حظيت فكرة الصيام كوسيلة إلى جسد رشيق وصحة جيدة، بشعبية كبيرة في عام 2012، بعد وثائقي أعدّه الصحافي البريطاني في "BBC"، الدكتور مايكل موسلي، والذي حمل عنوان" Eat Fast Live Longer".
ثم جاء كتاب الصحافية كيت هاريسون " The 5:2 Diet"، ليعطي زخماً جديداً للفكرة، بسردها تجربتها الذاتية مع الصيام المتقطع. وبعدها ألّف الدكتور جايسون فونغ "The Obesity Code"، الكتاب الأكثر مبيعاً في العالم عام 2016، والذي جمع بين الكثير من الأبحاث، وبين تجربته السريرية، ومن خلاله حارب العادات الاجتماعية التي تساعد على السمنة.
وفقاً لهذه الدراسات، هناك طرائق مختلفة للصيام، منها الصوم المتقطع، وهو عبارة عن دورات من الانقطاع عن الطعام والعودة إليه، وله أنظمة عدة أكثرها شيوعاً الانقطاع لمدة 16 ساعةً عن الأكل، مع السماح بشرب الماء، والأكل على مدار 8 ساعات، وهناك من يصوم يوماً ويأكل يوماً، وأنظمة أخرى.
وهناك الصوم الدوري، الذي يمتنع فيه الصائم عن تناول الطعام لعدد محدد من الأيام، مثل الصيام لمدة 3 أيام لمرة واحدة في الشهر. وهناك الصيام الجاف، الذي ينقطع فيه الصائم عن تناول الطعام والشراب معاً، كصيام المسلمين في شهر رمضان.
هناك عربي كان يصوم حتى صار كالذئب في خفّته ورشاقته! إنه ثابت بن أوس الأزدي، الشاعر الجاهلي الشهير بـ"الشنفرى"، الذي حكى لنا تجربته مع الجوع في شعره، وتحديداً في "القصيدة اللامية" المنسوبة إليه
لكن قبل هذه النظم، هناك عربي كان يصوم حتى صار كالذئب في خفّته ورشاقته! إنه ثابت بن أوس الأزدي، الشاعر الجاهلي الشهير بـ"الشنفرى"، الذي حكى لنا تجربته مع الجوع في شعره، وتحديداً في "القصيدة اللامية" المنسوبة إليه.
هناك أكثر من رواية تتعلق بنشأة الشنفرى وحياته، جاءت في كتب التراث، ونقلها الدكتور جواد علي من مصادر مختلفة في موسوعته "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، وكذلك نقلها الدكتور فؤاد إفرام البستاني في كتابه "الشعر الجاهلي: نشأته، فنونه، صفاته"، وغيرهما.
توفي الشنفرى عام 70 قبل هجرة النبي على الأرجح، وبعض الروايات تدّعي أنه نشأ في بني سلامان ضمن قبيلة الأزد اليمنية، حيث وُلد في القرن السادس الميلادي، وقيل إن بني سلامان أسروه صغيراً، فنشأ بينهم حتى هرب وعاد لينتقم منهم.
وقيل إنه علم بأنه أُسر وهو طفل ونشأ عندهم بعد أن قال يوماً لابنة مولاه "اغسلي رأسي يا أُخيّة"، فغاظها أن يناديها بـ"أخته" وهي تعلم أصله، فلطمته، فسأل الشنفرى عن سبب لطمها إياه، فأخبروه بحقيقته.
ونتيجةً لذلك أضمر الشرّ لبني سلامان، وأقسم أن يقتل منهم 100 رجل، نظير استعبادهم إياه.
بصرف النظر عن ملابسات حياته، إلا أن هناك اتفاقاً على أنه عاش طريداً بين الجبال والأدغال، واحترف السلب والنهب والغارات الليلية، وكان عدّاءً سريع الجري، يُضرَب به المثل في السرعة واتساع القفزات.
