أين تذهب الأعوام عندما تنقضي؟ أين تذهب الموسيقى؟ يقول العلماء إنها تتابع طريقها إلى الفضاء. ولكن، مع أنّ الصوت يستطيع تجاوز الغلاف الجوي، أحياناً لا يصل إلى الغرفة المجاورة. في وداعه، أتذكّر غرفتي الصغيرة، في منزلنا القديم في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكيف بدأت صداقتي مع زياد الرحباني عبر أثير "صوت الشعب"، وكيف أصبحت يسارياً، وكيف غادرت الغرفة لاحقاً، ثم غادرت اليسار وعدت إلى الغرفة، ثم خرجت، وعدت، وخرجت، وهكذا... ما زال الراديو في مكانه، لكن الحياة حوله تبعثرت قليلاً.
في سنواته الأخيرة، اختار زياد الصمت. ولم يكن هذا الخيار وجودياً لشخصٍ يكاد يكون صوتاً أكثر من كونه إنساناً. لقد كان زياد الرحباني صوتاً في الأساس، اضطر إلى أن يكون شخصاً. وكنّا نحب ذلك الصوت. ارتبكنا أحياناً وكثيراً من سلوك إنساني يستتبعه. لكننا في مكانٍ عميق، داخل أرواحنا المتصدّعة بقذائف الحرب والمفتتة بأسلاك الطوائف، كنّا نعرف أنّه صوت. اختار زياد في سنواته الأخيرة ألا يكون أباً. لمرّةٍ أخيرة وحاسمة، استجمع ما تبقّى له من قوّة، واختار أن ينسحب من أبوّةٍ ما انفكّت تلازمه، لأبناءٍ لم يكونوا أبناءه يوماً، ولم يرِد في حياته أن يكون أباً لهم: اليساريون المهزومون والجالسون في مقاهي الحرب والمهاجرون بعد الذبول، والذين هم مثلي هربوا من الحرب عبر راديو صغير.
تعاملنا بمنتهى القسوة مع زياد الرحباني. ويجب أن نشعر بالخجل منه. لم ندعه وشأنه. ولطالما أردنا منه موقفاً أكبر منه ومنّا... لم نكتفِ بذلك، بل ألبسناه قناعاً صلباً هو العبقرية. ولا أعرف بأي عين سننظر إليه الآن، نحن الذين لم نعترف يوماً أنه لم يكن سوى واحدٍ منّا. لماذا لم ينتبه أحد إلى أنه أنفق عمراً شاقّاً وهو يحاول إزاحة القناع الثقيل عن وجهه؟
تعاملنا بمنتهى القسوة مع زياد الرحباني. ويجب أن نشعر بالخجل منه. لم ندعه وشأنه. لم نستمع إلى الموسيقى لبضع دقائق. ولطالما أردنا منه موقفاً أكبر منه ومنّا. وهذا ما زلنا نفعله مع بعضنا البعض، ويفعل بنا هذا ما يفعله. استدرجناه إلى الحرب بعدما انتهت. وبعدما دفنّاها ولوّحت فوق ذكراها النساء بمناديل الأسف، التي سحقتها أبصار الأبطال والمنتصرين. استدرجناه إلى السجالات التي استعجلنا عدّها أخلاقيةً، كشرطٍ غير معلن لكي نعترف بوجوده بيننا. لم نكتفِ بذلك، بل ألبسناه قناعاً صلباً هو العبقرية. ولا أعرف بأي عين سننظر إليه الآن، نحن الذين لم نعترف يوماً أنه لم يكن سوى واحدٍ منّا. لماذا لم ينتبه أحد إلى أنه أنفق عمراً شاقّاً وهو يحاول إزاحة القناع الثقيل عن وجهه؟ لكي يقول ما يريد أن يقوله، من دون أن يتربص به أحد.
طوال حياته، أراد أن يمشي. مثل أي أحد منّا، أراد أن يمشي وأن يتحدث. وأن يكون في صفٍ واحد مع عمّالٍ ومياومين وعازفين وأشخاص "عاديين". وقد لا نتفق معه في ما يقوله، وقد نشعر بأنه عدوّ للحداثة ولخطاباتها. ولكن الحداثة ليست طوطماً. وهو حرّ في ما يحب وفي ما يكره. وقد نعجب أنّ الكتائبيين يحبّونه مع أنه بقي منحازاً للفلسطينيين حتى أغلق عينيه أخيراً. وقد نعجب، وقد نسأل. لكن يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا حاربنا موسيقياً؟ لماذا حمّلناه دائماً أكثر من طاقته، وأردنا منه دائماً ألا يكون هو نفسه، بل أن يكون أباً، لنحارب أبوته؟ وما هذا الفراغ الهائل الذي يتركه الآن سوى دليلٍ لكونه كان صوتاً في الأساس.
