يحتلّ شهر رمضان مكانةً دينيةً وروحيةً عظيمةً لدى المسلمين في مختلف الأماكن والعصور، ويفيد بعض الباحثين والدارسين بأن الحضارة المصرية القديمة عرفت الصيام، إذ يؤكد عالم المصريات وسيم السيسي، أنه بالرغم من أن الدين الإسلامي لم يكن قد نزل في فترة الفراعنة، إلا أنهم كانوا يصومون 30 يوماً، وعرفوا ليلة القدر: "وسيدنا إدريس كان أول الرسل والذين سبقوه كانوا أنبياء وليست لديهم رسالات".
ويضيف أن كلمة صوم كلمة مصرية قديمة تعني "صاو"، والميم تشير إلى "عن"، أي الامتناع عن، واستشهد بالآية القرآنية "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتّقون". وكان الصيام منذ بزوغ الفجر وحتى غروب الشمس.
ولكن الدكتور زاهي حواس، يؤكد أن المصري القديم عرف عبادات كثيرةً، وكل عبادة منها كانت لها طقوسها المختلفة، وأنه كان يبتهل إلى الآلهة ويقدّم لها القرابين ويحتفي بالأعياد المصرية القديمة، ولكن لم ترِد أي إشارة إلى عبادة تخصّ الصوم. بينما نفى بعض شيوخ الأزهر صيام الفراعنة شهر رمضان، مشيرين إلى أن الصيام كان روحانياً وعن الأذى، وليس كصيام المسلمين في رمضان.
رمضان قبل الإسلام
سمّى العرب رمضان "ناتق"، لأنه كان ينتقهم، أي يزعجهم بشدّته، وقيل لكثرة الأموال التي كانت العرب تجبيها فيه. أما تسمية "ناطل"، فمن النطل، وهو ما يرفع من نقيع الزبيب بعد السلاف، الجرعة من الماء واللبن والنبيذ والخمر.
يؤكد عالم المصريات وسيم السيسي، أنه بالرغم من أن الدين الإسلامي لم يكن قد نزل في فترة الفراعنة، إلا أنهم كانوا يصومون 30 يوماً، وعرفوا ليلة القدر: "وسيدنا إدريس كان أول الرسل والذين سبقوه كانوا أنبياء وليست لديهم رسالات"
قدّم المستشرق الإنكليزي إدوارد لين، عادات المصريين بين عامي 1833 و1935، في دراسته الشهيرة "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، وفيها يشرح كيف أنه بعد وصول الخبر إلى محكمة القاضي، يعود فريق من الجنود والمحدثين لإذاعته، سواءً كان ثمة صيام أم لا؟ فإذا كان هناك صيام تطوف الفرق لتعلن: "يا أتباع أفضل خلق الله صوموا صوموا"، وإذا لم يروا القمر: "غداً شعبان لا صيام لا صيام"، وتنتشر الفرحة وكأنه العيد. ولا يفوّت الكاتب الإشارة إلى أن أغلب الصائمين من الطبقة الفقيرة، وأن الكثير من أبناء الطبقة المتوسطة والغنية يفطرون سرّاً.
وكان علماء الحملة الفرنسية (1798-1801)، قد سبقوا لين، حيث يؤكد العالم آدم فرانسوا جومار: "يبدأ شهر رمضان مع ميلاد هلاله، ويعلن عن ذلك موكب احتفالي يسبق بداية الشهر بيومين، ويتكون من حشد من الرجال يحملون مشاعل وعصياً ويقومون بها بحركات مختلفة، بينما يمتطي البعض ظهور جمال وحمير ويضربون على طبول معدنية ويعزفون على آلات نفخ".
صدفة مدفع الإفطار
في الأغلب، مرجع المدفع صدفة في عهد خوش قَدَم المملوكي، الذي يقال إنه أمر بتجربة مدفع، وصادف ذلك الأول من رمضان 869هـ/1465م، وتزامن سماع دويّه مع وقت الإفطار، فاعتقد الأهالي أنه إعلان لتناول الطعام، وفي اليوم التالي أمر خوش بتكرار العادة طوال شهر رمضان، بعد علمه باستحسان الأهالي لها.
