بإمكانكم أن تتخيلوا مدى صعوبة التعليم الأكاديمي وسط أزقة ضيّقة وقديمة، تضجّ بالمارة والتلوث الصوتي الناجم عن عبور الدراجات النارية، لكن نحن أمام تجربة مختلفة. تتوسط طلابها وطالباتها، وتشرح لهم الجانب العملي من دراستهم، وتصف بمزيد من المعلومات التاريخية ما تراه عيون الحاضرين/ات، وكأنها تروي لهم حكاية منزل جدّها. حلاوة التعليم أنست الحضور زحمة المكان.
تستكمل فاطمة خُدادادي، أستاذة فرع الهندسة المعمارية، كغيرها من أساتذة هذا الفن في جامعات العاصمة الإيرانية، صفوفها الجامعية في الشوارع. هي صفوف طوعية لكنها باتت تستهوي الطلاب أكثر من الصفوف الرئيسية داخل الكلية.
تحولت شوارع طهران، في ظاهرة جديدة، إلى قاعات تعليمية لطلاب الهندسة المعمارية وأساتذتها. هنا يبحثون في رحلاتهم الاستكشافية عن معرفة الفن المعماري القديم في أروقة المعالم الأثرية، والقيم الخفية في واجهات المباني القديمة وأسرار التصاميم.
تحولت شوارع طهران، في ظاهرة جديدة، إلى قاعات تعليمية لطلاب الهندسة المعمارية وأساتذتها. هنا يبحثون في رحلاتهم الاستكشافية عن معرفة الفن المعماري القديم في أروقة المعالم الأثرية، والقيم الخفية في واجهات المباني القديمة وأسرار التصاميم
حوارات ونقاشات تجري بشأن كيفية تأثير التقنيات التقليدية في تصميم المباني والبنى التحتية لتشكل جزءاً من الهوية الإيرانية المعاصرة. إنها جهود من أساتذة شباب كي لا يكتفوا بالتعليم النظري في الكليات وحسب.
"لا بد من دراسة المباني ميدانياً كي يدرك الطلاب المواد التعليمية في الكتب. إنه عمل طوعي يضيف إلى الطلاب الكثير من التجارب في الهندسة المعمارية"؛ تشرح الأكاديمية فاطمة، التي تُعدّ واحدةً من المدرّسات الرائدات في إقامة جولات تعليمية في المدينة.
وحول مخرجات تلك الرحلات التي أخذت تنمو بشكل كثير في السنوات الأخيرة، توضح: "أطلقت بمعية فريق جامعي مشروعاً بحثياً للمرة الأولى، للتعرف على المباني الكلاسيكية الإيرانية التي تعود للقرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وما يشبهها في دول أخرى كتركيا وألمانيا وروسيا وإسرائيل، بغية توثيقها للباحثين المحلّيين وهواة فن الهندسة المعمارية".
"ورش القراءة البحثية في تصاميم المباني القديمة"
على رصيف شارع "لاله زار"، رمز طهران في القرن العشرين، يصحب محمد صادق خاجي، مجموعةً من طلابه ليقدّم لهم محاضرةً علميةً وعمليةً عن هيكل المقاهي والفنادق ودور السينما والمطاعم والمسارح والمتاجر القديمة والمنازل الفاخرة التي كانت موطن المشاهير.
"هذه المحاضرات ليست بديلاً عن صفوف الكلية، بل هي مكملة لها. ما أقوم به هو التعريف بتاريخ المباني التي استلهمت هيكلها من التراث الإيراني ومزجته بالفن المعماري الغربي في القرن العشرين، فهناك تقلبات وانعطافات مختلفة في البناء، نشرحها للطلاب، فهم مصممو معالم البلاد في المستقبل وعليهم رؤية تلك التفاصيل ومعرفتها جيداً"، وفق قول محمد صادق.
ثمة من باشر إعادة رسم واجهة المباني، في أثناء إلقاء المحاضرة، التي أطلق عليها المعنيون: "ورش القراءة البحثية في تصاميم المباني القديمة".
جولات تنطلق في عطلة نهاية الأسبوع، كي تشكل حافزاً كبيراً لجيل جديد يرغب في تصميم العمارات مستلهماً من تراثه الغزير في هذا المجال. وبين التعليم والمتعة والاستكشاف، يعيش الطلاب تجارب لا تُنسى في رحلتهم بين المباني القديمة. هم يدرسون ماضيهم ويبنون حاضراً مستوحى منه، وفق قولهم.
"شاركت في ثلاث جولات من جولات أساتذة الكلية. بالتأكيد سأستلهم من تلك الآثار والعمارات والبيوت التي زرتها وسط المدينة، في تصاميمي المستقبلية"، هكذا توضح لنا الطالبة في مرحلة البكالوريوس، ريحانة هُمايون.
"كانت فرصةً مثاليةً لفهم العمارة الإيرانية"، و"طريقة التعليم كانت استثنائيةً"، و"طريقة الحديث بشغف وولع تجعلنا نتوق إلى ماضينا"؛ هذه بعض من آراء المشاركين في "التسكع التعليمي" كما أطلق عليه أساتذة آخرون.
