شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عن رمضان والطفولة والمراهقة وأشياء أخرى

عن رمضان والطفولة والمراهقة وأشياء أخرى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 8 أبريل 202411:02 ص

أجبرتني أمي وأنا طفلة على الصوم. كنت أتسلّل إلى المطبخ أو الثلاجة كلما شعرت بالجوع، لآكل ما تصل يدي إليه. ألتهمه بسرعة بدون مضغ حتى لا تراني أمي. أفتح زجاجة المياه أو العصير وأشرب منها رشفة صغيرة سريعاً قبل أن تلاحظ أمي. أحياناً كنت آكل وأشرب لمجرد كسر القواعد ورفض إجباري على الجوع والعطش. كنت أصغر من أفهم المقصد من الصيام أو الفلسفة الكامنة وراءه. كان بالنسبة لي ليس أكثر من تعذيب بالجوع و العطش حتى أرضي أمي التي ترغب في تجويعي. هكذا كنت أرى الصيام.

ابنتي المتوسطة في عامها التاسع، منذ بداية شهر رمضان وهي تحكي لي يومياً عن زميلات لها في الصف يبكين من الجوع والعطش بسبب إجبار أمهاتهن لهن على الصوم، ورغم ذلك يستمرون في الصوم خوفاً من أمهاتهن. لم أوافق أن تصوم ابنتي رغم إلحاحها، تقول لي: "كل أصحابي صايمين". أوافق بشرط أن أعطيها اللانش بوكس و زجاجة الماء، وأقول لها: "لو حسيتي إنك جعانة، كلي واشربي".

تأتي لي كل يوم دون أن تكمل الصوم، وهو أمر منطقي وطبيعي. تنام ابنتي في العاشرة مساء لتصحو في السادسة صباحاً، وتغادر إلى المدرسة في السابعة وتصل في السابعة والنصف. في التاسعة صباحاً تبدأ في الشعور بالجوع فتفتح اللانش بوكس وتأكل وتشرب هكذا ببساطة. أقول لها: "لو سخر منك أحد لأنك تأكلين، أديله بالجزمة". نعم أقول لها هكذا نصاً، وبالفعل كنت أنتظر أن يسخر منها زملاؤها لأنها لا تصوم، لكن الغريب أنه لم يسخر منها أحد نهائياً، ولم يتساءل أحد من زملائها عن سبب إفطارها رغم صوم الجميع.

فكرت أنه عندما يشعر الشخص أنه يمارس حقه دون خوف يغلق أبواب التنمّر أو السخرية، يحدث التنمّر من الأطفال الضعفاء المرتجفين الذين لا يشعرون بالقبول ويبحثون عنه لدى الآخرين، أو الذين يشعرون أنهم على خطأ أو في موقف ضعف. لم تشعر ابنتي أنها ضعيفة أو على خطأ، ولهذا السبب يبدو أنها لم تصبح ضحية للتنمّر من الأطفال المشبعين بأفكار آباءهم وأمهاتهم عن وجوب الصيام لأطفال لم يكلفوا بعد.

اعتادت الأمهات أن تتعامل مع الأطفال كمشروع شخصي، تتفاخر به أمام الأهل والأصدقاء، فلا تنظر إلى رغبات الطفل ولا قدراته واحتياجاته وأمنياته

جروب الماميز

يبدو أن الأطفال المستائين من ابنتي لم يستطيعوا مواجهتها، لكن هناك من قرّر الشكوى لوالدته من الطفلة المفطرة التي تأكل وتجرح مشاعرهم، هم الصائمون المثاليون أصحاب الحسنات، فبدأت الأمهات في إرسال رسائل غاضبة تستنكر أن بعض الأطفال يأكلون أمام زملائهم، والمفاجأة أن الرسائل انهمرت على جروب الفصل الخاص بابنتي الصغرى "سبع سنوات".

لم أفهم منطق رسائل فصل الصف الخامس، حتى فاجأتني رسائل فصل الصف الثاني. نفس محتوى الرسائل الذي يستنكر إفطار بعض الأطفال وعدم مراعاتهم لشعور زملائهم، وكيف نسمح للأطفال بالإفطار في هذه السن ولا نعلمهم الصوم حتى ولو أجبرناهم على الجوع والعطش.

الأطفال كمشروع شخصي

اعتادت الأمهات أن تتعامل مع الأطفال كمشروع شخصي، تتفاخر به أمام الأهل والأصدقاء، فلا تنظر إلى رغبات الطفل ولا قدراته واحتياجاته وأمنياته. تقول أم: "ابني يصوم منذ كان في الثامنة"، فترد أخرى: "ابني يصوم منذ كان في الخامسة"، فتقول الأخيرة: "ابنتي تصوم منذ كانت في رحمي".

تنظر الأمهات إلى الأطفال كإنجاز شخصي يحققن أحلامهن من خلالهم، يتنازلن عن أحلامهن الشخصية ورغباتهن بمجرّد أن يصبحن أمهات، ويحمل الأطفال كل هذا الإرث من الأحلام المفقودة، ويصبح الأبناء هم المشروع الجديد والإنجاز الشخصي وسبب الفخر الوحيد، فلا تقبل الأم أي خلل بهذا المشروع ولا توافق على أي تقصير يقلّل من قيمة الإنجاز وأهميته، وصيام الأطفال في سن مبكرة بالنسبة للأمهات جزء من الإنجاز الشخصي، وكلما بدأ الطفل في الصيام مبكراً كلما كان مصدر فخر أكبر لأمه، وإثبات على سيطرتها وسطوتها وتدينها.

حين تخليت عن الأمومة المثالية

في بداية أمومتي كدت أنزلق في هذا المنعطف، يدفعنا المجتمع، نحن النساء، نحو هوّة المقارنات بين الأطفال في كل شيء. في كل مناسبة أو حدث يجمع مجموعة من الأمهات مع أطفالهن، لا تتوقف المقارنات بين الأطفال من قبل الأمهات. في طفلتي الأولى، كنت أبكي قهراً عندما لا أتمكن من توصيل معلومة دراسية لها، أو عندما تتراجع درجة أو اثنتين عن الدرجات النهائية، أو عندما لا تتمكن من إكمال الواجب المنزلي قبل موعد النوم.

بصدق، شعرت تدريجياً أن الأمومة تستنزفني تماماً، تنسيني أحلامي ومشروعاتي الشخصية، كما أن وضعي أنا شخصياً كأم في مقارنة مستمرة مع الأمهات من حولي أشعرني بالتقصير المستمر، ولم أتحمّل ذلك الشعور بالتقصير، ولم أجد نفسي في ذلك المجتمع المتسارع الذي يدفعني دفع نحو كره الأمومة وكره نفسي، فقرّرت الانسحاب تدريجياً والتخفّف من المهام التي أجبرت عليها.

أصبحت أماً أكثر تفهماً ولطفاً عندما قرّرت التخفّف من أعباء الأمومة والعودة إلى نفسي ولو لوقت قليل، تلاشى بداخلي تدريجياً شعور الأم المضحية التي يحبسها أطفالها في متطلباتهم وواجبات الاعتناء بهم، خاصة عندما جاءت ابنتي الثانية ثم الثالثة. أدركت أنني لو كنت بقيت في تلك الدائرة التي لا تنتهي من الاستنزاف الذي تطلبه المثالية لكنت هلكت و أهلكت أبنائي معي، وكرهتهم وأجبرتهم على دفع مقابل تضحياتي.

تقول أم: "ابني يصوم منذ كان في الثامنة"، فترد أخرى: "ابني يصوم منذ كان في الخامسة"، فتقول الأخيرة: "ابنتي تصوم منذ كانت في رحمي"

سارة الابنة وسارة الأم

أكذب لو قلت أنني تخلصت تماماً من شعور الأم الضحية، أشعر به في بعض الأحيان عندما أقدّم أكثر من استطاعتي، أو عندما تتراجع قدرتي على تحقيق أهدافي وأحلامي بسبب واجبات الأمومة، لا يرضيني شيء في هذه الأوقات سوى البكاء والسخط على الأمومة، وأحياناً نوبات غضب لا يعرف أحد غيري أسبابها.

كنت طفلة مطيعة جداً، لكنني لم أكن كذلك في مراهقتي، وحدت تماماً عن المسار التي كانت تتمناه أمي لي، واخترت ما يناسبني منذ زمن طويل. مازلت أشعر بعدم رضا أمي عن اختياراتي الشخصية. بصدق لم أهتم أبداً أن ترضيها اختياراتي أو أفكاري، بل كنت أمعن أحياناً في مخالفتها لأثبت لنفسي أن لي مساري الخاص. أدركت بعد الأربعين أن لكل شخص رحلته الفردية، سواء كان هذا الشخص أمي أو أنا أو بناتي، أدركت أنني لست ملكاً لأمي ولا لبناتي ولا لأي شخص، ولا أملك بناتي وأنني يجب أن أحترم رحلتهم الشخصية حتى لو لم أشاركهم الشغف بها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image