي فعلاً قضيّتك أم لا؟
هؤلاء القتلة، المتغوّطون في الدم الإنسانيّ يقودون العالم، يسحبونه بحبل غليظ نحو فشله، ولا يمكن أن يُقابل ما يفعلونه إلا بالرفض والتكذيب، فيتساءل مصطفى إبراهيم: "كيف أصدّق هذا العالم، لمّا يحكي عن الإنسان؟".
ثمّ تستدرك: يبدو أن الأغنية تسخر من المتشدّقين بشعارات الأناقة والمشية الناعمة على البساط الأحمر، وذوي المؤتمرات الدوليّة. وتسخر من مختبر صناع القرار في العالم الغربي، الذي يحاول الظهور بأنّه يعمل بشفافية مطلقة من أجل حماية الإنسان في كل مكان من خطر البيئة ومن خطر الإنسان ذاته.
فـ"تلك قضية" أطلقت في يوم قمّة المناخ. وكان العالم يبدو يومذاك مثل إنسان يضع يده في كبد آخر ليقتصّه، ويحمل في الأخرى راية السلام المطلق. فكان لا بدّ من السّخرية. لكن يبدو بأنّ الأغنية تسخر منّي أيضاً.
ثمّة في عبارة "يقتل حيوانات بشرية" سخريةٌ وتهكّم على الغرب، الذين يكيل بمكيالين، بل ويضع العجين تحت كفة من كفتيّ الميزان من أجل الاستمرار في غشّ الإنسان. في الغرب، الإنسان المتفوٍّق، وهنا في الشرق الأوسط يقبع الإنسان المتخلّف، الحيوان البشريّ، كتلة اللحم التي بلا وزن، والتي من المتاح قتلها، وتركها تتحلل في الشوارع. وقد قالها المجرم وزير الحرب يوآف غالانت، خلال خطابه بداية الحرب على غزة، حين اعتبر سكان غزة حيوانات بشرية، وأطلق أمر الإبادة الجماعية والقتل والتجويع للإنسان في غزّة. ذلك بمشاركة صارخة من أمريكا وفرنسا وإنجلترا، وكندا، والكثير من الدول الغربيّة والعربيّة، والتي بدت كالذيول التي تتبع كتلة الجسد وهو يداهم فريسته داخل الغابة.
"وتوزع عطفك وحنانك، عالمقتول حسب الجنسية". هذا ما بدا واضحاً، خلال الحرب على غزّة وقبلها، من اعتبار القتلى الإسرائيليين أطهاراً يستحقّون التعاطف والمشاعر النبيلة، على الرغم من أنّهم محتلون، ويقيمون في أرض ليست لهم، وعلى الرغم من أن القوانين الدوليّة المشرّعة تتيح للإنسان المحتل بأن يفعل ما يحلو له من أجل تطهير أرضه من أقدام المحتل. لكن العالم فقأ عيناً، وأبقى على الأخرى لتعتبر الجلّاد ضحية. على الجميع أن ينصاع لهذا المنطق، وإلا فهو إرهابيّ يريد دمار البشرية. وهنا يُظهر إبراهيم هذا المعنى بقوله: "كيف تكون إنساناً راق، ومطابق للاشتراطات، كل كلامك لابس واقي، وبتحضن كلّ الشجرات".
هذا الخليط من الكذب والتدليس الإنسانيّ يتم عبر تمديد الجسد المتعفّن وغمره بأرقى ماركات العطور لتقليل صراخ الرائحة النتنة. لكنّه كذب، لا شيء غير الكذب. ولطالما كان مثيراً للاشمئزاز. هؤلاء القتلة، المتغوّطون في الدم الإنسانيّ يقودون العالم، يسحبونه بحبل غليظ نحو فشله، ولا يمكن أن يُقابل ما يفعلونه إلا بالرفض والتكذيب، فيتساءل مصطفى إبراهيم: "كيف أصدّق هذا العالم، لمّا يحكي عن الإنسان؟".
كيف تمكّنوا من جعل شعوب هذا العالم دون أيدٍ، دون أقدام، ودون حواس.
هذه العنصرية، والازدواجية، ومواجهة العالم بيد سوداء وأخرى بيضاء، سياسة تتخذها إدارة بايدن، ومن قبلها االإدارات الأمريكيّة السابقة، متجاوزةً بكل وقاحة جميع الأعراف الإنسانيّة لحماية حقوق الإنسان وحياته خلال الأزمات والحروب. ويكفي استخدام أمريكا رصاصة الفيتو في مجلس الأمن الدوليّ مرتين لمنع وقف إطلاق النار في غزة خلال الأشهر الستة الماضية.
جميعنا في قاعة المحكمة
منذ اللحظة الأولى للأغنية، راودني شعور غريب، كأنّي أدخل قاعة محكمة ممنوع الكلام فيها، أو مقبرة لا مفرّ من الجلوس داخلها دون أن تعمل الذاكرة على سحب خيط قصص البكاء الكثيرة في فلسطين. ولا شك أن انتشار الأغنية في مواقع التواصل الاجتماعي، برفقة مشاهد الإبادة الجماعية في غزة، لم يحدث بسبب عمق الكلمات فقط، بل عمق صوت أمير عيد، الذي قدّم بالجزالة والصلابة المخبأتين داخله، طريقة لإزالة القسوة من القلب الإنسانيّ. لا أعلم كيف، لكنّه يتسلل دون أن تستطيع إيقافه. أما الموسيقى فتجبرك على الخشوع، ومراقبة أحاسيسك الجوّانيّة. لعلّك لم تلتفت إليها منذ زمن طويل. إنّه زمن الإنسانيّة.
كاتب كلمات "تلك قضية" هو الشّاعر مصطفى إبراهيم، الذي لمع خلال الثورة المصريّة عام 2011. وقدّم العديد من الأغاني الثوريّة. في هذه الأغنية، يبدو كما لو أنّه صياد يلقي شباكه في البحر. فالنص يحمل تأويلات عدّة، غموضاً في مواضع، ووضوحاً في أخرى. يلجأ إلى الفصحى، ثمّ إلى العاميّة المصريّة، مستعيناً بكلمات ذكيّة، وأخرى تبدو ركيكة لكنّها تُحتضن في قالب عميق جداً. هذه الحنكة في صياغة الكلمات صنعت من الأغنية يداً توجه المرء نحو ثورة من المشاعر. لا أظنّها تترك من يسمعها على البر. ففي "تلك قضية"، نقبع كلّنا داخل قاعة المحكمة وفي قفص الاتهام.
كذب علينا "كايروكي باند" عندما قدّم الأغنية على أنّها منتوج موسيقيّ، لكنّها في الحقيقة محكمة إنسانيّة حقيقيّة، محصلة سماعها هو البصق في وجه العالم، والبكاء البكاء.
إنّها ليست مجرّد أغنية صدرت خلال الحرب، بل أغنية تتحوّل في كلّ لحظة إلى قاعة محكمة، بقضاة ومتهمين، وميزان عدالة يكشف وزن الإنسان، ويفضح قدرته المعاصرة على ظلم الآخر. لذا كذب علينا "كايروكي باند" عندما قدّم الأغنية على أنّها منتوج موسيقيّ، لكنّها في الحقيقة محكمة إنسانيّة حقيقيّة، محصلة سماعها هو البصق في وجه العالم، والبكاء البكاء.
يتساءل إبراهيم: "كيف أنام قرير العين، وأضع سدادة أذنين؟" وفي هذا حوار داخليّ بين الإنسان ونفسه حول الطمس، طمس المعايير والقيم، ومعنى الوجود برمته. فأن تضع سدادة أذنين حتى لا تسمع صراخ الآخر، الذي يتعرض للسحق والتجريد القسريّ من الحياة. أستغرب، كيف يمكن لهؤلاء أن يناموا براحة وحولهم حيوان ضال يفترس إنساناً ويعرضه لأقسى أشكال العذاب؟ وعن هذا يكمل الشاعر بالقول: "العيال مدفونة ببيتها، ممنوع حد يخش يغيثها". كيف تمكّنوا من جعل شعوب هذا العالم دون أيدٍ، دون أقدام، ودون حواس.
إن الأغنية تطلق التساؤلات المتعددة حول ماهية عمل القوانين الإنسانيّة وطريقة سريانها بين الشعوب، وتكشف عن زيف المضمون مهما حاول أولئك تعميقه، فهو سطحي وساذج ومنفّر. فالعمق لا يمكن أن يكون بهذه الدناءة، العمق عملية قنص لذيذة للإنسان، لتحقيق إنسانيته عبر الجمال والمساواة، لا العنصرية والوحشية واستحقار الآخرين. فما بالكم لو كان هؤلاء الآخرون يقبعون تحت الاحتلال.
تتساءل الأغنية: "من أين طريق الحرية؟" و"كيف يسير قانون الغابة؟" كاشفة عن "سلخانة" يعيش داخلها الإنسان الفلسطينيّ، ويخضع لأقسى درجات التعذيب والقهر، والتنكيل بجثته وإحراقها، دون احترام أيّ قيمة إنسانيّة راسخة بالوعي الجمعيّ العالميّ. وكأنّ القيم كلها، مثل لاصقة ظهر، يتم نزعها في لحظة واستبدالها بقيم أخرى تُصنع حسب مزاج المجرم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...