يرتبط شهر رمضان بالعديد من الشعائر المتوارثة على مرّ السنين. حظيت تلك الشعائر بأهمية كبرى في الوجدان الشعبي المصري، فتوارثها الناس جيلاً بعد جيل. وبرغم شيوع تلك الشعائر إلا أن أصولها المبكرة مُحاطة بقدر كبير من الغموض. فهناك شعائر نشأت في أجواء إسلامية محضة، بينما صيغت شعائر أخرى قبل الإسلام بقرون عديدة. ما هي تلك الشعائر؟ وكيف ارتبطت بالفلكلور الشعبي المصري؟
الفانوس
اعتاد الأطفال اللعب بالفوانيس في شهر رمضان من كل عام. كما اعتادوا تعليق الفوانيس الخشبية كبيرة الحجم في الكثير من الحارات والشوارع. لا نعرف الأصل التاريخي لارتباط الفانوس بشهر رمضان على وجه التحديد، ولكن يمكن القول إن هناك نظريتين تفسران هذا الارتباط.
برغم شيوع شعائر شهر رمضان فی مصر إلا أن أصولها المبكرة مُحاطة بقدر كبير من الغموض. فهناك شعائر نشأت في أجواء إسلامية محضة، بينما صيغت شعائر أخرى قبل الإسلام بقرون عديدة
النظرية الأولى هي الأشهر، ويقول أصحابها إن الفانوس ارتبط برمضان في العصر الفاطمي في القرن الرابع الهجري. تحكي المصادر التاريخية أن القائد الفاطمي جوهر الصقلي تمكّن من الاستيلاء على مصر في سنة 358هـ. بعد سنوات قليلة، رأى الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، أن يتخذ من مصر عاصمةً لدولته الواسعة، فوضع أملاكه في المغرب تحت إدارة بعض أتباعه المخلصين، وسافر إلى مصر.
بحسب بعض الروايات فإن المعز وصل إلى الفسطاط في السابع من شهر رمضان سنة 362هـ. وبمجرد اقترابه من العاصمة، خرج الكثير من المصريين في موكب كبير للترحيب بالخليفة. ولمّا كان الوقت ليلاً، فإن المصريين أخذوا معهم الفوانيس المضيئة. وصار هذا التقليد معمولاً به في رمضان من كل سنة، وصار طقساً احتفالياً يستذكر من خلاله الأطفال خروج آبائهم لاستقبال الإمام الفاطمي.
تُصنع حلوى "الكحك" المصرية في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، ويأكلها المصريون في عيد الفطر علامةً على الابتهاج والسرور.
النظرية الثانية أكثر تعقيداً، وتربط بين الاحتفالات الإسلامية بشهر رمضان والاحتفالات القبطية المسيحية الأقدم. بحسب تلك الرؤية فإن الفانوس الإسلامي كان صورةً أخرى من صور "البلابيصا" القبطية. تُعرف البلابيصا في الأوساط القبطية المصرية بكونها فانوساً مصنوعاً من البرتقال يُرسم عليه رمز الصليب، وتوضع بداخله شمعة موقدة ويدور به الأطفال في الشوارع. اعتاد الأقباط أن يحملوا "البلابيصا" في عيد الغطاس الذي تحتفل به الكنيسة القبطية في الحادي عشر من شهر طوبة في التقويم القبطي، والذي يوافق التاسع عشر من كانون الثاني/يناير في التقويم الميلادي.
يمكن القول إن التحول الشعائري الاحتفالي من البلابيصا إلى الفانوس قد وقع في عصر الدولة الفاطمية، خصوصاً أن ذلك العصر شهد اعتناق عدد كبير من المصريين الدينَ الإسلامي. في تلك المرحلة، اصطبغت العديد من الشعائر والطقوس الفلكلورية المصرية بالصبغة الإسلامية لتتوافق مع الهوية الدينية الجديدة للمجتمع المصري. يُحتمل أن الفانوس الإسلامي كان أحد المفردات الشعائرية التي ظهرت في تلك الفترة.
"وحوي يا وحوي إيوحا"
اعتاد المصريون على استقبال شهر رمضان بتلك الكلمات منذ قرون. على الرغم من أننا لا نعرف المعنى الدقيق لها، إلا أنها، على الأرجح، ذات أصول مصرية مُغرقة في القِدم. قدم الدكتور وسيم السيسي، الباحث المتخصص في التاريخ المصري القديم تفسيراً لمعاني تلك الكلمات؛ فقال إن "واح وي إيوح" هي عبارة إشادة بالملكة المصرية القديمة "إياح حتب" من الأسرة السابعة عشر.
