في سنوات مضت، كان مدفع رمضان يُنصَب في مناطق عدة من العاصمة السورية دمشق، أبرزها ساحة أنيقة كانت ولا تزال تُعرف باسمه. قبل أذان المغرب بدقائق، ينزل أحد موظفي البلدية لضرب المدفع، معلناً موعد الإفطار، وكانت إذاعة دمشق والتلفزيون السوري ينتظران سماع صوته للإعلان بدورهما عن انتهاء الصيام. نظراً إلى ظروف الحرب، توقف صوت المدفع قبل ثلاث عشرة سنةً، واستُبدل بمدافع أخرى... بمدافع لا تُدخل البهجة والسرور إلى نفوس السوريين... بمدافع جعلتهم يكرهون صوت المدفع إلى أبد الآبدين. ومع غيابه، بدأ الكثير من مظاهر شهر رمضان يتلاشى، إما بسبب الحداثة ورياح التغيير التي عصفت بالعالم العربي، أو بسبب الحرب.
صارت المعايدة الرمضانية مثلاً، تأتي عبر رسالة واتساب، ليست فيها أي خصوصية، بعد أن كانت مناسبةً يستغلها الناس لزيارة عائلاتهم وتهنئتهم بالشهر الفضيل. منذ الأسبوع الأخير من شهر شعبان، كانت شوارع دمشق وأزقتها تزيَّن بالأعلام والبيارق، ولكن هذا الطقس تراجع بشكل كبير جداً نظراً إلى كلفته العالية، ولا تقوم به اليوم إلا قلّة قليلة من المحال التجارية. في الماضي القريب، كانت محال الشّام تضيء أنوارها عند المغيب لعرض المنتجات الخاصة بالصيام، من حلويات ومشروبات ولوازم رمضانية، ولكن حتى هذا الأمر بدأ بالتراجع الملحوظ نظراً إلى تراجع القوة الشرائية عند السوريين.
عادات صامدة
وحده الاحتفال بليلة رؤية هلال رمضان بقي صامداً، وهو تقليد متوارث شعبياً، ولا تزال العائلات السورية المقتدرة مادياً -على قلّتها- تعدّ كميات كبيرةً من اللحم والسكر لتفريقها على الفقراء والمحتاجين، وما أكثرهم اليوم. وكان الناس يقيمون ما يسمونه بـ"تكريزة" رمضان، وهي أن يسبقوا الصيام باحتفال يأكلون فيه ما يريدون وغالباً ما يكون ذلك في سيران أو نزهة في الصيف، أو سهرة منزلية دافئة في الشتاء. وكانت دور النشر تطبع الإمساكية (تقويم من أجل معرفة مواقيت رمضان)، لوجه الله، وهي عادة جميلة لا تزال قائمةً إلى اليوم، ثم يقومون بتوزيعها مجاناً على الناس.
نظراً إلى ظروف الحرب، توقف صوت المدفع قبل ثلاث عشرة سنةً، واستُبدل بمدافع أخرى... بمدافع لا تُدخل البهجة والسرور إلى نفوس السوريين... بمدافع جعلتهم يكرهون صوت المدفع إلى أبد الآبدين
بالإضافة إلى مدفع السحور والإفطار، غابت الكثير من العادات القديمة، ومنها "لمّة العيلة" في شهر رمضان، بسبب تفرّق شمل الأسر السورية وسفر الأولاد والأحفاد إلى بلاد الاغتراب. كما غاب "مسحّراتي" رمضان الذي كان جزءاً من الإرث الرمضاني ومعه غاب حكواتي الشام، الذي كان يزيّن مقاهيها العامرة.
"المسحّراتي"
كان "المسحِّر" أو "المسحّراتي"، يجول في كل الأزقة ليلاً، وهو يقرع على الطبلة: "قوموا على سحوركم... إجى رمضان يزوركم... يا نايم وحّد الدايم... يا نايم وحّد الله". كان "المسحّراتي" شخصيةً معروفةً ومحببةً جداً إلى الناس، جسّدها عدد من نجوم سورية وأفرد لها الفنان الراحل رفيق سبيعي مسلسلاً كاملاً سنة 1967 بعنوان "مسحِّر رمضان".
كان "المسحِّر" أو "المسحّراتي"، يجول في كل الأزقة ليلاً، وهو يقرع على الطبلة: "قوموا على سحوركم... إجى رمضان يزوركم... يا نايم وحّد الدايم... يا نايم وحّد الله".
في مدن الخليج العربي، كان "المسحِّر" يُنادي: "اصحَ يا نايم... وحّد الدايم... سحور يا عبيد الله سحور". في حارات دمشق القديمة، كان "المسحِّر" -المكلّف من قبل مختار الحيّ- يعرف كل بيت، وكثيراً ما كان يطرق على الأبواب لينادي أصحاب البيوت بأسمائهم: "فيق يا أبو فلان... قرّب مدفع الإمساك"، في إشارة إلى آخر وقت للسحور قبل أذان الفجر. وكان "المسحِّر" يأخذ نوعين من التكريم: العيدية في نهاية الشهر، وشيء من الطعام. وكان الطعام لكثرته يختلط ببعضه البعض، لأنه من بيوت مختلفة، ومن هنا جاءت عبارة "صحن المسحِّر" التي تدلّ على فوضى في الأطعمة في صحن واحد.
تغيّرت معالم هذه الأحياء بشكل كبير جداً، ولم يعد لا "المسحِّر" ولا المختار يعرفان أسماء قاطنيها نظراً إلى خلوّ المنازل من أصحابها الأصليين، فمنهم من باع داره وانتقل إلى أحياء دمشقية حديثة، ومنهم من توفي أو هاجر إلى ما وراء البحار. وقد حلّ مكانهم قاطنون جدد، ليسوا دمشقيين بل هم سوريون قادمون من الأرياف أو المدن البعيدة، جاؤوا إلى دمشق هرباً من نيران الحرب في ديارهم.
اليوم كثيراً ما يكون "المسحِّر" نفسه غريباً عن الحي، لا تربطه به إلا إقامة مؤقتة ورغبة في تناول القليل من النقود في نهاية رمضان. حتى أن المهنة بحد ذاتها لم تعد كما كانت، فلا يستطيع الأولاد مرافقة "المسحِّر" اليوم للقرع على طبولهم الصغيرة بفرح، نظراً إلى انقطاع الكهرباء في شوارعهم، ولا يمكن "للمسحِّر" أن يجول طويلاً في بعض الأحيان، خوفاً من اللصوص أو من غارة إسرائيلية مفاجئة.
"الحكواتي"
ظاهرة "الحكواتي" لم تكن محصورةً في مدينة دمشق، وكانت معروفةً أيضاً في القاهرة وبغداد (حيث يسمونه القصخون). ولكن أشهرهم كان "حكواتي" مقهى النوفرة، الأقدم والأشهر في دمشق، خلف الجامع الأموي الكبير، وهو رشدي الحلّاق (أبو شادي)، الذي لجأ إلى بيروت بعد بداية الحرب السوري، دون أن يُهيئ خليفةً له.
بالإضافة إلى مدفع السحور والإفطار، غابت الكثير من العادات القديمة، ومنها "لمّة العيلة" في شهر رمضان، بسبب تفرّق شمل الأسر السورية وسفر الأولاد والأحفاد إلى بلاد الاغتراب. كما غاب "مسحّراتي" رمضان الذي كان جزءاً من الإرث الرمضاني ومعه غاب حكواتي الشام، الذي كان يزيّن مقاهيها العامرة
عرفه أهالي دمشق والسياح منذ زمن بعيد، يوم كان يقصّ عليهم قصص عنترة بن شداد والزير سالم، وهو المعروف بضرب سيفه أو عصاه على الطاولة الخشبية أمامه، للفت انتباه الحاضرين أو تشويقهم كلما وصلت قصصه إلى ذروتها الدرامية. توفي أبو شادي قبل عشر سنوات، وكان حتى عام 2010 لا يزال يجلس على أريكته وسط المقهى، بلباسه الدمشقي المعروف (طربوش وشروال وصدرية)، ساعياً إلى المحافظة على مهنة شعبية مهددة بالزوال، متحدياً انتشار المذياع والتلفزيون والسينما.
ولكن لعنة الحرب كانت أقصى منهم مجتمعين، وهي التي أسكتته إلى الأبد. حاول البعض إحياء المهنة وتقليده دون أي جدوى، ومع غيابه، لم يظهر "حكواتي" حقيقي في مقاهي دمشق التي نصبت مكانه شاشة بلازما كبيرةً، وبدلاً من الاستماع إلى نوادر العرب وبطولاتهم، بات الناس يقضون أوقاتهم بعد الإفطار في مشاهدة مشاجرات مسلسل "باب الحارة" أو مغامرات "جبل شيخ الجبل"، وقد غابت بدورها عن هذا الموسم الرمضاني، بعد سنوات طويلة من العرض المستمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...