عائد من زمن آخر... جورج عبد الله حرّ بعد 41 سنةً

عائد من زمن آخر... جورج عبد الله حرّ بعد 41 سنةً

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 25 يوليو 20259 دقائق للقراءة

في لحظة فريدة نادراً ما تتكرّر في التاريخ الحديث، قررت محكمة الاستئناف في باريس في 17 تموز/ يوليو 2025، إطلاق سراح المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، بعد ما يقرب من 41 عاماً في السجن، لتضع بذلك حدّاً لأحد أطول الملفات القضائية المثيرة للجدل في أوروبا. وحدًاً آخر لتهم الهيمنة السياسية على قرار القضاء، الذي جاء متزامناً مع إعلان الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون نيته الاعتراف بدولة فلسطين في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول/ سبتمبر المقبل. 

انفجار في الصحافة العالمية 

في الصحف الفرنسية الكبرى مثل "Le Monde"، وصف المحللون هذه الخطوة بأنها "محاولة نادرة لإعادة الاعتبار للمبدأ القانوني بعد سنوات طويلة من التأجيل السياسي"، عادّين أن القرار جاء بوصفه "ردّاً ضمنياً على ضغوط أجنبية أثقلت كاهل القضاء"، خاصةً بعد تدخلات الولايات المتحدة وإسرائيل لمنع إطلاق سراحه، برغم أنه كان مؤهلاً لذلك منذ عام 1999 ضمن الحد الأدنى للعقوبة. 

في المقابل، وصفت وسائل الإعلام الأمريكية مثل "AP"، القضية بأنها "معركة بين العدالة والسياسة"، متسائلةً عمّا إذا كان من الممكن أن تتحول قضية عبد الله من قلم محكمة إلى ورقة ضغط دبلوماسي، بينما أعرب مراقبون أنّ وزارة العدل الأمريكية رأت في قرار إطلاق سراحه خطراً على الدبلوماسيين الأمريكيين، وأنّ الإفراج عنه لا يخدم مصالح واشنطن أو حلفائها. 

أما في إسرائيل، فقد وصفته الصحافة بأنّه "إرهابي من الدرجة الأولى"، وانتقدت توصيفه كمناضل أو رمز للمقاومة كما في بعض التغطيات العربية والعالمية. صحيفة "The Times of Israel"، وصفت عبد الله بأنه "إرهابي لبناني"، عادّةً أنّ خروجه من السجن "جائزة للإرهاب"، وسلّطت الضوء على مواقف حكومية إسرائيلية وصفت القرار بأنه "يمثل تهديداً مستمراً وليس مجرد حدث تاريخي من الماضي"، وأنّ "إطلاق سراحه قد يشجع مجموعات مدعومةً من إيران على الهجمات".

إطلاق سراح جورج إبراهيم عبد الله بعد 41 عاماً شكّل لحظة قانونية وسياسية نادرة في تاريخ فرنسا، إذ أظهر كيف يمكن للسلطة القضائية في البلد الذي يرمز للحرية، أن تخضع لعقود لضغوط سياسية أمريكية وإسرائيلية. القرار لم يكن فقط نهاية لاعتقال فرد، بل هزّة أخلاقية وتذكير بمفهوم العدالة في الغرب

صحيفة "Jerusalem Post"، ذكرت أنّ عبد الله لا يزال "مدافعاً قويّاً عن القضية الفلسطينية"! مستشهدين بتحذيرات وزارة العدل الأمريكية بأنّ "قرار القضاء الفرنسي يشكل خطراً على أمن دبلوماسيين أمريكيين"، ومؤكدين أنّ هناك "سابقةً أمنيةً خطيرةً" ستفتح الباب أمام انتكاسات مستقبلية في سياسة التعامل مع الإرهاب في أوروبا. ومن جانب آخر، انفجرت التغطية العربية، واللبنانية تحديداً، في مؤسسات الإعلام القومي مثل صحيفة "الأخبار"، و"الميادين" التي عدّته "رمزاً لصمود المقاومة"، معتبرةً أنّ هذا الحكم يمثل "انتصاراً أخيراً لمنظومة حقوق الإنسان والدفاع عن القضية الفلسطينية"، ودعوةً لإعادة إحياء الحراك الشعبي عبر "مقاومة موحّدة".

اليسار الفرنسي كان حاضراً أيضاً، إذ أكّد بعض المفكرين اليساريين والكتّاب الفرنسيين، مثل آني إيرنو وجاك جايّو، أنّ "معاملة فرنسا بحق عبد الله كشفت ازدواجيةً صارخةً في المعايير"، حيث أصرّت الحكومات المتعاقبة على إبقائه في السجن برغم تحقق شروط الإفراج عليه، بينما منحت إطلاقات سراح لآخرين من تيارات بعيدة عن القضية الفلسطينية، ما أثار انتقادات حادّةً لقيم العدالة في الجمهورية الفرنسية.

هنا تتلاقى محطات العدالة والقانون والدبلوماسية والصراع الدولي في قصّة رجل واحد، قضى أكثر من نصف عمره خلف القضبان. إنها لحظة تنتهي بها المعركة القانونية لكنها تفتح من جديد ملف الأسئلة الراديكالية حول الحرية والعدالة والأيديولوجيا والهوية.

فمن هو جورج إبراهيم عبد الله؟ من كان؟ ومن أصبح؟ 

الصبي الماروني الذي أصبح رمزاً للمقاومة 

وُلد جورج إبراهيم عبد الله، في 2 نيسان/ أبريل 1951، في بلدة القبيات شمالي لبنان لعائلة مارونية مكوّنة من تسعة أبناء، وأب يعمل ضابطاً في الجيش اللبناني. في شبابه عمل عبد الله معلّماً ثانوياً في بعقلين في سهل البقاع، حيث صقل اهتمامه بالقضايا الاجتماعية والعدالة للفلسطينيين ومناهضة الإمبريالية، خاصةً في الكتابات والسياسات القومية آنذاك، ثم تابع دراسته، وتأثر بالفكر اليساري والثوري، ما شكّل بوصلة تفكيره السياسي لاحقاً. 

في عام 1978، تعرّض جورج إبراهيم عبد الله، لإصابة خلال الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني، وهي تجربة تحدّث عنها الإعلام بشكل متكرر، في عدد من التقارير الصحافية والمصادر التحليلية، كمحطة أساسية في مساره السياسي. في العام نفسه، انضمّ إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (PFLP)، لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وهو الوقت الذي عدّه كثيرون بداية دخوله الفعلي إلى معترك العمل الثوري.

هل كان تزامن الإفراج عن جورج عبد الله مع إعلان الاعتراف بدولة فلسطين من قبل فرنسا صدفة... أم رسالة مقصودة من ماكرون لنتنياهو؟

في عام 1979، أسّس جورج إبراهيم عبد الله، تنظيماً صغيراً ذا طابع ماركسي علماني يُعرف بـ"الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" (LARF). جاء تأسيس هذا التنظيم بعد تفكك فرع العمليات الخاصة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (PFLP–SO)، وكان يتكوّن أساساً من مجموعات لبنانية من منطقة القبيات تدعم العمل المسلّح ضدّ النفوذ الإسرائيلي والأمريكي. لعب عبد الله دور القائد التنظيمي والسياسي البارز لهذا التنظيم منذ بداياته، وحتى انخراطه الكامل في العمل الميداني والإستراتيجي. 

ذكرت مصادر عدة أنّ الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية أقامت تحالفات رمزيةً وتنسيقاً محدوداً مع حركات يسارية غربية مسلّحة، مثل "Action Directe" الفرنسية، و"Brigate Rosse" الإيطالية، و"Red Army Faction" الألمانية. هذا الاتصال انعكس في رسائل مشتركة وتفاهم أيديولوجي عام حول محاربة الإمبريالية الغربية، وإن لم يرتبط بعلاقة تنظيمية رسمية عميقة.

وبين عامَي 1981 و1982، تبنّت الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، عدداً من الهجمات في فرنسا، أبرزها اغتيال الدبلوماسي الأمريكي تشارلز روبرت راي، في كانون الثاني/ يناير 1982، ثم اغتيال الدبلوماسي الإسرائيلي يعقوب بارسيمانتوف، في نيسان/ أبريل من العام نفسه، وتمّ ربط هذه العمليات رسمياً بجدّية التنظيم في مواجهة النفوذ الأمريكي والإسرائيلي داخل أوروبا. 

هل كان القضاء الفرنسي "مستقلاً" معه؟ 

في تشرين الأول/ أكتوبر 1984، صدر أمر بإلقاء القبض عليه في مدينة ليون الفرنسية، بعد ضبط جوازات سفر مزيّفة ومواد متفجرة في مسكنٍ كان يقيم فيه، ما أدّى إلى توجيه تهم إليه بحيازة أسلحة والتآمر الإرهابي. في أثناء محاكمته، أكّد أنه لم يرتكب جريمةً، بل ناضل دفاعاً عن "المقاومة"، ولم يتخلَّ عن موقفه السياسي. وفي 2013، وافقت محكمة التنفيذ العقابي على إطلاق سراح مشروط له يتمثل في الترحيل فحسب، لكن وزير الداخلية آنذاك مانويل فالس، رفض توقيع إذن الترحيل تحت ضغوط دبلوماسية أمريكية وإسرائيلية، ما حال دون الإفراج القانوني عنه برغم صدور حكم بالإفراج بشروط.

على الرغم من أنه أتمّ الحدّ الأدنى لمدّة العقوبة في 1999، فقد رفض القضاء الفرنسي أكثر من 11 طلباً للإفراج عنه، بسبب "عدم ندمه"، والصراع القانوني بين القضاء الفرنسي ووزارة العدل والمصالح الأمنية الأمريكية والإسرائيلية. في كانون الأول/ ديسمبر 2024، أظهر مستند مسرّب أنّ وزارة العدل الأمريكية قد أرسلت مذكرةً تُعارض الإفراج عنه، مبررةً أنّ عودته إلى لبنان ستثير اضطرابات في منطقة الشرق الأوسط المعقّدة، وستشكل خطراً على الدبلوماسيين الأمريكيين. 

لكن محكمة الاستئناف الفرنسية أصدرت قراراً بإطلاقه مع استكمال إجراءات الترحيل، غير أنّ النيابة استأنفت وأجّلت التنفيذ حتى تموز/ يوليو 2025، شريطة مغادرته الأراضي الفرنسية وعدم العودة غليها، مؤكدةً أنّ استمرار سجنه لمدة تزيد عن 41 عاماً بات "غير متناسب" مع الجرائم المرتكبة وسنّه المتقدمة (74 عاماً)، إذ رأى القضاء أنّ التنظيم الذي قاده لم يرتكب أي عمل عنفي منذ 1984، وأنه لم يشكل تهديداً للأمن العام.

كيف سيقرأ جورج عبد الله لبنان اليوم؟ البلد الذي غادره إلى السجن في زمن الحرب الباردة والمفاهيم اليسارية الراديكالية حول المقاومة والنضال وحقوق الشعوب، وها هو يعود إليه في زمن غيّرت فيه السياسة أقنعتها وتبدّلت فيه مفاهيم التحرر، فهل سيجد مكاناً لفكره الثوري في لبنان ما بعد الحرب، أم سيبدو كالعائد من زمنٍ آخر؟

خرج عبد الله من سجن "لانميزان"، صباح 25 تموز/ يوليو 2025، في موكب يتألف من ست مركبات، تاركاً خلفه واحداً من أطول السجون السياسية في أوروبا. ثم نُقل إلى مطار تارب ليُسافر لاحقاً إلى بيروت، حيث من المتوقع أن يستقبله أهله وشخصيات رسمية وشعبية في مسقط رأسه القبيات شمالي لبنان، في استقبال يجمع بين العاطفة والرمزية في مشهد سياسي يعكس تداخل النضال والهوية. 

وقد وصف محاميه جان-لوي شالانسيه، قرار الإفراج عنه بأنه "انتصار سياسي وعاطفي وقانوني بعد كل هذه السنوات"، مضيفاً أنّ عبد الله "كان ينبغي أن يخرج منذ زمن طويل جداً". 

جورج إبراهيم عبد الله يمثل حالةً نادرةً في تاريخ أوروبا المعاصر، إذ جمع بين العنصر القانوني للدفاع عن الحقوق عبر المحكمة، والضغط السياسي والدبلوماسي الدولي لمنعه من الخروج حتى بعد انقضاء مدة عقوبته. اليوم، وبعد أكثر من أربعين سنةً، عُدّ إطلاق سراحه بارقة أمل تعكس تحوّلات في الموازين الدولية للتأثير على قرارات القضاء، وكذلك تعريةً للعوائق التي قد تفرضها الدول على مسارات القانون في مواجهة قضايا تُعدّ من الخطوط الحمراء، أمنياً وسياسياً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image