مع تتالي سنوات الجفاف وشح الأمطار دخلت تونس مرحلة "الفقر المائي"، جراء العوامل الطبيعية والتغيرات المناخية، وكذلك بفعل سوء التصرف في الموارد المائية، فبات الشح المائي يهدد التونسيين حتى في مياه الشرب، منذراً بضائقة عطش استثنائية.
إلا أن التنبيه لخطورة الوضع المائي في تونس وتسليط الضوء على هذا الملف الحارق جاء متأخراً نسبياً، فموجات الجفاف تضرب تونس منذ سنوات، في ظل غياب لأي إستراتيجيات وطنية لمجابهتها أو لاستباق الأزمة بحلول جذرية تقي البلاد وتحذر التونسيين من عواقب إهدار المياه في ظل الندرة.
"الجفاف تهديد لبلادنا... الاقتصاد في الماء ضمان لاستمرار حياة أولادنا"، هو شعار اختارته الحكومة لتوعية التونسيين وحثهم على تغيير عاداتهم الاستهلاكية التي تتسم غالباً بالإسراف. وإلى جانب الحملات التوعوية فرضت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري قيوداً على استهلاك المياه الصالحة للشرب، فقررت منع استعمالها للأغراض الفلاحية وري المساحات الخضراء وتنظيف الشوارع والأماكن العامة وغسل السيارات، كما تقرر اعتماد نظام حصص مؤقت للتزود بالمياه، فأفادت الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بأنه سيتم قطع مياه الشرب سبع ساعات يومياً ابتداء من التاسعة ليلاً إلى الرابعة فجراً. فهل تكون هذه الإجراءات كافية لمواجهة المشكلة المتفاقمة؟
بات الشح المائي يهدد التونسيين حتى في مياه الشرب، منذراً بضائقة عطش استثنائية.
ترشيد الاستهلاك المنزلي
يمثل التراجع الحاد في مخزون المياه بالسدود وتسجيل نقص في إيراداتها بمقدار مليار متر مكعب، تهديداً جدياً للأمن المائي التونسي ومؤشراً على خطورة شبح "العطش" الذي يتربص بالتونسيين ويهدد أمنهم الغذائي واستقرارهم الاجتماعي.
القرار الحكومي باعتماد نظام الحصص لمياه الشرب، على أهميته، يمثل "إعلاناً لحالة الطوارئ المائية" وإنذاراً بملامسة منظومة المياه الخطوط الحمراء، لكن على مستوى ترشيد التصرف في الموارد المائية فإن نجاعة هذا القرار محدودة، على اعتبار أن الاستهلاك المنزلي لا يتجاوز 14 بالمئة من الاستهلاك في عموم البلاد، فيما يستأثر القطاع الفلاحي بحوالى 80 بالمئة من الموارد المائية، علماً أن التونسيين يعيشون تحت خط الفقر المائي، ولا يتجاوز نصيب الفرد 400 متر مكعب سنوياً في حين أن الفقر المائي عالمياً يحسب عند ألف متر مكعب.
يرى المهندس البيئي والخبير في الشأن المناخي حمدي حشاد أن "الإجراءات التي أقرتها الحكومة ستمكن من توفير 2 بالمئة فقط من مواردنا المائية، وهذه القرارات جاءت متأخرة لأن التونسي طبع مع ثقافة الهدر واستنزاف الموارد المائية"، كما أشار إلى أن إجراءات الاقتصاد يجب أن توجه للقطاع الفلاحي حيث تُهدر 30 بالمئة من المخصصات قبل أن تصل إلى وجهتها النهائية.
فيما يتعلق بظاهرة تخزين الماء، بيّن حشاد لرصيف22 أن التخزين معتمد في العديد من الدول عبر الصهاريج، لكن التونسي يتعرف أول مرة على ثقافة تخزين الماء، وسيتوجه تدريجياً نحو استهلاك اقتصادي، لافتاً إلى أن كل إجراء يكون فوضوياً في البداية لكن بعد فترة يصبح السلوك أكثر نضجاً.
رأت الخبيرة في الموارد المائية والتغيرات المناخية روضة القفراج أن قطع المياه ليس إجراء اتخذته الدولة، بل هو انقطاع جراء عدم تزويد المنشآت المائية بكميات كافية تخول للمواطن إيجاد الماء كل ما طلب.
وأوضحت لرصيف22 أن الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه "الصوناد" هي المسؤولة عن توزيع الماء الصالح للشراب في جميع مناطق الجمهورية، لكن وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري هي التي تحدد لها الكمية، والسدود التي ستستغلها للتزود بالماء الخام المعد للتطهير والتوزيع، وبالتالي عندما تُزود الشركة بكميات ماء أقل تضطر لتنظيف الماء ووضعه في الخزانات، وعند نقص الكمية يتدفق الماء انسيابياً أي بدون ضخ ثم ينقطع تدريجياً.
الإجراءات التي أقرتها الحكومة ستمكن من توفير 2 بالمئة فقط من مواردنا المائية، وهذه القرارات جاءت متأخرة لأن التونسي طبع مع ثقافة الهدر واستنزاف الموارد المائية، كما أن إجراءات الاقتصاد يجب أن توجه للقطاع الفلاحي حيث تُهدر 30 بالمئة من المخصصات قبل أن تصل إلى وجهتها
وفي تأثير الشح على جودة الماء المعد للشراب، بينت القفراج أن العديد من التقارير تشير إلى أن خمسة بالمئة من تحاليل جودة المياه ليست جيدة من ناحية البكتيريا، وهذا ما يدفع المواطنين إلى عدم استعمال مياه "الصوناد" للشرب، واقتنائه من مصادر غير معلومة. كما لفتت إلى أن التغيرات المناخية وانحباس الأمطار يتسببان في تدني منسوب المياه في السدود. وبفعل ارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يتعفن، والحال أن بعض الأحواض المائية في السدود تحتوي على مياه غير معالجة قادمة من بعض الأودية التي تحتوي على مياه المنشآت الصناعية، وغير مرتبطة بشبكات التطهير.
تونس "تصدّر الماء افتراضياً"
تضاف أزمة المياه لسلسلة الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية التي تتخبط فيها البلاد منذ سنوات، لكنها طفت على السطح هذه الآونة وأصبحت الشغل الشاغل للحكومة والمواطن على السواء، بعد إهمال ملف نقص المياه وعدم إيلائه الأولوية القصوى التي يستحقها. وبتحليل أسباب بلوغ هذه الأزمة التي طالت حتى المائدة المائية الجوفية، يبرز الاستثمار في المنتجات الفلاحية والزراعات المعدة للتصدير كالمتهم الأول، لأنها تحتاج كميات كبيرة من الماء.
ولا يقارن تصدير الثروات للسوق الأوروبية مقابل عائدات زهيدة بحجم الضرر الذي لحق بالموارد المائية، وهي سياسة تنموية وإنتاجية ثار عليها باحثون وناشطون بيئيون منذ سنوات، مطالبين بوضع حد لاستنزاف وإهدار الماء المستخدم في الزراعة خصوصاً.
ولفتت الباحثة والمهندسة المختصة في البيئة عبير نادري إلى أن السبب الرئيسي في شح المياه هو سوء تصرف الإنسان، وأن البلدان التي في طور النمو هي المتضرر الرئيسي لأنها تفتقر للبدائل التكنولوجية، مشيرة إلى أن تونس تعاني من سوء تصرف كبير يتمثل في التسرب من شبكة التزويد بالمياه والترسبات في السدود وظاهرة حفر الآبار العشوائية.
السبب الرئيسي في شح المياه هو سوء تصرف الإنسان.
وقالت النادري لرصيف22 إن 80 بالمئة من الموارد المائية تذهب إلى الزراعة، وبالتالي وجب أن يتحلى الفلاح بالوعي ويستعين بخبراء لاستعمال الماء بالكميات التي تستحقها النبتة بدون تبذير ولا نقصان، لافتة إلى أن العديد من الدول تستعمل تقنية "انترنت الأشياء" في المجال الزراعي لتحديد كميات المياه الضرورية التي يستحقها كل منتوج فلاحي.
وقدمت الباحثة والمهندسة جملة من الإحصائيات كأمثلة عن كميات المياه المهدورة، فالكيلوغرام من الزيتون يستهلك قرابة سبعة آلاف ليتر ماء، والتمر 3400 ليتر، وكيلوغرام البطاطا يستهلك 280 ليتراً، والبرتقال 560 ليتراً.
وأكدت أن "هذه الزراعات تمثل إشكالاً في التصدير لأننا نصدّر معها الكثير من الماء القادم من المياه الجوفية التي لا تتجدد، وانقطاعها يسبب خطراً كبيراً للجنوب التونسي خاصة. أيضاً تجدر الإشارة إلى أن شركات أجنبية في قابس تصدر الطماطم المجففة التي يستهلك الكيلوغرام منها 200 ليتر من الماء. من غير المعقول أن تستخدم شركة أجنبية مواردنا المائية وتحافظ على المياه في بلدانها".
كما تحدثت الباحثة عن التبذير الكبير للمياه في القطاع الصناعي خاصة قطاع النسيج، لافتة إلى أن السروال الواحد يستهلك 11 ليتراً من الماء، وبتصديره نكون قد صدرنا نفس الكمية من الماء الافتراضي، مشددة على وجوب إعادة النظر في سياسات التصدير وضبط التصرف في كل هذه المجالات الحياتية والاقتصادية عبر حوكمة المياه. "التصدير مهم للاقتصاد لكن تجب مراجعة سياسة التصدير لتتماشى مع الوضع المائي والاقتصادي للبلاد"، تضيف.
وعن الحلول الكفيلة بمكافحة ظاهرة الجفاف، اعتبرت النادري أن تحلية مياه البحر حل مكلف لبلد يعاني من أزمة اقتصادية، ويستوجب تكنولوجيا وطاقة، ولكن بالإمكان استغلال الموجود عبر تهيئة السدود لاستقبال مياه الأمطار، وإعادة تهيئة شبكة توزيع المياه المهترئة. كما اقترحت العودة إلى الأصل وهو البذور الأصلية التونسية التي تتلاءم مع بيئتنا، إلى جانب استغلال طرق الري القديمة مثل "القلة" التي تسرب الماء عبر مساماتها وهي موفرة للمياه، علاوة على تفعيل التكنولوجيا وتقنيات الفلاحة الذكية الموفرة للمياه.
تداعيات وخيمة لأزمة شح المياه
من المتوقع أن يتراجع محصول الحبوب في تونس بنسبة 75 بالمئة، وأن ينخفض الإنتاج الزراعي، مما سيؤدي إلى رفع سعر المنتجات الفلاحية، كما سيؤثر على تربية الماشية مما يهدد الأمن الغذائي.
هذه الزراعات تمثل إشكالاً في التصدير لأننا نصدّر معها الكثير من الماء القادم من المياه الجوفية التي لا تتجدد، وانقطاعها يسبب خطراً كبيراً للجنوب التونسي خاصة، إلى جانب التبذير الكبير للمياه في القطاع الصناعي خاصة قطاع النسيج
الفلاحة ليست المتضرر الوحيد من ندرة المياه، فالانعكاسات الاجتماعية لانقطاع المياه وخيمة، ومن شانها أن تؤجج مطالب توفير المياه لدى العديد من المدن التي تشهد اضطرابات في التزود بالمياه أساساً. وكان المرصد التونسي للمياه قد أحصى 2300 انقطاع للماء سنة 2022، وهو معدل انقطاع كبير دفع بالتونسيين إلى الاحتجاج، وبلغ عدد الاحتجاجات المتعلقة بالمياه سنة 2021 قرابة 634 احتجاجاً وفقاً لإحصائيات المرصد الاجتماعي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
ودفع ضعف الإمدادات بالمياه وغلاء تكلفة الفواتير شريحة هامة من التونسيين إلى حفر آبار عميقة بدون تراخيص لاستغلال المياه الجوفية من المصالح المختصة، وهي ظاهرة أضرت كثيراً بالموارد المائية العميقة. ويبلغ عدد الآبار العشوائية 21 ألف بئر عشوائي، وتستأثر ولاية بقبلي بخمسين بالمئة من جملة هذه الآبار في البلاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.