والأرجح أن العادة أقدم من الخديوي عباس، فالرحالة الإيرلندي ريتشارد بيرتون، الذي زار مصر عام 1853 يذكرها في مذكرات رحلته تحت عنوان "رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز"، ويصف حالة القاهرة عند اقتراب موعد الغروب: "ما أبطأ حلوله وكأن المدينة قد أفاقت من غشيتها فيطلّ الناس من النوافذ والشرفات ليرقبوا ساعة خلاصهم، وبعض الناس يصلّون وبعضهم يسبّحون ويتبادلون الزيارات قتلاً للوقت، وأخيراً ينطلق مدفع الإفطار ويجلجل المؤذن بأذانه الجميل داعياً الناس للصلاة، وينطلق صوت المدفع الثاني من قصر العباسية (عباس باشا الأول)، ويصيح الناس: الإفطار الإفطار وتعمّ همهمة الفرح".
الكنافة معشوقة المصريين
كان يطلَق على الكنافة اسم "زينة موائد الملوك"، ويقال إن معاوية بن أبي سفيان (608-680م)، هو أول من قُدّمت له من العرب كطعام للسحور، في أثناء ولايته على الشام، حسب ما ذُكر في كتاب "الأبصار في ممالك الأمطار"، لابن فضل الله العمري.
كما أشارت روايات إلى أن المصريين صنعوها لاستقبال المعزّ لدين الله الفاطمي (932-975م)، كنوع من مظاهر الاحتفال به، وصادف أن ذلك حدث بعد الإفطار في شهر رمضان، فأصبحت عادةً منذ ذلك الوقت، وثمة رواية أخرى تقول إن أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون المعروفة بلقب "قطر الندى"، أول من أدخلها إلى مصر من بلاد الشام من خلال رحلاتها العديدة.
تحدث الرحالة الأوربيون وعلماء الحملة الفرنسية عن طرائق إعدادها، وقدّم العالم كونتييه، رسماً دقيقاً لورشة صناعة الكنافة، وقدّم لها العالم بوديه وخصص لها مقالاً استهلّه بعبارة "فن صناعة الكنافة".
كيف سجّل الرحالة الأجانب عادات المصريين في رمضان؟
زار الفرنسي دي فيلامون، القاهرة، في القرن السادس عشر، سنة 1589، وتطرق في تفاصيل رحلته التي نشرها بعنوان "رحلات السير دي فيلامون"، إلى المواكب الدينية وحلقات قراءة القرآن في رمضان وزينة المساجد وعمارتها، وتحدث عن ظاهرة أشبه بما يُعرف حالياً باسم "موائد الرحمن" الخيرية التي عرفتها مصر على مدار عصورها الإسلامية حتى الآن، ولكن أول مائدة للرحمن كانت في عهد أحمد بن طولون (880م) مؤسس الدولة الطولونية، وكان كريماً فرض الموائد على الأثرياء وهددهم بإنزال أشد العقاب بهم إذا لم يلتزموا بإقامتها، ثم دار الفطرة في عهد الدولة الفاطمية وتُقدّم الأطعمة طوال رمضان والعيدَين والمولد النبوي وخمسة موالد أخرى. وكانت المائدة تمتد من 175 إلى 1100 متر، وكان الخليفة المعزّ لدين الله الفاطمي، أول من أرسى تقاليد المآدب الخيرية، وكان يُخرج من قصره صنوفاً من الطعام لتوزيعها على الفقراء.
وفي العصر المملوكي، كانت توزَّع رواتب إضافية وكميات مضاعفة من السكّر للفقراء، وتشتمل الموائد على اللحم والأرز والعسل.
أشارت روايات إلى أن المصريين صنعوا الكنافة لاستقبال المعزّ لدين الله الفاطمي (932-975م)، كنوع من مظاهر الاحتفال به، وصادف أن ذلك حدث بعد الإفطار في شهر رمضان، فأصبحت عادةً منذ ذلك الوقت.
وشارك الملك فاروق أبناء الشعب الفقراء في تناول الإفطار، حيث كانت تُفتح ساحة قصر عابدين لهم يومياً طوال شهر رمضان، وتُمدّ الموائد ويجتمع الجميع لتناول الإفطار، كما خصّص مطعماً في حي الجمالية يقدّم الوجبات للمحتاجين مجاناً طوال العام.
أما الفرنسي جومار، فيؤكد أن المظاهر الاحتفالية والانغماس في الملذّات صاحبت صيام المسلمين عكس صوم المسيحيين.
ويتحدث الفرنسي دو شابرول، في دراسة بعنوان "دراسة في عادات وتقاليد سكان مصر المحدثين"، ضمن دراسات كتاب "وصف مصر": "يسعى كل شخص في النهار قدر طاقته كي ينهي عمله في أسرع وقت، ليخصص بضع ساعات للنوم، فترى الفلاح راقداً تحت نخلة بعد أن أنهى في فترة الصباح عمله، وترى التاجر يرقد في دكانه، والعامة ممددين في الشوارع بجوار جدران مساكنهم، بينما الغنيّ راقد بالمثل نعسان ينتظر على أريكته الفاخرة، الفترة التي تسبق غروب الشمس، وأخيراً تأتي الساعة التي طال انتظارها، وينهضون على عجل ويهرع كل شخص للحصول على مكانه".
ويضيف: "تتجمع النساء في شرفات منازلهنّ لرؤية غروب الشمس... وتعلن الأغنيات حلول وقت المسرّات ووقت الطعام، ويأكل كل شخص بشراهة". وبعد الإفطار، يقول دو شابرول: "تعقب الطعام الاحتفالات والألعاب، وتسيطر الخلاعة الجامحة على ضروب اللهو. بينما تظل المساجد مضاءةً حتى بزوغ النهار، ويقضي أفاضل الناس ليلهم في حديث نافع، لكن الجمهور يذهب إلى المقاهي حيث الرواة يقصّون بحماسة ملتهبة مغامرات عجيبةً تخلب الألباب بطريقة فريدة".
ولم يفُت وليام لين، أن يتحدث عن مزاج المصريين خلال أيام الصيام، مشيراً إلى اضطراب الحالة المزاجية بحسب توقيت اليوم قائلاً: "يكون المسلمون طوال صومهم في النهار نكديي المزاج، ويتحولون في المساء بعد الإفطار إلى ودودين محبين بشكل غير عادي... ويتناول المسلمون فطورهم عامةً في منازلهم ويمضون بعده بساعة أو ساعتين أحياناً إلى منزل صديق، ويرتاد بعضهم، لا سيما أبناء الطبقات الدنيا، المقاهي في المساء، فيعقدون لقاءات اجتماعيةً أو يستمعون إلى رواة القصص الشعبية ... ويقيم بعض علماء الدين في القاهرة حلقات ذكر في منازلهم كل ليلة طوال هذا الشهر".
يرصد دو شابرول، تضارباً يراه غريباً، ويبرزه قائلاً: "شهر رمضان هو أهم الأوقات التي ينغمس فيها المصريون في المسرّات ومختلف ضروب اللهو، فهو شهر صيام وشهر مهرجانات. وقد يبدو من الغريب أن يختاروا (المصريون) مثل هذا التوقيت للقيام بممارسات متناقضة: التوبة وتطهير النفس من ناحية، وممارسة الملذات من ناحية أخرى".
ولم تغب المرأة المصرية عن المشهد بطبيعة الحال، وتحدث عنها في الطبقة العليا قائلاً: "تصل مباهج رمضان إلى معاقل النساء، ففي رمضان يُسمح للسيدات باستدعاء العوالم وبعض الموسيقيين، ويجلس الزوج باسترخاء ولا مبالاة على أريكته ومبسم نارجيلته في فمه، وبجانبه أحبّ زوجاته إلى قلبه، ليستمعا معاً بمتعة شديدة إلى أغنيات العوالم وصوت الموسيقى".
