شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"أما أنتم فعليكم بسوق الحميدية 'بزنس سكول'"… نوستالجيا دمشقية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأربعاء 1 نوفمبر 202301:46 م
Read in English:

Souq Al Hamidiya Business School: The finest in the Middle East

"- معلم ألبير، بيسلّم عليك معلمي وبدّو يسألك عن أسهم معمل النسيج.

- بدو بيبع ولا يشتري؟

- شراء.

- أني معمل عمّي، هون ولا بحلب؟

- والله ما بعرف.

- أي رجاعْ لعندو وفهام منيح، هون سعر وبحلب سعر".

هذا الحوار كان يجري يومياً أمام محل "المعلم ألبير" في "سوق البورص" الدمشقي في خمسينيات القرن العشرين. كان هذا السوق عصب دمشق التجاري، يجتمع فيه يومياً التجار والصرّافين مع موظفي البنوك و"الكومسيونجية" (السماسرة). البعض، مثل موظفي المصارف، يأتونه ببدلاتهم الأجنبية وربطات العنق، وكان السواد الأعظم من التجار يدخلونه بقمبازهم المقصّب التقليدي ومعطفهم القصير (الساكو).

لم يكن "سوق البورص" الدمشقي مثل بورصة المدن الكبرى، من حيث الحجم أو المضاربات، ولكنه كان يضمّ متاجر صغيرة ومتلاصقة للصرافة وبيع وشراء الأسهم في كبرى الشركات والمصانع

ظهر سوق البورص سنة 1920 في زقاق قديم مقابل محل بوظة بكداش الشهير في سوق الحميدية، تزامناً مع افتتاح سوق البورصة في بيروت. لم يكن هذا السوق مثل بورصة المدن الكبرى، لا من حيث الحجم ولا المضاربات، ولكن كانت فيه متاجر صغيرة ومتلاصقة للصرافة وبيع وشراء الأسهم في كبرى الشركات والمصانع. كل الدكاكين كان على مدخلها طاولة خشب وبائع أمامه صندوق زجاجي فيه عملات أجنبية ولائحة أسعار الشركات السورية.

أكبر شركات سوق البورص

أكبر وأشهر شركتين في سوق البورص الدمشقي كانتا معمل الإسمنت (المعروف بالشمينتو) الذي أسسه خالد العظم سنة 1932، وشركة الكونسروة التي أطلقها شكري القوتلي عام 1934، قبل تسع سنوات من انتخابه رئيساً للجمهورية. هاتان الشركتان كانت أسعار أسهمهما ثابتة ولا تتغير نسبة للثقل السياسي والاجتماعي لمؤسسيهما وأعضاء مجلس إدارتهما، أي أنهم كانوا الأكثر ضماناً في سوق البورص.

تجار في سوق البورص في دمشق

حُدد رأس مال معمل الإسمنت بقيمة 144 ألف ليرة عثمانية ذهبية، وُزِّعت على أربعة وعشرين ألف مساهم، واشترى المستثمرون قطعة أرض في منطقة دمر، شمال غرب العاصمة السورية، للقيام بمشروعهم، وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وصل إنتاج المعمل إلى خمسة وستين ألف طناً من الإسمنت.

كان مدير غرفة تجارة دمشق عبد الغني حمور يمازح طلابه بالقول: "البعض درس الاقتصاد في Harvard Business School، وأما أنتم فعليكم بسوق الحميدية بزنس سكول، وهو خير معلم في التجارة والأخلاق". 

ووصل عدد موظفي شركة الكونسروة قبل تأميمها سنة 1965 إلى 200 عامل وعاملة، وبلغ إنتاجها السنوي خمسة وعشرين طناً من المعلبات، كانت تصّدر إلى كل من مصر وفلسطين والعراق والحجاز.

رفض القوتلي بيع أسهم الشركة في أي مصرف أجنبي، وأصرّ على أن يجري الاكتتاب العام إما في فرع دمشق من بنك مصر أو عبر البنك العربي، وكانت من عادته إهداء أسهم في شركة الكونسروة لأصدقائه عند زواجهم أو رزقهم بمولود جديد.

أشرف الشاب اللبناني نديم دمشقية على إدارة شركة الكونسروة عند تأسيسها، وهو خريج الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد أصبح في مرحلة الستينيات سفير لبنان في واشنطن في زمن الرئيس جون كينيدي.

جرى تداول أسهم شركة الكونسروة في سوق البورص وانفرد في بيعها شخص يُدعى أنور الزالق، تنافساً مع رجل اسمه أبو موفق التسابحجي، المهيمن على تداول أسهم معمل الإسمنت. ذاع صيت الشركتين في الأوساط التجارية، إلى درجة أن القاضي الشرعي الأول بدمشق كان يخيّر الناس عند توزيع ميراثهم بين المال النقدي أو وضع أموالهم في إحدى الشركتين. ولكن في سوق البورص أيضاً كان يتم تداول أسهم معمل المغازل والنسيج، ومعمل الزجاج، ومعمل السكر، والشركة الخماسية الشهيرة التي أشهرت عام 1946.

سوق الحميدية (بزنس سكول)

لم يكن في سوريا يومها كلية للعلوم الاقتصادية والمالية في الجامعة، ولا حتى أي دراسة علمية أو كتاب يمكن الرجوع إليه في دراسة الاقتصاد السوري ومتطلباته، باستثناء مؤلف يتيم وضعه الشاعر والمحامي رفيق سلّوم بعنوان "حياة البلاد في علم الاقتصاد". صدر في حمص سنة 1912، وتحدّث فيه سلّوم عن التجارة والصناعة والضرائب وحقوق العمال وواجبات أصحاب المصانع. بعد صدور الكتاب بأربع سنوات، أُعدم رفيق سلّوم مع بقية رفاقه الوطنيين في ساحة المرجة بدمشق، يوم 6 أيار/مايو 1916.

أسعار العملات في سوق البورص في دمشق

انتظرت سوريا حتى مطلع العام 1958 لتشهد افتتاح أول كلية للتجارة والدراسات المصرفية. أسسها مدير غرفة تجارة دمشق عبد الغني حمور، بالتعاون مع رئيس الجامعة السورية الدكتور أحمد السمّان (والد الأديبة غادة السمّان)، وأرادها كلية نموذجية، لا يتعدى عدد طلابها خمسة وعشرين متفوقاً، يدرسون اللغة الإنكليزية في السنة الأولى، ويتعلمون أصول العمل بمراقبة الأسواق القديمة وزيارة البنوك وسوق البورص وسوق الحميدية.

انسحبت كل الشركات الكبرى من سوق البورص بعد تأميمها في السنوات 1961-1965، ومُنع التداول فيه بأمر من رئيس الدولة أمين الحافظ، ليتحول السوق اليوم إلى حارة مظلمة تُباع فيها الجلابيات والألبسة

كان حمور يمازح طلابه بالقول: "البعض درس الاقتصاد في Harvard Business School، وأما أنتم فعليكم بسوق الحميدية بزنس سكول، وهو خير معلم في التجارة والأخلاق". في زمن الوحدة مع مصر فتح الرئيس المصري جمال عبد الناصر أبواب الكلية لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الطلاب، تماشياً في سياساته الاشتراكية المعروفة، وتحوّلت القاعات من خمسة وعشرين طالباً متفوقاً في السنة الأولى إلى 500 طالب، فيهم "الصالح والطالح" معاً.

حادثة فريدة

أما عن ثقافة الاستثمار بالأسهم، فقد تبلورت في النصف الأول من القرن العشرين بعد تعرض عدة مصارف إلى الإفلاس في ظلّ الأزمة المالية العالمية، المعروفة بالكساد الكبير، ابتداء من العام 1929. تخوّف تجار الشّام من وضع أموالهم في البنوك، ومن حالة عدم الاستقرار التي ترافقت مع بدء الحرب العالمية الثانية. أحد هذه المصارف كان بنك مرقدة، الذي أسسه الوجيه ميشيل مرقدة في سوق البزورية سنة 1930.

كان مصرفاً معتمداً لحوالات رجالات السياسة، ولكنه تعرّض لهزّة مالية عنيفة يوم أفلس أحد أفراد عائلة مرقدة - وكان يعمل صرافاً في سوق البورص - فانتشرت شائعة في الأسواق أن المصرف نفسه قد أفلس.

مشهد من سوق البورص في دمشق

تدفّق الناس لسحب ودائعهم بسرعةٍ عجيبةٍ تفوق قدرة البنك على توفير السيولة المطلوبة. بدأ المصرف بجدولة تسديد الودائع، وعندما زاد هيجان المودعين، قررت إدارته تعويضهم بعقارات مستملكة في دمشق وغيرها من المدن السورية. أفلس بنك مرقدة وأغلق أبوابه إلى الأبد من يومها، وبقي بناؤه الأنيق قائماً إلى اليوم وشاهداً على عصر مضى، بعد أن تحول إلى محل لبيع الموالح والسكاكر.

ولم يكن مصير سوق البورص أفضل منه بكثير، فقد انسحبت منه كل الشركات الكبرى بعد تأميمها في السنوات 1961-1965، ومُنع التداول فيه بأمر من رئيس الدولة أمين الحافظ، ليتحول السوق اليوم إلى حارة مظلمة تُباع فيها الجلابيات والألبسة النسائية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image