ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلال قاتمة على دول الاتحاد الأوروبي التي تأثرت سلباً بنقص إمدادات الطاقة. وتوجّهت أنظار القارة العجوز لمنطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط لإرساء شراكات قادرة على تعويض نقص الغاز الروسي وتحفيز خطط الإنعاش الاقتصادي بعد فترة ركود بسبب تداعيات وباء كورونا.
ويبدو الهيدروجين رأس حربة هذا التحوّل من أجل ضمان انتقال مستدام للطاقة ودعم تدابير إزالة الكربون. ويحتل الهيدروجين الأخضر، وهو نوع من الوقود الناتج عن عملية كيميائية يستخدم فيها تيار كهربائي ناتج عن مصادر متجددة لفصل الهيدروجين عن الأكسجين في الماء، مكاناً خاصاً في الصفقة الخضراء، التي أطلقها الاتحاد الأوروبي عام 2019، وقام بتحديثها عقب الغزو الروسي لأوكرانيا بهدف جعل أوروبا أول قارة محايدة مناخياً بحلول عام 2050.
وكجزء من هذا السيناريو الأوروبي، تأمل البلدان التي تتمتع بظروف مناخية ملائمة مثل المغرب وتونس أن تصبح طرفاً في هذا التوجه لجني بعض المكاسب على صعيدي الطاقة والاقتصاد.
تأمل تونس والمغرب أن تصبح طرفاً في التوجه الأوروبي نحو الهيدورجين الأخضر لجني المكاسب على صعيدي الطاقة والاقتصاد.
ألمانيا تنزل بثقلها
تعتبر ألمانيا أكثر دول الاتحاد الأوروبي نشاطاً في مجال صناعة الهيدروجين الذي يعدّ عصب الأساس لإعادة هيكلة الاقتصاد، رغم تزايد الضغوط بسبب ارتفاع تكلفة خطط التحول الأخضر التي يقودها روبرت هابيك، وزير الاقتصاد وحماية المناخ الألماني، لتغيير وجه أكبر اقتصاد في أوروبا.
وأشارت وزيرة البحث العلمي الاتحادية بيتينا شتارك-فاتسينغر خلال تقديم الإستراتيجية الوطنية الجديدة للهيدروجين، في تموز/ يوليو 2023 إلى أنّ الهيدروجين هو "الجزء الناقص من أجل إتمام لوحة تحول الطاقة".
وتحذّر هذه الاستراتيجية من أنه "لن يكون من الممكن إنتاج كميات كبيرة من الهيدروجين [...] نظراً لأن قدرات إنتاج الكهرباء من الطاقات المتجددة في ألمانيا محدودة"، خصوصاً أنها تسعى لتوليد 80% من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول نهاية العقد الجاري. لهذا السبب، تكافح ألمانيا لتغطية احتياجاتها من الهيدروجين الأخضر بمفردها وستضطرّ لاستيراد حوالي ثلثي الهيدروجين لضمان استقلاليتها الطاقيّة.
وتعتمد الحكومة الألمانية على العديد من أشكال التعاون الدولي أهمها إرساء "دبلوماسية هيدروجينية" تتمثل أهدافها في ضمان زيادة الواردات، ودعم قدرتها التنافسية والتوافق مع المبادئ الأساسية للاتحاد الأوروبي.
المغرب وتونس: تحمّس وتخوّف
وجّهت الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، أنظارها صوب المغرب ونجحت دبلوماسيتها النشطة في إقامة "شراكة مغربية ألمانية في مجال الطاقة" منذ عام 2012 وتوسيع نطاقها بين عامي 2020 و2023 لتشمل الهيدروجين.
ويسعى المغرب، أكثر دول شمال إفريقيا اعتماداً على الطاقات المتجددة، إلى عقد شراكات مستدامة في مجال الهيدروجين الأخضر للحد من عجزه الطاقي، خصوصاً أنه يستورد نحو 85% من احتياجاته الطاقية التي تتجاوز قيمتها 11 مليار دولار سنوياً.
تونس التي تعاني من الشح المائي، ستستنزف كميات كبيرة من المياه تعادل ما يستهلكه أكثر من 400 ألف مواطن تونسي لإنتاج الهيدروجين الأخضر الذي سيصدر نحو الخارج، في حين يهدّد الإجهاد المائي معظم القطاعات الاقتصادية في البلاد
وأبرز تقرير لموقع "هيدروجين إنسايت" أن المغرب "يعد من بين مورّدي الهيدروجين المحتملين إلى أوروبا، لأنه يستفيد من موارد الطاقة الشمسية والريحية والرياح وبسبب قربه الجغرافي". وفي آذار/ مارس 2024، أطلقت الحكومة المغربية "عرضها للمستثمرين" في الهيدروجين الأخضر وأشارت إلى أن 100 مستثمر محلي ودولي مهتمون بـهذا العرض الطموح.
وأظهرت خارطة الطريق المغربية التي أُعلنت للعموم سنة 2021 أنّ الحكومة تتوقع أن تحقّق مشاريع الهيدروجين الأخضر ومشتقاته إيرادات سنوية بحدود 2.1 مليار دولار سنوياً بحلول العام 2030، على أن تصل إلى 31.2 مليار دولار بحلول سنة 2050.
وفي إطار "العرض" المغربي لجذب المستثمرين، خصصت الحكومة عقارات عمومية مهمة، تناهز مساحتها مليون هكتار (نحو 10 آلاف كيلومتر مربع)، بهدف تطوير مشروعات الهيدروجين الأخضر، وجعل المملكة "فاعلاً تنافسياً في هذا القطاع".
ورغم التفاؤل الحكومي، حذّرت دراسة للمعهد عبر الوطني (TNI) من أن مشاريع الهيدروجين الأخضر الضخمة في المغرب تتسبب في تهميش المجتمعات المحلية وتهجيرها وتهديد مواردها المائية.
وعلى سبيل المثال، ساهم مشروع نور ورزازات، أول مشروعات الطاقة الشمسية بالمغرب وأكبرها، في تجفيف موارد المياه الصالحة للشرب بسبب عملية غسل الألواح الشمسية وتبريد منشآت المشروع.
كما أن الخطط الحكومية الرامية إلى تصدير أكثر من 70% من إنتاجها للهيدروجين الأخضر إلى أوروبا بحلول عام 2050، تثير تساؤلات حول قدرة المغرب على تعزيز استقلاليته الطاقية وخفض وارداته من الوقود الأحفوري ومواكبة الاستثمارات الضخمة المرتبطة به. ويهدف المغرب إلى الحد من الدعم الحكومي للوقود الأحفوري الذي بلغ نحو 7.6 مليار دولار سنة 2022، بعد أن أنهى دعم البنزين وزيت الوقود في عامي 2014 و2015 تزامناً مع انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية.
يشكو رهان البلدين على الهيدروجين من عقبات قد تؤدي إلى الزج بالمنطقة في أتون سياسات استعمارية جديدة.
من جهتها، بدأت تونس في صياغة إستراتيجيتها الوطنية الخاصة بالهيدروجين الأخضر منذ سنة 2022 وأطلقتها قبل أسابيع، معلنة رهانها على تصدير هذا الوقود الأخضر إلى أوروبا بدلاً من استخدامه محلياً.
وترتكز استراتيجية تونس على أربعة أسس وهي: إنتاج 8.3 مليون طن من الهيدروجين الأخضر في أفق سنة 2050، وتطوير البنية التحتية الطاقية، وتعزيز استخدام الهيدروجين الأخضر في مختلف القطاعات الصناعية وإنتاج الأسمدة الخضراء وتعزيز استخدامه في قطاع النقل وإنتاج الكهرباء.
وتثير المخاطر الاجتماعية والبيئية الناجمة عن مشاريع الهيدروجين قلقاً لدى الخبراء ونشطاء المجتمع المدني، خصوصا أن التجارب السابقة في تونس كشفت عجزاً واضحاً عن وضع خطط استباقية وطموحة لإدارة المياه من شأنها تحقيق العدالة المناخية والإنصاف لمجتمعاتها.
"تداعيات وخيمة"
ويحتاج إنتاج الهيدروجين الأخضر إمدادات ثابتة من المياه عالية الجودة، وهو أمر يسهل توفيره إلى حد ما في مناطق مثل أوروبا وأمريكا الشمالية، ولكن هذه الميزة غير متوفرة في منطقة شمال إفريقيا، إذ ستضطر تونس والمغرب غالباً إلى توسيع مشاريع تحلية مياه البحر الحالية لتوفير المياه لعملية الإنتاج.
ويعتبر عضو مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة، إلياس بن عمار، أن رهان تونس على الهيدروجين بالصيغة الحالية "ستكون له تداعيات وخيمة" لأن الحكومة التونسية "تحل مشكلة أوروبا التي تضررت من الحرب الروسية الأوكرانية، وستصدر أكثر من 6 ملايين طن من الهيدروجين الأخضر في العام 2050 وستستعمل أكثر من 90 غيغاوات من الطاقات المتجددة، كما ستستغل مساحات شاسعة من الأراضي تناهز 500 ألف هكتار".
ويقول عمار لرصيف22 إن تونس التي تعاني من الشح المائي، ستستنزف كميات كبيرة من المياه تعادل ما يستهلكه أكثر من 400 ألف مواطن تونسي لإنتاج الهيدروجين الأخضر الذي سيصدر نحو الخارج.
ويهدّد الإجهاد المائي معظم القطاعات الاقتصادية في تونس التي لجأت إلى اعتماد نظام الحصص في توزيع مياه الشرب، في مسعى منها للتقشف في مواردها المائية الشحيحة.
حذّرت دراسة من أن مشاريع الهيدروجين الأخضر الضخمة في المغرب تتسبب في تهميش المجتمعات المحلية وتهجيرها وتهديد مواردها. مثلاً ساهم مشروع نور ورزازات للطاقة الشمسية في تجفيف موارد المياه الصالحة للشرب بسبب عملية غسل الألواح الشمسية وتبريد المنشآت
في المقابل، اعتبر الخبير البيئي حمدي حشاد أن توجه تونس نحو الهيدروجين يبدو خياراً عقلانياً في ظل محدودية الخيارات لخفض العجز الطاقي الذي يلتهم جانباً من ميزانية الدعم في البلاد، فضلاً عن صعوبة استقطاب استثمارات كبيرة.
وقال لرصيف22 إن هناك حملات لشيطنة الهيدروجين في تونس بدون حجج مقنعة، لافتاً إلى أن هذه الحملات ستؤدي إلى إرباك أي مشاريع طاقية مستقبلية في البلاد. ويبيّن الخبير البيئي أن أولوية تونس الآن هي تحصيل أكبر قدر من المكاسب والاستثمارات مقابل أقل قدر ممكن من الأضرار البيئية.
ومن المنتظر أن تبلغ نفقات دعم للمحروقات والكهرباء في تونس سنة 2024 حوالي 7086 مليون دينار أي حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
تنافس بين البلدين
وتتنافس تونس والمغرب على من سيحتل مرتبة المصدّر الأول نحو السوق الأوروبية، لكن البلدين يواجهان تحدي تأسيس منظومة متكاملة لسلسلة قيم صناعية تبدأ بمحطات تحلية مياه البحر، والبنى التحتية لتخزين الكهرباء، انتهاء بإيجاد حلول عمليّة للتحديات المرتبطة بنقل الهيدروجين وتسويقه.
يحتاج إنتاج الهيدروجين الأخضر إمدادات ثابتة من المياه عالية الجودة.
ويشكك المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP)، وهو مركز أبحاث يقدم المشورة لوزارة الخارجية الألمانية، في الفوائد التي تعود على البلدان المصدرة، معتبراً أن البلدان النامية بشكل عام "ستحتاج إلى البنية التحتية والمواد والعمالة الماهرة والتكنولوجيات من الخارج".
ويضيف المعهد، في دراسة حول الجغرافيا السياسية للهيدروجين، أنه سيتعين على المستوردين "إيجاد توازن عادل - إذا كان موجوداً بالفعل - بين تشجيع الواردات واحترام المبادرات المحلية، ومنع التبعيّة النيوليبراليّة وعواقبها الضارة على اقتصادات المصدرين ومجتمعاتهم".
ختاماً، يعيد النمط الاستنزافي لمشاريع الهيدروجين الأخضر المعد للتصدير في بلدان تعاني الشح المائي مثل المغرب وتونس إلى الأذهان شبح الزراعات التصديرية، التي أدت إلى تعميق أزمات الزراعة وتوزيع المياه في البلدين.
ومع غياب دراسات جدوى شاملة يقع فيها إشراك حقيقي للفاعلين الوطنيين ويُصغى فيها لأصوات المجتمعات المحليّة، يشكو رهان البلدين على الهيدروجين من العديد من العقبات التي قد تؤدي إلى الزج بالمنطقة في أتون سياسات استعمارية جديدة ذات أبعاد استخراجية محضة، وتفاقم التبعية الطاقيّة والاقتصادية للمغرب وتونس بدل انتشالهما منها.
أُعدّ هذا المقال بدعم من منظمة "Clean Energy Wire" في إطار برنامج "لا تترك أحداً يتخلف عن ركب التحول الأخضر في أوروبا"
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 15 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 22 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com