المسحراتي
لعب المسحراتي قديماً الدور نفسه الذي تلعبه الدراما التلفزيونية والفوازير حالياً. الرحالة الأب فيلكس زار مصر في 13 تشرين الأول/أكتوبر عام 1483، ورأى الفوانيس يحملها الكبار والصغار، وتحدث عن مهنة المسحراتي الذي يجوب القاهرة ليلاً ثلاث مرات ويدق على طبله، ويوقظ الناس لتناول الطعام منادياً كل واحد باسمه، ويقدّم العالم الفرنسي جيوم أندريه فيوتو، تعريفاً بالغ الدقة لهذه المهنة في دراسة بالغة الأهمية تناول فيها بالفحص الدقيق "الموسيقى والغناء عند المصريين المحدثين" وهي منشورة ضمن دراسات "وصف مصر".
ويقول: "هم نفر لا يسمع الناس غناءهم إلا خلال شهر رمضان، ويُسمّون بالمسحّرين، ويوصف بهذا الاسم أولئك الذين يعلنون كل يوم طيلة شهر رمضان، عن اللحظة التي يوشك فيها نور النهار الجديد أن ينبلج من ظلام اليوم المنصرم، وهي تُسمى في اللغة العربية بوقت السحور، وهي أيضاً الفترة التي ينبغي أن تتم فيها آخر وجبات الليل، لذلك يطلَق على هذه الوجبة السحور".
سمّى العرب رمضان "ناتق"، لأنه كان ينتقهم، أي يزعجهم بشدّته، وقيل لكثرة الأموال التي كانت العرب تجبيها فيه. أما تسمية "ناطل"، فمن النطل، وهو ما يرفع من نقيع الزبيب بعد السلاف، الجرعة من الماء واللبن والنبيذ والخمر
بيد أن وليام لين، ينفرد في تقديم مشهد نسائي لم يتحدث عنه الفرنسيون، أو ربما لم يسعفهم الوقت لرؤيته قائلاً: "تضع المرأة في العديد من منازل الطبقة المتوسطة في القاهرة قطعةً معدنيةً صغيرةً (أو خمس قطع من الفضة أو قرشاً أو أكثر) في قطعة من الورق، وتقذفها من النافذة إلى المسحّر بعد أن تكون قد أضرمت النار في الورقة حتى يرى مكان سقوطها. فيتلو المسحّر حسب رغبتها أو بملء إرادته سورة الفاتحة، وقصةً قصيرةً غير موزونة وغير مقفاة ليسلّيها كقصة الضرتّين وشجارهما. وتبعد بعض قصصه عن باب اللياقة والاحتشام، ومع ذلك تسمعها النساء القاطنات في المنازل ذات السمعة الطيبة".
ليلة القدر
وعن الثلث الأخير من رمضان، أفرد وليام لين، جانباً مميزاً قدّم فيه صورةً عن عادة المصريين خلاله، قائلاً: "يحيي الأتقياء المتدينون آخر عشرة أيام من رمضان بنهاراتها ولياليها في جامع الحسين وجامع السيدة زينب (في القاهرة)، وتُعرف إحدى هذه الليالي وهي ليلة السابع والعشرين منه عامةً بليلة القدر". وتحدّث عن عادة وضع وعاء فيه ماء مالح يذوقون طعمه ليروا إن بات حلو المذاق، فيتأكدوا أن تلك الليلة هي ليلة القدر".
ويظل الشهر سنوياً دافعاً لتجلّي الكثير من المعاني والعبادات وباعثاً للكثير من الابداعات الفنية والمظاهر الاحتفالية، وقد ظلت هذه السمات حاضرةً وعابرةً للزمن في العصور كلها.
أما احتفالات المصري قديماً بالموالد والأعياد، فهي تحمل الكثير من المفاجآت وربما تحتاج إلى تقرير منفصل وقد كتب عنها المؤرخون واستفاضوا في ذكر تفاصيلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه