شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"لم أبك على رجولتي، بل على إنسانيّتي"... ماذا يعني أن تكون رجلاً في غزة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 6 أبريل 202402:41 م
Read in English:

“I cry not only because I am a man, but because I am human”: What it means to be a man in Gaza

منذ بدء الحرب على غزة، نقرأ ونسمع تقارير صادرة عن وسائل إعلاميّة ومنظّمات حقوقيّة تحصي الشهداء من الأطفال والنساء، مستثنيةً الرّجال. ولعلّنا نحن أيضاً، المتلقين، على نحو واع أو غير واع، نردّد الجملة ذاتها التي تفيد باستشهاد 73٪ من النساء والأطفال. لكن من هم الرجال الذين يشكّلون النسبة المتبقية؟ وهل يرفض من يحصي هذه النسب إحصاء نسبة الرجال الشهداء من الفلسطينيين بصفتهم "إرهابيين" أو في الأقلّ "مقاتلين" يجوز لهم الموت؟

منذ بدء الحرب على غزّة في السّابع من أكتوبر، بعد الهجوم الذي نفّذته حماس، لم تتوقّف تصريحات المسؤولين الإسرائيليين "الإباديّة" التي ترى في كلّ فلسطينيّ مشروعاً إرهابيّاً حتّى لو كان طفلاً. فعملت هذه التصريحات على تغذية التوجهات الإعلاميّة التي تجرّد الفلسطينيين، سيّما الرّجال منهم، من صفتهم المدنيّة والإنسانيّة. حتّى أنّنا سمعنا لدى الإسرائيليين مصطلحاً بات الأكثر استخداماً في وصف الفلسطينيين في غزّة وفي تبرير قتلهم الجماعيّ وهو "المتورّطون". جميع سكّان غزّة متورّطون بشكل أو بآخر، فيحلّل قتلهم.

لكن هذه النظرة الإسرائيليّة لا تنفصل عن النظرة الغربيّة التاريخيّة للرجل الشرقيّ، وبالتالي للرجل الفلسطينيّ. وربّما صُدم العالم حين رأى وجه الغزيّ خالد نبهان، جدّ ريم "روح الرّوح"، الملتحي، ذا العمامة، الذي يذكّر بالصورة النمطيّة عن الرّجل الشرقيّ أو المتطرّف. فكُسرت هذه الصّورة عند كثيرين. إلا أنّها لم تكسر الصورة العامّة المتجذّرة لدى الإسرائيليّ، والتي تنرع عن الرّجل إنسانيّته.

"الحيوانات البشريّة" وشروع قتلها

اقتحم جنود الاحتلال الإسرائيليّ منزل الأسير المحرّر مهند عبد الواحد (43 عاماً) في غزّة. "داسوا علينا بالدبّابات. وقتلوا ابني الصّغير أمام عينيّ. ثمّ دفعوا كلباً باتجاهي فنهش جسدي"، يقول مهنّد لرصيف22. ويضيف: "لم أبد حينها أيّ ردة فعل، خوفاً من أن يقتلوا أطفالي، من بينهم طفلتي آيلا التي شاهدتهم وهم يقتادوني إلى الخارج. وكنت عاجزاً عن فعل أيّ شيء".

يؤكد مهنّد أنّ تعرّض الرجل للإهانة والتنكيل أمام أطفاله وهو عاجز عن الردّ هو أمر في غاية القسوة. "أدخلتني هذه اللحظة في حالة صدمة كبيرة. اعتقلوني مدّة عشرين يوماً. وفور الإفراج عنّي، توجّهت إلى ابنتي كي أحتضنها وأظلّ ذاك الأب القويّ الذي يسندها. لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات. وهي صغيرة جدّاً على الألم".

تمّت استعادة القاموس الأبيض الاستعماريّ الاستشراقيّ- ذي الجذور التاريخيّة- عند النظر إلى الفلسطينيّ بصفته "حيواناً بشريّاً" و"متخلّفاً"

مهنّد، رفقة رجال غزّيين آخرين، قادر على سرد شهادته التي جرّد فيها الاحتلال من إنسانيّته. وهناك آلاف الرّجال الآخرين الذين قُتلوا منذ بداية الحرب، سوف تُسرد قصصهم على ألسنة أفراد أسرهم، هذا إن شهدوا فعلاً حوادث قتلهم. ولعلّ "قتلهم مشروع كونهم رجال فلسطينيّين بالتحديد. إنّ جنسهم وعرقهم وتصنيفهم العام كـ"إرهابيي حماس"، يحجب صفتهم المدنيّة، معتبراً إيّاهم أناساً قادرين على القتل وغير قادرين على الحزن. فيصير قتلهم مبرّراً وشرعيّاً في سياق "مكافحة الإرهاب"، تكتب مجموعة من الباحثين في مقال نشرته الجزيرة الإنجليزيّة تحت عنوان "الرجال الفلسطينيّون ليسوا إرهابيين في طور التكوين".

يلفت علي حبيب الله الكاتب والباحث في الشأن الفلسطينيّ انتباهنا إلى أنّه "على الرغم من التطرّف الديني الحاصل في المجتمع الإسرائيليّ في العقود الأخيرة، والتحوّلات التي أحدثها على الخارطة السياسيّة، إلا أنّ إسرائيل لم تستخدم المصطلحات الدينيّة في حربها على "الآخر". فلم نسمع مثلاً اصطلاح "الأغيار" عند الحديث عن الفلسطينيين"، يقول حبيب الله لرصيف22.

ويردف: "بل تمّت استعادة القاموس الأبيض الاستعماريّ الاستشراقيّ- ذي الجذور التاريخيّة- عند النظر إلى الفلسطينيّ بصفته "حيواناً بشريّاً" و"متخلّفاً". هذا هو القاموس التاريخي الذي تبنّته البروباغندا الإسرائيليّة والذي حكم ويحكم الآن منطق تبرير قتل الفلسطينيين".

الاحتلال حين عرّى الرجل من ملابسه وإنسانيّته

لا تتوقّف الصور التي تهدر من هواتف الجنود الإسرائيليّين وهم يعتقلون الرجال الغزّيين ويعرّونهم ويكبّلونهم أكواماً في ناقلات الجنود وفي الملاعب والشّوارع. بعض الفيديوهات وصلتنا مرفقة بأغانٍ أو شتائم قاسية موجّهة لهؤلاء الأسرى الذين تخفيهم إسرائيل قسراً ولا تُعرف عنهم معلومات إلا القليل العامّ، كتصريح طبيب إسرائيليّ لصحيفة هآرتس في الرابع من نيسان/ أبريل 2024 بحدوث حالات بتر لأقدام الأسرى بسبب الأصفاد التي كبّلت أيديهم وقتاً طويلاً.

كان مهنّد أحد هؤلاء المعتقلين. وقد تعرّض خلال اعتقاله لجميع أنواع التعذيب والانتهاكات النفسية والجسدة في المعتقل الإسرائيلي، مما خلف لديه أزمة نفسية حادة. لم يتوقّف مهنّد عن البكاء أثناء حديثه، قائلاً: "لا أحد مخلوق من دم ولحم يتحمل ما يتحمله الرجل الفلسطينيّ في قطاع غزة. لا أحد يتحمّل كلّ هذا الألم والفقد والأسر والتعذيب. بكيت كثيراً على ما حدث معي. ليس لأنّي رجل فقط، بل لأنّي إنسان". ويشير مهنّد إلى تجاهل العالم لإنسانيّة الفلسطينيّ وضعفه أمام مشاهد القتل والدّمار. "هذا ما تروّج له الرواية الإسرائيليّة. تقتل وتأسر الفلسطينيّ وتدّعي محاربتها للإرهاب. عندما اعتقلوني وأنا آمنٌ في منزلي، ونكّلوا بي أمام أطفالي، فأين هو الإرهاب؟" يتساءل مهنّد.

لم أبد حينها أيّ ردة فعل، خوفاً من أن يقتلوا أطفالي، من بينهم طفلتي آيلا التي شاهدتهم وهم يقتادوني إلى الخارج. وكنت عاجزاً عن فعل أيّ شيء

"لقد كان مشهد الرّجال العراة مربكاً وينمّ عن تصوّر استشراقيّ لمجتمعنا كمجتمع أبويّ وذكوريّ، وعن مسّ واضح لهذا التصوّر عبر ممارسة أشدّ أشكال الإهانة بحقّه. لقد رأينا ذلك في مشاهد سابقة في أبو غريب مثلاً"، يقول حبيب الله. ويضيف: "لا ننسَ كذلك أنّ الإسرائيليين محكومون للنقد الغربيّ، للمجتمعات والصّحف والخطاب الغربيّ الذي يصوّر النساء والأطفال داخل معادلة الضحايا ويُخرج الرّجال منها. كما أنّ ممارسة العنف تجاه الرّجل الفلسطينيّ، توثيقه ونشره يعتبر أقلّ كلفةً على الإسرائيليّ، دوليّاً وداخليّاً، وقد لا يصيبه بتأنيب الضمير كما لو أنّه مارس هذا العنف ووثّقه ضدّ نساء أو أطفال".

ويرى حبيب الله بأنّ البنية الذهنيّة البشريّة، بعامّة، تُصنّف الرجال صانعاً للحرب ومنتجاً لها. وعليه، فمن الأسهل إخراجه من دائرة الضحايا. حتّى في أدبيّاتنا كعرب، نوصى بألا نقتل طفلاً أو امرأة. فننزع صفة المدنيّة عن الرجل بصفته حامل السّلاح. "وفي السّابع من أكتوبر ظهر الفلسطينيّ عند الإسرائيليين بصفته رجلاً فاعلاً وليس مفعولاً به. الأمر الذي ولّد نقمة لدى إسرائيل دفعتها لاستخدام أدوات ذات درجات عالية من الإهانة على هذا صورة هذا الرّجل الذي خطّط وفعل واقتحم".

