تتقدم سابرةً أغوار الماضي في منزل زميل لم ترَه ولم يرَها، لتتفحص أجزاء من الفخار علَّها تستنبط شيئاً جديداً من الآثار التي جمعها الرجل في ستينيات القرن الماضي. إنها الباحثة الأثرية نغمة رفيعي، وتقضي نحو ستين يوماً في منزل عالم الآثار ديفيد لتستكمل دراساتها العلمية على مقتنيات العشرات من صناديق الفخار المتراكمة هناك.
"مشروعي قائم على إعادة تصميم الفخار الذي عثر عليه العالم البريطاني ديفيد وفريقه. الإعادة هذه إحدى الطرائق الأكاديمية للوصول إلى جذور أقدم فترة زمنية من تاريخ ميناء سيراف"، تقول نغمة.
أسست بريطانيا في ستينيات القرن المنصرم، المعهد البريطاني للدراسات الإيرانية، (British Institute of Persian Studies)، ويشتهر باختصار بـBIPS، وقد أدى دوراً فاعلاً في استكشاف المعالم الأثرية في أنحاء البلاد، وكانت حصة البروفيسور ديفيد وايت هاوس أن يحط الرحال في جنوب إيران لاستكشاف ميناء سيراف.
بنى الرجل وزملاؤه منزلاً في سيراف، له باب يطلّ على البحر وباب آخر على المدينة، وقطنوا فيه نحو سبع سنوات لتنفيذ 6 مشاريع استكشافية هناك، نفضت الغبار عن أطلال من التاريخ. ثم عاد ديفيد إلى دياره عام 1973، محمّلاً بالكثير من المعالم التي عثر عليها بمعية فريقه، للمزيد من الدراسات المختبرية، وبعدها عُرضت في المتحف البريطاني لترفع من قيمته الأثرية.
كان الميناء مركزاً تجارياً حيوياً على طريق الحرير وموقعاً إستراتيجياً للتجارة البحرية بين الهند والصين وزنجبار، ومحطةً رئيسيةً للشحن البحري ونقل البضائع في المنطقة، واحتضن أعراقاً عدة من الصينيين والأفارقة والروم واليونانيين بمذاهبهم المختلفة، حيث عاشوا هناك لعقود
أثبت ديفيد في نهاية القرن العشرين، أن سيراف يُعدّ من أقدم الموانئ في مياه الخليج، بل نسب إليه الحصة الأكبر في رفع مستوى التجارة البحرية في العهد القديم. ويؤكد ذلك لنا محمد كنكاني، أبرز الناشطين والباحثين في تراث ديفيد في الميناء وأحرصهم عليه حيث ما زال يأخذ من دار العالم البريطاني، مكتباً لمؤسسته الأهلية المعنية بالحفاظ على التراث.
"تطورت البنى التحتية في سيراف لتلبية احتياجات الشحن والملاحة البحرية الدولية في عهد الإمبراطورية الساسانية، ويعود الفضل في استكشاف مكانة سيراف التاريخية إلى العالم ديفيد، وتوزعت الآثار التي جمعها الرجل على المتحف البريطاني في لندن والمتحف الإيراني في طهران، كما تُرك بعضها في هذا المنزل" يصرّح محمد، الرجل الخمسيني الذي أرهقه مرض الاعتلال العصبي وأجلسه على كرسيّ متحرك، بعدما كان يمشي على رجليه، بيد أن لا شيء يقيّده عن نشاطه.
ترك ديفيد جزءاً من الآثار في منزله كالجماجم والأواني والفخاريات واللوحات الصخرية والحجرية وأشياء كثيرة أخرى. وبعد أن هُجر البيت لسنوات طويلة، تحول إلى مكتب للأبحاث، يحتضن الكثير من الباحثين الجدد لاستكمال مشروع العالم البريطاني، وفيه معرض للآثار القديمة.
يستحضر محمد تحت ظلال غصون شجرة تين، المعابد القديمة في زاوية من منزل ديفيد، والماضي الجميل للجيل الجديد من الوافدين عبر الرحلات المدرسية والجامعية والسياحية، فمن لا تراث له لا هوية له، كما يقولون.
تصدير النبيذ واستيراد الحرير
كان الميناء مركزاً تجارياً حيوياً على طريق الحرير وموقعاً إستراتيجياً للتجارة البحرية بين الهند والصين وزنجبار، ومحطةً رئيسيةً للشحن البحري ونقل البضائع في المنطقة، واحتضن أعراقاً عدة من الصينيين والأفارقة والروم واليونانيين بمذاهبهم المختلفة، حيث عاشوا هناك لعقود.
ذكرت المصادر التاريخية أن الإيرانيين صدّروا السجاد وماء الورد والنبيذ والفخار والحلي والتمر، واستوردوا القماش والحرير والخشب والبهارات.
قبور الزرادشتيين
ترقد أطلال من التاريخ على ضفاف البحر، شاهدةً على ماضٍ متقدم كان منفرداً في تفاصيله قبل الميلاد، وذلك في الميناء الواقع بين الجبال والمياه في شريط طويل ساحلي، في جنوب البلاد ضمن محافظة بُوشِهِر.
وبقيت معالم لقبور إيرانيين منقوشةً على صخور الجبال القريبة من البحر، وفق طريقة الديانة الزرادشتية في عهد الساسانيين، فهي علامة فارقة تروي قصة ازدهار سيراف.
حوله يقول مسؤول التراث في الميناء، مِهْرداد بارسايي: "هناك نظريات عديدة حول هذه الحفر الصخرية، وأقوى هذه النظريات تشير إلى أنها تشبه قبور الإيرانيين. ولكن المهم أنها وثيقة أثرية تدلّنا على كثافة الحياة في الميناء الذي كان مركزاً تجارياً على طريق الحرير لفترة سبعة قرون".
يشكل الميناء، جزءاً من تاريخ إيران البحري، إذ يحمل ذكريات عديدةً تعكس أهمية الميناء على مرّ العصور، والذي كان نقطةً حيويةً على خريطة الاقتصاد الإيراني منذ الإمبراطورية الساسانية في القرن الثالث، حتى العهد الإسلامي وصولاً إلى القرن العاشر الميلادي.
واصل الميناء مسيرته التجارية وسط تقلبات الزمن وبدأ يفقد رونقه شيئاً فشيئاً، لكن معالم ازدهاره ما زالت قائمةً، حتى جاء الزلزال المميت عام 367 من الهجرة، الموافق لسنة 977 م، فتبدلت المدينة إلى ركام ودفنت آثارها.
مع ظهور موانئ إيرانية أخرى ذات موقع جغرافي مميز، فقد سيراف أهميته، وبقي منعزلاً عن حركة الملاحة وشاهداً عليها دون أن يكون له تأثير واضح في تجارتها العملاقة.
قصر آل نصور
عاد الميناء إلى الحياة بصعوبة، ثم نمت شوكة العرب هناك، فحكموا سيراف لنحو 3 قرون، حتى عشرينيات القرن الـ20.
في قصر آل نصور، يتجسد التلاحم العربي في المنطقة، حيث بقي تأثيره يتدفق مع مرور الأجيال. هو ليس هيكلاً حجرياً وحسب، لكنه كذلك جزء من تراث حي يحكي قصةً عظيمةً عن الحكم العربي الذي أطلّ على هذه السواحل.
يشرح الباحث العربي الإيراني القاطن هناك، حسن عبدالهي لرصيف22 قائلاً: "بعيداً عن الهجرات القديمة للعرب إلى بلاد فارس ما قبل العهد الإسلامي، تدفقت القبائل العربية من الحجاز واستوطنت وحكمت الساحل الإيراني على الخليج قبل نحو 350 سنةً، ومنها قبيلة بني خالد النصوريين، والذي يدل هذا القصر الشامخ على سيطرتهم في كل هذه المنطقة من الساحل الإيراني على الخليج".
وعن أسباب إنهاء الحكم العربي هناك، يقول: "قام الملك رضا شاه في عشرينيات القرن المنصرم بتوحيد الحكم في إيران وتأسيس الدولة الفارسية المركزية، وعلى هذا الأساس أنهى سيطرة الحكام المحليين ضمن إطار حكومات 'الممالك المحروسة' في عموم البلاد".
يشكل الميناء، جزءاً من تاريخ إيران البحري، إذ يحمل ذكريات عديدةً تعكس أهمية الميناء على مرّ العصور، والذي كان نقطةً حيويةً على خريطة الاقتصاد الإيراني منذ الإمبراطورية الساسانية في القرن الثالث، حتى العهد الإسلامي وصولاً إلى القرن العاشر الميلادي
القصر الذي يمتد عمره لقرنين من الزمن، بُني على تلٍّ عالٍ مطلّ على البحر، في هندسة مزجت فن العمارة الفارسية بالعربية. وهو يتألف من جزئين؛ دار الحكم وبيت العائلة. وكان الحاكم يشتهر بـ"الشيخ"، وأشهر الحكام هؤلاء الشيخان جبار الأول والثاني والشيخ ناصر.
تحول القصر اليوم إلى أيقونة سيراف، وقد سُجّل ضمن قائمة التراث الوطني، ويشهد حالياً عملية صيانة كي يستعدّ قريباً للاحتفاء بزواره من جديد.
البترول وآثار سيراف
تقع سيراف اليوم وسط عشرات شركات البترول والغاز العملاقة في جنوب البلاد، ما جعل الآثار المتبقية أمام خطر دمار تدريجي، إثر الأمطار الحمضية والتلوث المستمر جراء نشاط المصانع، وهنا يمكن لنا أن نشهد كفاح الخبير محمد كنكاني على أن لا تتحول سيراف إلى مجرد ذكرى في متاحف لندن وطهران فحسب. "نطالب الحكومة بترشيح ملف سيراف إلى اليونسكو لتسجيله عالمياً، فهو تراث عالمي لا بد من حمايته من خطر المصانع العملاقة التي يقع في وسطها"، يقول لرصيف22، وهو لم يفوّت فرصةً لتذكير المعنيين ورفع قيمة سيراف في قراراتهم الحكومية.
قيل إن السيرافيين في قديم الزمان، كانوا يشعلون ناراً ليعلنوا للقرى والمدن المجاورة وصول الشحنات البحرية، واليوم بإمكانك أن تتخيل ذلك حينما تنظر إلى شرق المدينة وغربها، حيث مشاعل النار المرتفعة، بيد أنها هذه المرة لتدق جرس الإنذار لأهالي الميناء المحاصر بمشاعل منشآت الغاز الطبيعي ومصانع الكيمياويات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه