شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"إحنا جايين نبدا من الصفر"… من السودان وغزة كيف يعيش اللاجئون غربة رمضان؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الخميس 4 أبريل 202404:15 م

بين أم درمان في أبريل/نيسان، وغزة في أكتوبر/تشرين الأول، بدأت أحداث الاشتباكات والقصف مخلّفة وراءها عائلات تعاني من الشتات بعيداً عن منازلها الآمنة، أجبروا أفرادها على الفرار للحفاظ على حياتهم، فكانت مصر المحطة"المؤقتة" الأقرب لشمال السودان والحدود المتاحة مع غزة.
في الأسبوع الأخير من شهر رمضان الماضي، والذي وافق 15 أبريل/نيسان 2023، بدأت المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع وأدت إلى تشريد ما يزيد عن 8.1 مليون سوداني بينهم أكثر من 4 ملايين مشرد داخل السودان وتفرق الباقون بين تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان بينما نزح إلى مصر 460 ألف لاجىء سوداني حتى 31 يناير/كانون الثاني حسب إحصاء موقع دعم اللاجئين التابع لمنظمة الأمم المتحدة.

حلو ومر

يُركز كُتّاب التنمية البشرية على قوة العقل الباطن واستدعائه لما يمكن أن يُشكّل واقعك، وكأن العقل الجمعي للسودانيين اختار اسم”حلو ومر” لمشروب إفطار رمضان لما يُعبر عنه من الجمع بين حلاوة شهر الصيام ومرارة الحرب وقضاء أيامه بعيداً عن الأهل والأصدقاء، قبل أيام من انتهاء رمضان الفائت أُسندت إلى مصطفى البر مهمة عائلية بزيارة شقيقته الكبرى على بعد 10 ساعات تقريباً من منزل الأسرة في مدينة الأبيض الواقعة في ولاية شمال كردفان والتي تبعد عن العاصمة غرباً مسافة 4 ساعات بينما تقطن شقيقته مع زوجها وطفليها في منطقة النزاع شرق العاصمة.
يقول مصطفى لرصيف22 إن منزل شقيقته يقع على بعد 6 ساعات من شرق العاصمة، في بداية النزاع لم يصل القصف إلى المنطقة وبعد أيام قليلة خرجت الحرب من العاصمة وانتقلت إلى الولايات ليقرر زوج شقيقته الذي يعمل ضابطاً في الشرطة أن يتحمل مصطفى نقل شقيقته وطفليها لمنطقة آمنة، حالت الأحداث دون عودته إلى منزل الأسرة فقرروا الذهاب إلى القاهرة والاستقرار هناك بعيداً عن أسرته. 
يصف مصطفى منطقة سكن أسرته بالبعيدة عن الأحداث فيمارس الناس حياتهم بصورة أقرب إلى الطبيعية ورغم اطمئنانه على والديه وإخوته فإنه كان يتمنى لو قضى رمضان معهم بدلاً من انعزاله وشقيقته بعيداً. اضطر مصطفى إلى البدء من جديد في دراسته الجامعية والالتحاق بكلية العلوم جامعة الأزهر بينما يعتمد في نفقاته وشقيقته على ما يُرسل إليهما من أسرته في السودان، فأستأجر شقة صغيرة ضمته وشقيقته وطفليها أحدهما في السادسة من عمره والآخر في الرابعة.
"الابتعاد عن الأسرة والأصدقاء وافتقاد التجهيزات الخاصة برمضان التي عايشتها منذ 22 عاماً لا يمكن تعويضها، فالأمر في السودان يختلف تماماً عن مصر فهناك تبدأ تجهيزات استقبال رمضان قبل شهر كامل بتحضير المشروب الرمضاني الرسمي في السودان "حلو ومر". مصطفى، لاجئ سوداني في مصر
لم يستعد مصطفى وشقيقته لرمضان كما كان يحدث كل عام في وطنه الأم، يقول لرصيف22 إن سعادته بمجيء شهر رمضان الذي يمثل له الخير والبركة سعادة منقوصة. فالابتعاد عن الأسرة والأصدقاء وافتقاد التجهيزات الخاصة برمضان والمشاهد التي عايشها منذ 22 عاماً لا يمكن تعويضها، موضحاً أن الأمر في السودان يختلف تماماً عن مصر فهناك تبدأ تحضيرات استقبال الشهر الكريم قبل شهر كامل بتحضير المشروب الرمضاني الرسمي في السودان "حلو ومر" .
يُوضح مصطفى كيف يُشكّل المشروب جزءاً رئيساً من مستلزمات رمضان في السودان، فتملأ رائحة خبزه المنطقة بأكملها، يقول إن المشروب يُصنع من حبوب مثل القمح يُطلق عليها في السودان "عيش أبيض" بعد طحنها يُضاف إليها ما يزيد عن 10 بهارات وبعد خبزها تكون مرحلة التجفيف في الهواء ثم التخزين، وفي رمضان يُضاف إليه الماء الدافئ في الصباح وفي وقت العصر يُصفى ويتم تبريده في الثلاجة لحين الإفطار، بينما يتذكر الوجبات الأساسية كالعصيدة وغيرها. 
لم يقتصر افتقاده هذا،  على الطعام والشراب، فامتد للتفاصيل الاجتماعية والدينية، يقول لرصيف22 إن وقت الإفطار هو الوقت الذي يجتمع فيه أهل الحي حول مائدة واحدة يشارك كل منهم بـ"صينية" تحوي أصنافاً من الطعام داعين كل من يمر من خارج الحي للإفطار معهم، بينما تمتد حلقات قراءة القرآن طوال اليوم بعد كل صلاة يتسابق خلالها المشاركون في ختم القرآن أكثر من مرة في الشهر الكريم والمسابقات الثقافية والدينية التي تقيمها نوادي الحي بعد صلاة التراويح. ويضيف: "حاجات كتير، رمضان في السودان له طعم تاني حتى في الأكل والشرب". موضحاً أنه سيحاول مزاولة الأنشطة ذاتها مع معارفه من المتواجدين في القاهرة بسبب الحرب.