تغيّرت الأدوار الاجتماعيّة

قبل الحرب، كان يعمل علاء أبو شعبان (44 عاماً) سائق تاكسي. بينما كانت زوجته تقوم بالأعمال المنزليّة، مع مساعدة ما منه. لكنّه فقد سيّارته في قصف إسرائيليّ فنزح مع عائلته إلى رفح ووجد نفسه يقاسم زوجته الأعباء المنزليّة. فتُضاف إلى همّه الأكبر في البحث عن مصدر رزق ليعيل عائلته المكوّنة من سبعة أفراد. "توقظني زوجتي كلّ صباح للبحث عن حطب أشعل فيه نيرات الطّهو. ثمّ أذهب بعدها للبحث عن محطّة لتعبئة المياه. أكون محظوظاً إن وجدت واحدة"، يقول علاء لرصيف22، ويردف: "في حال مرض أحد الأطفال أصطفّ في طابور طويل أمام العيادة للحصول على علاج".

نلحظ، أيضاً، أنّ الرّجال يقومون بأدوار جديدة خلال الحرب، تتمثّل في هبّتهم لمساعدة طواقم الدفاع المدني والإسعاف في البحث عن مفقودين وانتشال المصابين وإزالة الركام عند تعرّض منطقتهم للقصف.

وفي هذا السّياق، تشير الناشطة النسوية والمجتمعية آية الزيناتي في حديثها لرصيف 22 إلى أن "الحرب غيّرت الأدوار والوظائف النمطيّة الاجتماعيّة بين الرجل والمرأة، مخلفة أضراراً نفسيّة لكلا الجنسين، بعد أن وجد الرّجال والنساء أنفسهم أمام واقع جديد". وتقول الزيناتي شارحةً: "نزعت الحرب من الرّجال أرزاقهم وأعمالهم، وباتوا في صراع وجوديّ من حيث البحث عن مقوّمات الحياة، وإعداد الطّعام للأولاد ورعايتهم في النّزوح. من جهة أخرى، تقوم النّساء اللاتي فقدن أزواجهنّ في القصف أو الاعتقال، بدور الرّجال في إعالة العائلة ومحاولة توفير مصدر للرزق".

لا ننسَ كذلك أنّ الإسرائيليين محكومون للنقد الغربيّ، للمجتمعات والصّحف والخطاب الغربيّ الذي يصوّر النساء والأطفال داخل معادلة الضحايا ويُخرج الرّجال منها

الحرب لم تستثن أحداً

نزح الأربعينيّ محمّد الشيخ مع زوجته وأطفاله الثمانية إلى مدارس الإيواء في رفح بعد أن تعرّض منزله إلى القصف الإسرائيليّ. يشعل كلّ صباح النيران في الحطب كي تخبز زوجته الخبر وتبيعه للناس. "وضعتني الحرب أمام مسؤوليّات وأعباء كبيرة. أقضي يومي في تجهيز الفرن، ثمّ في تسخين المياه لأبنائي كي يستحمّوا، ثمّ في الوقوف في طوابير المساعدات حتّى أوفّر لقمةً لهم. أحياناً أعود خاوي اليدين فأضطرّ للبحث ساعات طويلة على بعض المعلّبات في السوق، في ظلّ غلاء الأسعار الفاحش"، يقول محمّد لرصيف22. وقد يستيقظ الأب ليلاً للذهاب مع أحد أطفاله إلى الحمّام بسبب خوفه الدائم من القصف. "قبل الحرب كانوا يعتمدون على والدتهم في هذه الأمور. لكنّهم يحتاجونني أيضاً كي أحتويهم ويتّكئون عليّ. أحياناً أقرأ لهم القصص حتّى أخفّف من مأساتهم وحرمانهم من اللعب والعيش بسلام"، يقول.

وتؤكّد الزيناتي أنّ هذه التغييرات المفاجأة على حياة الرّجال والنّساء تخلق بالضّرورة أزمة نفسيّة حادّة في ظلّ فقدان الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة".

فالحرب لم تستثن أحداً. لم تأتِ على فئة اجتماعيّة معيّنة ولم تدمّر حيوات جنس دون آخر. الجميع في غزّة، رجالاً وأطفالاً ونساءً وشيوخاً فقدوا الأمان في الحيّزين الخاصّ والعام، وفقدوا البيت، إمّا حقيقةً أو مجازاً. وفقدوا مدينتهم ومستقبلها المنظور. إنّه الفقدان الذي صنعه الاحتلال. الاحتلال الذي جرّد الرجل الفلسطينيّ من إنسانيّته. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image