والآن، يعود إلى قلب فيروز لينام. وميس الريم أشبه بدعوة، من أجل الحداثة لا ضدّها. كانت تحديثاً بالغ الأثر في الألحان من دون أن يكون في ذلك انقطاع عن الزمان والمكان، أو عن الروح المتألّمة لنزيف الآخرين. ما أراد زياد الرحباني قوله، والآن يمكن فهمه أكثر، هو أنّ الموسيقى تحمل الحقيقة على ظهرها وفي متنها. تأخذني مَيس الريم إلى طفولتي وإلى المستقبل في الوقت نفسه. آخذها معي أينما ذهبت، وتأخذني إلى فلسطين، وإلى روما أيضاً. وإلى بيروت. هل يمكنني ألا أحبّ ذلك الصوت؟
لم يكن زياد الرحباني عبقرياً. والعبقرية صفة في غاية القسوة. يراد منها إخراج الطابع الإنساني ممن تُطلَق عليهم. ولم يكن حساساً، لأنّ النعت في سياقه العبثي يضمر شيئاً من الاستخفاف. الحساسية صفة بشرية، وهو مثلنا لم يقرر تجاهلها. أنفقها على الموسيقى. ولم يكن نبيّاً، على ما درجت العادة في الأدبيات الصحافية الملوّثة بالنزعات الإسكاتولوجية المشوّهة. ولم يكن قديساً أيضاً
مع ذلك لم يكن عبقرياً. والعبقرية صفة في غاية القسوة. يراد منها إخراج الطابع الإنساني ممن تُطلَق عليهم. ولم يكن حساساً، لأنّ النعت في سياقه العبثي يضمر شيئاً من الاستخفاف. الحساسية صفة بشرية، وهو مثلنا لم يقرر تجاهلها. أنفقها على الموسيقى. ولم يكن نبيّاً، على ما درجت العادة في الأدبيات الصحافية الملوّثة بالنزعات الإسكاتولوجية المشوّهة. ولم يكن قديساً أيضاً. حياته مليئة بالأخطاء، مثل حياة أي أحد. كان موسيقياً بكل بساطة، وهذا يجب أن يكون كافياً لنهدأ ونستمع. وقد كان العالم بالنسبة له، عبارةً عن أصوات مشتتة، فاعتقد طوال حياته أنّ مهمته هي تتبّعها والتقاطها، ومساعدتها في العبور. أليست هذه هي الموسيقى؟ الأصوات التي تأتي وتذهب، ولا نعرف من أين وإلى أين؟
جعلتنا تلك الموسيقى نبتسم، وأحياناً جعلت قلوبنا تنقبض. أراه الآن منهمكاً خلف البيانو ينجز عملاً ضخماً. وقد أراد التأكيد في أكثر من مناسبة، أنّ ما يجمعه بالعالم، وبالعمال وضحايا الاستعمار وما شئنا من أفكارٍ كبيرة، كان يخرج من هناك. من ذلك البيانو. جعلنا الصوت نبتسم. وإذ تبعنا تلك الموسيقى، وجدنا أنفسنا خارج الحرب. لقد كنت واحداً من الذين تبعوا هذا الصوت يوماً، إلى حيث ينتهي، فوجدتني خارج غرفة الحرب المغلقة. بعد كل شيء، كيف يمكنني ألا أحبّ صوتاً كهذا؟ والآن، كيف يمكن لهذا الصمت ألا يكون موحشاً؟
عرفت متأخراً أنّ "آثار على الرمال" لم تكن فقط تلك المعزوفة الشهيرة لزياد، وأنّه أعدّها في الأصل، لمسلسل دارمي لبناني، لم تتسنَّ لي مشاهدته. شاهدت الحرب، ولطالما اعتقدت أنّ ذلك كان هو المسلسل. لم تفارقني الموسيقى وأنا أكتب. فالموسيقى في نهاية الأمر لا تغادر الغلاف الجوي. تبقى آثاراً على الرمال. تجيء الموسيقى وتذهب، مثل ذاكرة رمادية، أحياناً مفترسة وأحياناً مُستَسلِمة. مثل جيل كامل يعترف بالهزيمة.
اعترف زياد أخيراً باسم كثيرين ونيابةً عنهم. ترك خلفه راديو صغير تبعثرت حوله حياة لا تحتاج إلى توضيب. والبقية في حياة الأحياء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.