العائلة تخفف وطأة الاغتراب

يختلف حال محمد المعتز 22 سنة عن حال مصطفى، فخروجه من السودان مع أسرته التي سبقته إلى مصر واستقرت في منطقة مصر الجديدة فضلاً عن مجيء أغلب أفراد عائلته وأصدقائه يُخفف من وطأة الغربة وإن لم تقضِ عليها تماماً، يفتقد المعتز كثيراً الأجواء السابقة لشهر رمضان في موطنه الأصلي السودان من طقوس إعداد مشروب “الحلو مر”.
يحمل المعتز في قلبه حباً شديداً لشهر رمضان الذي يحول بينه وبين الاكتئاب: "حتى لو دخلت رمضان منهار نفسياً بطلع منه صافي جداً"، موضحاً أنه بعيداً عن العبادات والروحانيات تُشعره التفاصيل الاجتماعية بدفء شديد، متذكراً مشهداً في بيت عائلة جده لوالدته حيث تجتمع خالاته وأمام كل منهن إناء كبير لتجهيز مشروب "الحلو مر"، والرقاق الخاص بالسحور. 

يتذكر المعتز، وهو لاجئ سوداني في مصر، عادة السودانيين في رمضان عندما يوقفون سياراتهم ويصرون على إنزال الركاب لتناول الإفطار إذا تزامن مرورهم مع أذان المغرب، وقد يفترش أحدهم الأرض لإجبارك على مشاركته الإفطار من فرط الكرم
ويتذكر  عادة السودانيين في رمضان عندما يسعون إلى إيقاف السيارات والإصرار على إنزال الركاب لتناول الإفطار إذا تزامن مرورهم مع أذان المغرب، يقول المعتز إنّ المشهد تكرر معه أكثر من مرة وقد يفترش أحدهم الأرض أو ينام أمام السيارة لإجبارك على مشاركته الإفطار من فرط الكرم، ولا يسعك في هذه الحالة إلا تنفيذ طلبه.
تُمثل تجمعات الإفطار العائلي جدولاً رسمياً في حياة المعتز منذ 22 عاماً، فاليوم الأول في بيت جده لوالده واليوم الثاني جده لوالدته ثم الأقارب والأصدقاء وغيرها، فضلاً عن إفطار الجامعة وتجهيز شنط رمضان للمحتاجين، يقول محمد: "إفطار الكلية كان أجمل ما يمكن وهذه التفاصيل افتقد عيشها كثيراً لكن الحمد لله على كل حال".
ويضيف في حديثه لرصيف22 أن وجود الأهل والأصدقاء في القاهرة يقلل من حالة الافتقاد التي يشعر بها، فعلى الأقل يمكنهم تناول الإفطار الجماعي وتبادل العزومات، موضحاً أنه اعتاد وأسرته المجيء إلى مصر منذ طفولته لشراء احتياجات المدرسة أو قضاء إجازة وتزامن وجودهم فيها عامين متتالين لعدة أيام من شهر رمضان، لكنه لم يسبق له قضاء رمضان بأكمله وعيد الفطر بعيداً عن بيته. 
رغم الحرب والبعد عن المنزل يتمنى محمد أن يكون رمضان هذا العام لطيفاً بصحبة الأصدقاء والأقارب، فيُفرّق بين رمضانين قضى بعض أيامهما في مصر وقت طفولته أحدهما كان بصحبة أسرته كاملة وأصدقائه والثاني كان برفقة والدته فقط مما أشعرهما بالاغتراب، متمنياً أن يكون رمضان هذا العام كالذكرى اللطيفة التي يحاول استحضارها للتخفيف من حدة الموقف، يقول: "بنحاول ننظر أنا وأسرتي لنصف الكوب المليان". وهو ما يساعد عليه الوجود في دولة عربية "تشبه بلادنا في ثقافة الاحتفاء برمضان، فلن يكون الأمر بالصعوبة ذاتها إذا كنا  في دولة غربية".  

حتى الأطباق محدودة

بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قررت زهرة، اسم مستعار، الفرار إلى مصر حماية لأطفالها الأربعة والاستقرار مع زوجها الذي هو هناك لتلقي العلاج وأُغلق المعبر قبل عودته إلى القطاع مع بدء قصف الاحتلال على غزة، طوال 33 عاماً لم تقض زهرة شهر رمضان بعيداً عن بيتها وعائلتها، ومنذ تفتّحت عيون أطفالها على الحياة عرفت أقدامهم طريق المسجد لأداء صلاة التراويح بصحبة والدهم لتتغذى أرواحهم بقدسية الأراضي الفلسطينية.
في تقرير لها أعلنت منظمة يونيسف التابعة للأمم المتحدة أن أكثر من 1.4 مليون شخص أُجبروا على مغادرة منازلهم، يوجد 629 ألفاً منهم في 150 مركزاً من مراكز الإيواء الطارئ التابعة للأونروا ويوشك الماء والكهرباء والغذاء والدواء على النفاد من القطاع، بينما يعاني الأطفال من الموت ببطء نتيجة سوء التغذية، وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بلغ عدد الشهداء من بداية الحرب حتى الآن 30631 شهيداً في قطاع غزة.
لا يمكن لزهرة أن تتعامل مع مكان الإقامة المؤقت في مصر، وكأنه بيتها في غزة لتُزينه، تقول: "لم أعد قادرة على ممارسة أي مظهر من مظاهر الاحتفال وهناك حرب يعيشها أهلي كل يوم".
تقول لرصيف22 إن تجهيزات رمضان ترتبط في ذهنها بالزينة والفوانيس والألعاب فضلاً عن التجمعات العائلية والإفطار الجماعي للأصدقاء والأقارب وهو ما حرم منه أطفالها هذا العام، موضحة أن بيتها في غزة كان يقع في محيط عائلي يُشعرها بالحميمية خاصة في شهر رمضان، فتتبادل أطباق الطعام بين منازل العائلة والجيران لتعمر السفرة بألوان مختلفة من الطعام في اليوم الواحد.
يُمثل رمضان في نظرها شهر الخير، فلم تكن تعرف من أين يأتي بكل هذه الخيرات، بينما لم تتمكن حتى الآن من تدبير احتياجات أسرتها لرمضان هذا العام، والذي تقضيه في حالة اغتراب بعيداً عن عائلتها وعاداتها، وإن كانت مع أطفالها وزوجها.
لم يتوقف حزنها عند افتقاد زينة رمضان وأصناف الطعام أو حتى التجمعات العائلية فما شاهدوه في الحرب طوال شهر كامل وما يعانيه سكان قطاع غزة من استمرار العدوان استنزف جزءاً كبيراً من راحتها النفسية تقول: "الأغراض راحت والأهل راحوا وهنا فيش إن الواحد يجهّز أو يحضّر لشيء الوضع مختلف تماماً"، مضيفة أنها تقطن في وحدة سكنية مع غيرها من أبناء غزة، ولكن قلة الإمكانات تحول بينها وبين استحضار جزء بسيط من عاداتهم وهو تبادل الأطباق المحدود عددها أصلاً.
رغم رغبة الأطفال في تزيين البيت وتطبيق الطقوس كما اعتادوها من شراء "إسدال الصلاة" للفتيات، لكن زهرة لم ترَ أن الأمر مناسباً، فلا يمكنها أن تتعامل مع مكان الإقامة المؤقت وكأنه بيتها في غزة لتُزينه، تقول: "لم أعد قادرة على أي مظهر من مظاهر الاحتفال وهناك حرب يعيشها أهلي كل يوم".

"إحنا جايين نبدا من الصفر"

يتمنى عبدالرحمن أن يُصلي تراويح رمضان القادم في المسجد الأقصى ويعتبر حرمانه من صلاتها في غزة هذا العام ضريبة لتحقيق حلم دخول القدس، يقول لرصيف22 إن غزة كغيرها من الأراضي الفلسطينية لها قدسية خاصة تُشعرك بالهدوء والراحة اللذين يضفيان شيءاً من الروحانيات على أيام رمضان. 
كبار السن يرتكز كل منهم على عكازه، أطفال صغار، شباب، هؤلاء كلهم يخرجون لأداء الصلوات الخمس في المساجد. مشاهد حُفرت في ذاكرة عبدالرحمن بصور جيرانه وأقاربه، يقول: "إن الصلاة في المسجد في أراضي غزة ليست عبادة فقط بل هي نوع من الترفيه الروحي حتى أن الأطفال يمُارسون ألعابهم بين صلاة المغرب والعشاء حول المسجد استعداداً لأداء صلاة التراويح فور بدئها، ففي رمضان غزة، العبادة تدخل في كل تفاصيل الحياة".
رغم وجود عبدالرحمن في العريش داخل الأراضي المصرية، وشعوره بالأمان على أطفاله وزوجته، إلا أن عجزه عن توفير الاحتياجات المادية والسلع التموينية الخاصة بشهر رمضان جعل فرحته منقوصة فضلاً عن ابتعاده عن أهله داخل قطاع غزة واستمرار الحرب ضدهم من قبل جيش الاحتلال
منذ العام 2005 لم يشهد عبدالرحمن دبابة من دبابات الاحتلال داخل قطاع غزة، رغم ما عاشه من حروب متقطعة بداية من 2013 تستمر كل منها لعدة أيام، صادفت أحدها عدة أيام في شهر رمضان. يقول عبدالرحمن إنه في عام 2014 تزامنت الحرب مع شهر رمضان إلا أن ذلك لا يشبه ما يعيشه القطاع هذا العام، رغم معاناتهم من انقطاع الكهرباء لأكثر من 18 ساعة وقلة توافر السولار والغاز إلا أن وجودهم داخل بيوتهم في القطاع وتوفير مصدر رزق يمكنهم من الإنفاق طوال شهر رمضان كان يجعل أوضاعهم محتملة رغم صعوبتها. 
رغم وجوده في العريش داخل الأراضي المصرية وشعوره بالأمان على أطفاله وزوجته، إلا أن عجزه عن توفير الاحتياجات المادية والسلع التموينية الخاصة بشهر رمضان جعل فرحته منقوصة فضلاً عن ابتعاده عن أهله داخل قطاع غزة واستمرار الحرب ضدهم من قبل جيش الاحتلال، يقول إن روحانيات المكان نفسه هي أكثر ما يفتقده هذا العام، فالناس في مصر يعاملونه بلطف إلا أن ذلك لا يعوّضه عن وجوده في غزة.
يعاني عبدالرحمن وأسرته من وضعية الانتظار الطويلة، فمنذ 5 أشهر طوال فترة  وجوده في مصر بسبب الحرب لم يتمكن من الحصول على فرصة عمل أو توفير دخل مادي ثابت لأسرته فضلاً عن خروج الأسرة دون أغراضها التي قُصفت مع المنزل في غزة، يقول لرصيف22: "إحنا جايين نبدأ من نقطة الصفر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image