بحسب السيسي فإن إياح حتب لعبت دوراً مشهوداً في استثارة حمية ابنها أحمس الأول في أثناء حربه ضد الهكسوس الذين غزوا مصر في القرن السادس عشر قبل الميلاد. ومن ثم استحقت التقدير الشعبي بعدّها ملكةً عظيمةً دافعت عن بلادها ضد العدو. من جهة أخرى، توجد بعض الآراء التي تذهب إلى أن جملة "وحوي يا وحوي إياحة" ليست مرتبطةً بشخص محدد، وإنما تقترن باستقبال كل شهر قمري جديد، وذلك لأن كلمة "إياحة" تعني القمر أو الهلال.
بناءً على هذا الرأي، فإن المصريين اعتادوا غناء تلك الكلمات في أواخر كل شهر قمري تمهيداً لبدء الشهر الجديد. بغض النظر عن تلك الاختلافات، لا تزال أصداء تلك الكلمات الغامضة تتردد في الوجدان الشعبي المصري. في سنة 1937م، قُدّمت تلك الكلمات في أغنية مشهورة من تأليف الشاعر محمد حلمي المانسترلي وألحان وغناء أحمد عبد القادر. كُتب لتلك الأغنية قدر كبير من الانتشار والذيوع بين المصريين على مر الأجيال، وصار من المعتاد ترديد كلماتها مع قرب حلول شهر رمضان من كل عام.
موائد الرحمن
يوجد خلاف كبير حول أصل موائد الرحمن. يذهب البعض إلى أن والي مصر أحمد بن طولون كان أول من أقام تلك الموائد. فيما يرى آخرون أنها -أي الموائد- قد ظهرت للمرة الأولى عقب سيطرة الفاطميين على مصر؛ على سبيل المثال، يذكر المؤرخ تقي الدين المقريزي، في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله، "أقام طعاماً في جامع القاهرة لمن يحضر في ثلاثة أشهر، رجب وشعبان ورمضان".
بقيت موائد الرحمن في مصر قائمةً في العصر المملوكي. وحرص الكثير من السلاطين على ترتيبها وتنظيمها على أفضل وجه حتى ينالوا رضا الطبقات الفقيرة من المجتمع. من ذلك، ما ورد في وقف السلطان حسن بن قلاوون: "يُصرف في كل يوم من أيام شهر رمضان، عشرة قناطير من لحم الضأن، وأربعون قنطاراً من خبز القرصة، وحب الرمان وأرز وعسل وحبوب وتوابل، وأجرة من يتولى طبخ ذلك وتفرقته، وثمن غير ذلك مما يحتاج إليه من الآلات التي يطبخ فيها، فيطبخ ذلك في كل يوم من أيام الشهر الكريم".
بقيت تلك العادة أيضاً عقب الغزو العثماني لمصر. في القرن الثامن عشر، كانت مائدة عبد الرحمن كتخدا -وهو واحد من كبار الأمراء المماليك الذين تقاسموا السلطة مع العثمانيين في تلك الفترة- من أشهر موائد الرحمن التي عرفتها القاهرة على الإطلاق.
ويذكر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، بعض الأوصاف الخاصة بتلك المائدة: "يخرج -أي عبد الرحمن كتخدا- عند بيته في ليالي رمضان وقت الإفطار عدة من القصاع الكبار المملوءة بالثريد المسقي بمرق اللحم والسمن للفقراء المجتمعين، ويفرق عليهم النقيب هبر اللحم النضيج، فيعطي لكل فقير جعله وحصته في يده، وعندما يفرغون من الأكل، يعطي لكل واحد منهم رغيفين ونصفي فضة برسم سحوره إلى غير ذلك".
المسحراتي
لم يعرف المسلمون الأوائل مهنة المسحراتي. كان المؤذنون في عهد النبي والخلفاء الراشدين يضطلعون بمهمة إبلاغ الناس بموعد الامتناع عن تناول الطعام من خلال أذان الفجر الذي أداه كلٌّ من بلال بن رباح، وعبد الله بن أم مكتوم.
في القرن الثالث الهجري، عرف المصريون مهنة المسحراتي للمرة الأولى. ويُقصد به الشخص الذي يجوب الشوارع والحواري وقت السحر لإيقاظ الناس من النوم، وتنبيههم لتناول الطعام قُبيل دخول الفجر. كان والي مصر عنبسة بن إسحاق الضبي هو أول من امتهن تلك المهنة.