هذه الحياة الصعبة انعكست على أشعاره، خاصةً في "القصيدة اللامية" المنسوبة إليه، التي يصوّر في جزء منها جوعه وصيامه الجبري، الذي كان سبباً من أسباب خفّته ورشاقته، وكذلك معاناته الجسدية.
كيف عبّر الشنفرى عن صيامه الجبري من خلال شعره؟ وكيف نحلل انعكاس صيامه على حالته الجسدية من واقع الدراسات الطبية الحديثة؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في مقالنا.
كيف وصف الشنفرى صيامه؟
من خلال شعر الشنفرى عن صيامه وصبره على الجوع، نناقش أحواله الجسدية من خلال ربطها بدراسات طبية، كما يلي:
تكيّفه مع الجوع
يقول الشنفرى:
أُدِيمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُمِيتهُ/وأضربُ عنه الذِّكرَ صفحاً فأذهَلُ
"المطال" هو المدّ أو التسويف، "أذهَلُ" بمعنى أنسى؛ أي أن الشنفرى يظل يُمَنّي جوعه بالطعام حتى ينسى هذا الجوع، تعبيراً عن طول الوقت الذي كان يمكث فيها صائماً رغماً عن أنفه، نتيجة عيشه بين الجبال في بيئة قاحلة لا يوجد فيها طعام.
وتفسير ذلك أن خلايا الجسد الدهنية تحترق بعد فترة من الإحساس بالجوع، لينطلق السكّر المخزن فيها، فيتغذى الجسد عليها، وهنا يحدث الشعور بالشبع، حسب ما ذكر تقرير لكلية الطب في جامعة هارفرد، ناقش إيجابيات الصيام المتقطع.
ويصوّر الشنفرى بدقة حركة بطنه وأمعائه نتيجة إحساسه بالجوع، فيقول:
وأطوِي على الخُمص الحوايا/كما انطوتْ خُيُوطَةُ ماري تُغارُ وتفتلُ
"الخمص" أي الجوع، "الحوايا" ما يحوي البطن، "الخيوطة" الخيوط الكثيرة، "ماري" اسم غازل الخيوط؛ أي أن الشنفرى كان يطوي بطنه على الجوع كما تطوى الخيوط الملفوفة، وكأن الشنفرى كان يعلم أن بطنه يحوي أمعاءً تلتفّ حول بعضها مثل الخيوط، وتتقلص نتيجة خلوّها من الطعام.
جسده الرشيق ولياقته العالية نتيجة صيامه
نتيجةً للجوع والصيام الإجباري كان الشنفرى رشيق الجسد، سريع العدْو، يشبه الذئب في حركته، ويصوّر ذلك في قوله:
وأغدو على القوتِ الزهيدِ كما غدا/أزلُّ، تهاداه التَّنائِفُ، أطحلُ
غدا طَاوياً، يعارضُ الرِّيحَ، هافياً/يخُوتُ بأذناب الشِّعَاب، ويعْسِلُ
"الأزلّ" قليل لحم الوركين، وهي صفة للذئب المحذوف من بيت الشعر، "التنائف" جمع تنوفة وهي الفلاة لا تنبت شيئاً، "أطحل"، لون بين الغبرة والبياض، "طاوياً" من الطوى وهو الجوع، "يعارض الريح" أي يجري مثلها، "يخوت" أي ينقض، "الشعاب" أي الطرق الجبلية، "يعسل" أي يسرع باهتزاز.
هنا يشبّه الشنفرى نفسه بالذئب في صبره على الجوع، وأكل القليل من الطعام، الأمر الذي جعل جسده رشيقاً خفيفاً، يجوب الجبال وما بينها في سرعة تضاهي سرعة هذا الذئب، أو سرعة الرياح.
