كتبت مجلّة "المصوّر" المصرية، في عددها الصادر يوم 12 حزيران/يونيو 1958 عن أول عرض أزياء شهدته مدينة دمشق، بعد أربعة أشهر من قيام الوحدة السورية-المصرية: "المشهد في مطار دمشق، باقات من الزهور على أيدي عارضات الأزياء الجميلات في الإقليم الشمالي، جمهور من مصممي الأزياء والخياطين... رجال وشبّان وفتيات. في الحفلة التي أقيمت في المساء التقى مصممو الأزياء من الإقليم السوري بزملائهم من الإقليم المصري، صنعوا جميعاً تصميماتهم الجديدة من القماش الوطني فقط، وأثبتوا مقدرة الفنان العربي في دنيا الأزياء".
بلغ عدد مصممي الأزياء يومها ستة مصممين: ثلاثة من دمشق، واحداً من حلب، واثنين من القاهرة، صنع كل واحد منهم ثوبَ عروس وأطلقوا عليه أسماء مختلفةً منها: "حلم"، "العذراء"، "الجنة"، وعُرضت ليلتها مع بقية تصاميمهم، ولكن مجلّة المصور لا تأتي على الأسماء الكاملة للعارضات (مع الإشارة إلى أن إحداهن كانت إيطاليةً). إلا أن التقرير الصحافي يذكر المصمّمين: جبران أبو ذقن، سلفاجو، كلوفاس، ألبير أبو راشد، ومحال "جورجيت" المعروفة في دمشق والتي كانت إحدى عارضاتها الفنانة منى واصف قبل أن تمتهن التمثيل. حضرت الحفل ملكتا جمال دمشق الأولى والثالثة، عائدة القضماني ونبيلة فرعون، مع غياب الملكة الثانية نوال الرملي عن الحفل.
عالم الأزياء في دمشق تأثر كثيراً بالأفلام الأمريكية، وكان كل ما ترتديه النجمة أودري هيبورن، وبعدها مارلين مونرو، يُصبح عرفاً دارجاً "وموضةً" لدى الدمشقيات، من فساتين وتصريحات شعر وحقائب وأحذية
للأسف ليست لدينا أي معلومات عن العارضات وما حل بهنّ لاحقاً بعد هذا "الديفيليه". كل ما تقوله "المصوّر" أنهنّ كنّ فتيات جميلات في مطلع العشرينيات من عمرهن. كان هذا العرض الوحيد الذي شهدته دمشق في مرحلة الانفتاح الكبير الذي عاشته المدينة في خمسينيات القرن العشرين، بالإضافة إلى أمسيات عدة لانتخاب ملكات الجمال، كانت تجري في فندق المطار حتى منتصف الستينيات. عرفت دمشق العديد من مصممي الأزياء المحليين، الذين عارضوا فتح بوتيكات أجنبية لكبرى دور الأزياء العالمية في مدينتهم، بحجة أن تصاميمهم المحلية كانت أفضل وأكثر حشمةً وتماشياً مع ذوق السوريات في "الموضة".
وقبلهم بسنوات طويلة، حضرت الكاتبة هنا كوراني، المهرجان العالمي في مدينة شيكاغو الأمريكية في أيار/مايو 1893، ممثلةً عن نساء سوريا (كوراني من كفرشيما في لبنان يوم كانت تُعدّ هذه البلاد كلها وحدةً سوريةً في الزمن العثماني). صعدت هَنا إلى المسرح الأمريكي لإلقاء كلمتها باسم "سيدات سوريا"، وهي ترتدي الزيَّ التقليدي، ورأسها مغطى وعلى كتفيها سترة أنيقة مصنوعة من الحرير والأغباني. تحدثت كوراني عن أزياء بلادها الملونة، وطالبت بتحرير نساء العالم كافةً من سطوة دور الأزياء العالمية.
التأثر بنجوم هوليوود والعرب
عالم الأزياء في دمشق تأثر كثيراً بالأفلام الأمريكية، وكان كل ما ترتديه النجمة أودري هيبورن، وبعدها مارلين مونرو، يُصبح عرفاً دارجاً "وموضةً" لدى الدمشقيات، من فساتين وتصريحات شعر وشنت وأحذية.
أما الرجال، فكان تأثرهم بجميل الشاشة الأمريكية جيمس دين، والمغنّي الشهير ألفيس برسلي، الذي أطلق سالفي شعره وجعل منهما "موضةً" عامةً لشباب العالم كله، وليس فقط في المشرق العربي. وطبعاً كان هناك تأثير كبير لنجمات عربيات، مثل هند رستم وصباح، قبل أن تظهر في سوريا نجماتٌ يترقب الناس كلَّ تصرفاتهن وما يرتدين من أزياء، وكانت أولهن وأشهرهن الفنانة هالة شوكت، عندما لعبت دور البطولة مع عمر الشريف في فيلم "موعد مع المجهول" سنة 1959، قبل سنة من افتتاح التلفزيون السوري.
أزياء متنوعة
أما النساء الشعبيات، فكنّ يلبسن "الملاية" السوداء التي تغطّي الجسد كله وفي الأوساط الأكثر تحرراً انتشرت "ملاية" سوداء مكونة من قطعتين، ومنديل منفصل، وأدناها تنورة (يسمّيها الدمشقيون خرّاطة)، وفوقها معطف.
حتى هؤلاء كانت لهن "موضة" خاصة بهن، وتُخفَّف درجة سماكة المنديل بحسب مستوى تحرر المرأة. كانوا يسمون الموضة "الطالع"، ومن يلحق آخر صرعاتها "يلبس على الطالع". غيّرت محال "جورجيت" شكلَ المنديل وجعلته للرأس فقط وليس للوجه وحده، ثم بدأت تظهر الأيدي في أربعينيات القرن العشرين، لتقصَّر المعاطف من بعدها تدريجياً على مدى نصف قرن.
عرفت دمشق العديد من مصممي الأزياء المحليين، الذين عارضوا فتح بوتيكات أجنبية لكبرى دور الأزياء العالمية في مدينتهم، بحجة أن تصاميمهم المحلية كانت أفضل وأكثر حشمةً وتماشياً مع ذوق السوريات في "الموضة"
أما عند الرجال، وللمفارقة، فكان رجال الدين أول من ميّز الأزياء عن بعضها، عبر أشكال العمائم وأنواعها. معلمو الحرف منهم كانت لفّتهم "الأغباني" ومعروفة بالاصطلاح الدارج بـ"اللام ألف"، أو "لاماليف"، لأنها تلتف على شكل الحرف المذكور فوق الطربوش الأحمر، وأهل العلم كانوا يلفونها من شاش أبيض فوق الطربوش، وأهل التصوف على طاقية بلا طربوش، وإن كانوا منسوبين إلى بيت النبي فالعمامة تكون حصراً خضراء دلالةً على أنهم من "الأشراف".
وكان الرجل الشعبي يفتخر بأزيائه أيضاً، سواءً كان قنبازاً مصنوعاً من الحرير الأبيض المسمى "روز"، وفي وسطه زنّار حريري أو قطني ومن فوقه سترة طويلة تسمى "ساكو". وتحت القمباز كانوا يرتدون سروالاً أبيض طويلاً يصل إلى الكعب، أما في الشتاء فيكون من الجوخ الدافئ.
وهناك زي شعبي آخر للرجال، هو "الشروال" المطرز من جانبيه، وفوقه قميص بلا أكمام له أكثر من عشرين زرّاً من الرقبة إلى البطن. أما لباس الرأس فكان حكماً حطة الرأس العربية أو الطربوش.
والموظفون المتأثرون بالغرب، الذين كانوا يختلطون في عملهم بالأجانب والغرباء، فكانوا يلبسون الجاكيت "الإفرنجي" وربطة عنق وصدرية. ودرجت موضة حملِ عصا معكوفة اليد من الأعلى يسمونها "بسطون"، يقوم حاملها بحركات موزونة إلى الأمام فالأعلى ثم إلى الأسفل حتى تدق بالأرض مع كل خطوة يخطوها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...