يتحدث أبو عمر الكندي في كتابه "الولاة والقضاة" عن تلك الحادثة، فيقول: "وأخذ عَنْبَسة العُمَّال بردّ المظالم وأقامهم للناس، وأَنصف منهم، وظهر بالحَوف من العدل ما لم يُسمع بِمثله فِي زمانه، وكان يروح إلى المسجد ماشياً من العسكر، وكان ينادي فِي شهر رمضان بالسّحور، وكان مشهوراً بمذهب الخوارج".
بعدها، انتشر المسحراتية في شتى ربوع مصر، وصاروا يتجولون في الأزقة وهم يدقّون على طبلة صغيرة. كما صاروا ينشدون بعض العبارات المنغمة التي تحض الناس على ذكر الله والقيام لتناول وجبة السحور، ومن أشهر تلك العبارات:
"يا نايم وحّد الدّايم... يا غافي وحّد الله
يا نايم وحّد مولاك... للي خلقك ما بنساك
قوموا إلى سحوركم... جاء رمضان يزوركم".
مدفع رمضان
إذا كان المصريون قد اتخذوا من المسحراتي مرشداً لتنبيههم وقت السحور، فإنهم قد جعلوا من الألعاب النارية (البمب والصواريخ) علامةً على حلول وقت المغرب والإفطار. توجد روايتان مشهورتان في تلك المسألة؛ الأولى، ترجع إلى العصر المملوكي في ستينيات القرن الخامس عشر الميلادي. يُحكى أن السلطان المملوكي خشْقَدَم أراد أن يجرب مدفعاً جديداً وصل إليه، وصادف إطلاق المدفع وقت غروب شمس أول يوم من رمضان سنة 865هـ.
ظنّ الناس أن إطلاق المدفع علامة على الإفطار، وفرحوا بذلك كثيراً، فرضخ السلطان لطلبهم وأبقى على تلك العادة حتى أضحت سنّةً متبعةً لقرون.
الرواية الثانية تذكر أن ضرب المدفع عن طريق الخطأ قد وقع في عهد الخديوي إسماعيل، خامس حكام مصر من الأسرة العلوية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي.
بقيت موائد الرحمن في مصر قائمةً في العصر المملوكي. وحرص الكثير من السلاطين على ترتيبها وتنظيمها على أفضل وجه حتى ينالوا رضا الطبقات الفقيرة من المجتمع
وتضيف الرواية أن الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل هي التي طلبت من والدها أن يبقي على تلك العادة بعدما رأت فرح العامة والبسطاء بها. مع انقراض المدافع القديمة، ظهرت المفرقعات والألعاب النارية وحلت محل المدفع، وصار من الطبيعي أن يُسمع دوي تلك الألعاب يومياً بالتزامن مع حلول وقت الإفطار.
"كحك العيد"
تُصنع حلوى الكحك المصرية في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، ويأكلها المصريون في عيد الفطر علامةً على الابتهاج والسرور. عرف المصريون صناعة الكحك المُكوّن من الدقيق الممزوج بالزيت والسكر منذ آلاف السنين. وتوجد العديد من المقابر المصرية القديمة التي سجلت نقوشها مراحل صناعة الكحك. ويُحتمل أن صناعته تزامنت مع بعض الأعياد الدينية المهمة.
استمرت صناعة الكحك في العصر القبطي. كما ظلت قائمةً عقب دخول الفاطميين لمصر. يذكر المقريزي في كتابه "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء"، أن الوزير الأخشيدي أبا بكر محمد بن علي المادرائي، اشتهر بموائده التي قدّم فيها الكحك للخاصة والعامة. يقول المقريزي إن الوزير مارس مجموعةً من الحيل الطريفة في بعض المرات. من ذلك أنه وضع الدنانير الذهبية داخل أقراص الكحك بدلاً من السكر، فخرج الناس من عنده وقد ملأوا جيوبهم من العملات الذهبية.
وصل الاهتمام بالكحك إلى أوجه في العصر الفاطمي. بحسب المقريزي فإن المصريين أنفقوا آلاف الدنانير لصناعة الكحك. كان هناك العديد من المصانع التي تخصصت في مزج الزيت والدقيق والسكر. وكان من المعتاد أن يتم البدء بإعداد الكحك في منتصف شهر رجب حتى يكون جاهزاً في أواخر رمضان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.