الطب لا يتعارض مع ما قاله الشنفرى، فقد أثبتت دراسات أن الصيام يساعد على فقدان الوزن ويمنح الجسد رشاقةً، سواء كان صياماً جافاً أي بلا شرب ماء، أو صياماً متقطعاً يتضمن شرب الماء، حسب ما أثبتت دراسة أجريت عام 2013، ونُشرت في مجلة the Journal of Human Nutrition and Dietetics المتخصصة في علم التغذية.
وحلل العلماء في الدراسة آثار الصيام الإسلامي خلال شهر رمضان، حيث ينقطع المسلمون عن الطعام والشراب من الفجر حتى غياب الشمس وأذان المغرب.
شملت الدراسة 240 شخصاً من البالغين الأصحّاء الذين صاموا لمدة 20 يوماً على الأقل، وقبل أسبوع من شهر رمضان، قاس الباحثون أوزان أجسام المشاركين وحساب مؤشر كتلة الجسم (BMI) لكل منهم.
وبعد أسبوع من انتهاء شهر رمضان، أجرى الباحثون القياسات نفسها على الأشخاص أنفسهم، فوجدوا أن وزن الجسم ومؤشر كتلة الجسم قد انخفضا لدى كل المشاركين في الدراسة تقريباً.
كذلك فقد ثبت أن من صاموا رمضان قد تمتعوا بمناعة قوية ضد الأمراض، وتبيّن أن الصيام يساعد على إعادة ضبط جهاز المناعة، عن طريق إزالة الخلايا التالفة، ما يسمح للجسم بإنتاج خلايا جديدة سليمة، الأمر الذي يوضح كيف أن الشنفرى تمتع بلياقة ورشاقة وصحة جيدة نتيجة صيامه الإجباري.
بشرة الشنفرى... هكذا يؤثر الصيام على الجلد
يصف الشنفرى جلده وتأثّره بالصبر على الجوع، فيقول:
مُهَلْهَلَةٌ، شِيبُ الوجوهِ، كأنها/قِداحٌ بكفَي ياسِرٍ تتَقَلْقَلُ
"مهلهلة" أي خفيفة اللحم، "شيب الوجوه"، أي بيضاء، "قداح"، جمع قدح، وهو قطعة من الخشب تُعرَّض قليلاً وتُسَوَّى كانت تُستخدم في المقامرة ولعب الميسر، "ياسر" أي لاعب الميسر يحرّك الأخشاب بين يديه، "تتقلقل" أي تتحرك.
هنا يصف الشنفرى وجهه ووجوه من هم على شاكلته، والتي يتغير شكلها ولون جلدها نتيجة الصيام، فصارت بيضاء ولكنها جافة كالخشب، وقد أثبتت دراسات حديثة أن الصيام له تأثير كبير على البشرة والجلد عموماً.
ويُعتَقد أن الصيام يبطئ التغيرات المرتبطة بالعمر، بما في ذلك شيخوخة الجلد؛ لأن تقييد السعرات الحرارية يرتبط بتباطؤ نمو الشيخوخة، فوفقاً لدراسة أُجريت عام 2018 ونُشرت فيCell MetabolismTrusted Source ، فإن تقييد السعرات الحرارية قلّل من المؤشرات الحيوية للشيخوخة لدى 53 من الشباب البالغين الأصحّاء الذين خضعوا للدراسة.
ولكن ليس هناك تأكيد عما إذا كانت هذه الفرضية مؤكدةً بالنسبة للصيام الجاف أم لا، كصيام رمضان الذي يُمتنع فيه عن شرب الماء، فالمعروف أن المياه مهمة لصحة الجلد، لا سيما في ما يتعلق بترطيبه ومنع جفافه، وهو ما أثبتته دراسات كثيرة، منها دراسة أمريكية نُشرت على موقع المكتبة الطبية الوطنية الأمريكية عام 2015.
الصيام الديني "الجاف"، كصوم رمضان، له فوائد روحية، فهو يؤدي إلى زيادة الامتنان، وإيمان أعمق، ووعي أفضل، كذلك فهو فرصة أكبر للصلاة والتقرب من الله، وهو ما أثبتته تجارب أجريت على الصيام الجاف، نفّذها متدينون وغير متدينين.
ولكن بجانب هذه الفوائد الروحية، فإن الانقطاع عن الطعام والشراب لفترة طويلة مضرّ، كما سنبيّن، ولكن قبلها دعونا نرى ماذا حدث للشنفرى نتيجة صيامه الطويل المبالغ فيه، في ما يتعلق بهذه الجزئية، حيث يقول:
مُهَرَّتَةٌ، فُوهٌ، كأن شُدُوقها/ شُقُوقُ العِصِيِّ، كالحاتٌ وَبُسَّلُ
"مهرّتة" أي مشقوقة الفم، "فوه" جمع أفواه وهي الفم المفتوح، "كالحات" أي عابسات الوجوه، "بسّل" جمع باسل وهو كريه المنظر متسخ الوجه. هنا يبين الشنفرى حاله الهزيل من شدة العطش والجوع الذي جعل فمه مفتوحاً لاهثاً، وشفاهه متشققةً، ووجهه عابساً كريه المنظر نتيجة صيامه الشديد.
هذا يأخذنا إلى ترجيح أن الشنفرى كثيراً ما كان يمتد صيامه لأيام عديدة، لم يكن يشرب أو يأكل خلالها، خاصةً أنه كان معتاداً على تحمّل الجوع، ويُفترض أن هذا الاعتياد لا يجعل الصيام لساعات أو حتى ليوم واحد يؤثر عليه هذا التأثير.
يصوّر الشنفرى بدقة حركة بطنه وأمعائه نتيجة إحساسه بالجوع، فيقول: وأطوِي على الخُمص الحوايا كما انطوتْ/خُيُوطَةُ ماري تُغارُ وتفتلُ
فالمبالغة في الصيام من الناحية الطبية مضرّة جداً، خاصةً إذا كان الصيام جافاً، فوفقاً لمقالة راجعتها Kirsten Nunez المتخصصة في علوم التغذية، فإن الصيام الجاف المتصل لفترات طويلة قد ينتج عنه ما يلي:
-الجفاف وقلة التبول، نتيجة عدم شرب الماء. وسيؤدي ذلك أيضاً إلى تغيّر لون البول وكراهة رائحته، كما يؤثر على الكلى نتيجة جفافها، الأمر الذي يؤدي أيضاً إلى احتمال تكوّن حصوات في الكلى والجهاز البولي، وحدوث التهابات، وذلك كله بالإضافة إلى جفاف الجلد وتشققه كما حدث مع شفتي الشنفرى.
-الجوع الزائد، خاصةً مع الحرمان من المياه، لأن عدم شرب الماء يساعد على الشعور الزائد بالجوع، فالماء يساعد على الشعور بالشبع.
-الإرهاق الشديد وانخفاض ضغط الدم، فعدم تناول الطعام وشرب الماء لفترات طويلة تفوق حدود تحمّل الجسد، يصيب صاحبه بالإرهاق والدوار والضعف العام وانخفاض ضغط الدم.
-الصداع وعدم التركيز؛ فالمبالغة في حرمان الجسد من الغذاء، تقيّد إفراز الكافيين والكربوهيدرات، ما يؤدي إلى الإصابة بالصداع وعدم التركيز، وقد يصل الأمر إلى الإغماء.
-الأكل المضطرب، قد يكون بعض الأفراد أكثر عرضةً للإفراط في تناول الطعام بعد الصيام الطويل، مما يزيد من خطر اضطراب الأكل لديهم.
مما سبق يتبيّن أن الصيام مفيد صحياً وروحياً، ولكن بتنظيم، وبعدم انقطاع لفترة طويلة عن الماء، ويتحدد ذلك وفقاً للحالة الجسدية لكل شخص، ومدى تحمّله، ووفقاً لنصائح الطبيب، خاصةً في حالة الإصابة بأمراض مزمنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...