أما المواطن رضا إيزي، أحد المارة الذين التحقوا بتلك الصفوف المقامة على رصيف "لاله زار"، فيقول: "زرت هذا الشارع مرات عديدةً، ولكن كأني لم أزره من قبل، بعدما استمعت إلى الأحاديث عن تفاصيل مبانيه بتمعن في هذه الوقفة، من الرائع أن تعرف السبب التقني في إيجاد قوس لذلك السقف، أو هندسة هذا الجدار الخاص، أو نوعية البلاط والطابوق المستخدمة لذلك المتجر القديم".
هي ليست مجرد تجربة تعليمية. التجوال في شوارعِ طهران يمثل تجربة حياة ترسّخ عند الطلاب والهواة قيم التعلم واحترام التراث الثقافي للأمم. ثمة مجموعات أخرى تتجول بالتزامن مع طلاب الجامعات، لتتمتع بإطلالات خلابة على المعالم القديمة. هي مبادرات طوعية لمعرفة تاريخ البناء وتوثيقه.
لم تقتصر المبادرة على من هم في العاصمة طهران، بل باتت تنتشر في عموم إيران، لينضم إليها طلاب كليات الهندسة وأساتذتهم في مدن مثل يزد وشيراز وأصفهان وكرمان.
مواصفات العمارة الفارسية
الجمال والدقة في النقوش، صفتان بارزتان في الفن المعماري الفارسي، امتدتا إلى يومنا هذا منذ ما يزيد عن خمسة قرون قبل الميلاد. فقد أبدع الإيرانيون في قياسات منازلهم حتى أصبحت تحفاً نادرةً ملائمةً لمناخهم متعدد الفصول في جغرافيا بلاد فارس الواسعة.
تفنن الإيرانيون منذ الإمبراطورية الإخمينية والساسانية قبل استسلامهم على يد المسلمين، في المنطق الرياضي والهندسي عند تصميم هياكل البناء، وقد تجلى ذلك في إنشاء القبب التي باتت رمزاً للهندسة المعمارية الفارسية.
جولات تنطلق في عطلة نهاية الأسبوع، كي تشكل حافزاً كبيراً لجيل جديد يرغب في تصميم العمارات مستلهماً من تراثه الغزير في هذا المجال. وبين التعليم والمتعة والاستكشاف، يعيش الطلاب تجارب لا تُنسى في رحلتهم بين المباني القديمة
كانت القبب، بسبب ندرة الخشب في العديد من مناطق الهضبة الإيرانية، جزءاً مهماً من العمارة المدنية في الحضارة الفارسية. القبة كهيكل هندسي ترمز إلى الكرة السماوية التي تضم أسفلها الأرض الدائرية أو المربعة.
كما يشكل الطوب والطابوق والبلاط الملون، عناصر أساسية في الهندسة المعمارية الإيرانية، التي تُعرف بزخارفها المعقدة والمتناسقة، وأعمدتها المرتفعة والمتقنة، ومنحوتاتها الرائعة، وقد تجلى الفن الفارسي عند بناء القصور الملكية والجوامع والضرائح المقدسة.
تمتاز العمارة الفارسية بموازنتها بين التقاليد الإيرانية والتأثيرات العربية، لتعكس مدى تطبعها بالحضارات المتعددة التي مرت بالمنطقة.
إلى الوراء
وبرغم التاريخ المشرق للعمارة الإيرانية، وهندستها الجميلة، إلا أن القائم في شوارع البلاد لا يمت إلى الواقع بصلة، فقد تغيرت هندسة المباني خلال العقود الأخيرة، حتى استاء الجميع من واجهات المدن.
وعن أسباب ذلك، تداول الإعلام المحلي عبارةً للمعمارية المخضرمة تَرَانه يَلْدَا، تصف فيها بدقة ما جرى للهندسة المعمارية الإيرانية في ظل التطور الحضري: "أصبح مهندس الإنشاء، متعدد الوظائف وصاحب القرار في كيفية تنفيذ البناء وتصميمه، ثم تدريجياً تمت إزاحة المهندس المعماري من دائرة القرار الهندسي والتخطيط الحضري".
وتضيف الرائدة في مجال الاهتمام بالتراث المعماري: "لقد كان تحديثنا للمدن خطأً، لأنه نفى كل شيء. قد قال دعاة التحديث الحضري إن التقاليد والأشياء القديمة ليست جيدةً واتخذوا من العناصر الأوروبية نموذجاً لإنشاء الهياكل، بيد أنه كان علينا الاحتفاظ بأحيائنا القديمة وبناء بقية أجزاء مدننا على غرارها".
وسط عزوف ممنهج عن استخدام فن العمارة الفارسية من قبل المقاولين وسماسرة البناء بحجج عديدة، ثمة من يعلّق آماله على جيل جديد وواعد من الأساتذة والطلاب، كي يستعينوا بما هو موجود من المعالم، للاستلهام في تصاميم مستقبلية تغيّر ما طرأ على البلاد مؤخراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع