شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"أترك بيتي لأحصل على قبلة في الأسانسير أو السيارة "... معاناة عشاق في بلاد لا تحترم الحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحريات الشخصية

الثلاثاء 19 مارس 202401:26 م

 في تموز/ يوليو الماضي، وقفت محامية مصرية على شرفة بيتها وهي توجه كاميرا هاتفها إلى فتاة وشاب يجلسان على أحد المقاعد العامة، لتصوّرهما وقد تحررا من القيود وقررا أن يقبّلا بعضهما البعض، لتبثّ لاحقاً هذا المشهد عبر فيسبوك وهي تسبّ الفتاة وتتوعد بسجن الثنائي.

 "إنتي ست شمال بتعملي إيه مع الراجل ده والباب مقفول عليكم؟"؛ هكذا صرخ حارس عمارة "طبيبة السلام"، في وجه امرأة بعدما اقتحم شقّتها مع أربعة آخرين لمجرد استضافتها زميلاً لها، وانهالوا عليهما بالضرب المبرح حتى لم تجد المرأة أمامها سوى القفز من شرفتها والموت.

هذه المشاهد التراجيدية تترك مؤشراً على الطبيعة العدائية للمساحات الجغرافية العامة والخاصة للأفراد، فيصبح الشارع والمنزل سيّان في الخطورة واختراق الخصوصية للعشاق والمحبين وحتى الأصدقاء من الجنسين، لذا يخلق الأفراد مساحات موازيةً تتقلص إلى خنادق صغيرة مظلمة تصبح أكثر حميميةً لأجسادنا.

"بلاد لا تحترم الحب"

"إحنا في بلاد لا تحرّم الحب لكن معندهاش مشكلة لو واحد قتل التاني"؛ هذا ما تقوله نانسي (29 عاماً) التي تعمل في مجال الصحافة.

وتضيف لرصيف22: "حارس عمارتي لا يتورع عن سؤالي كل يوم عما إذا كنت سأتزوج عما قريب، ثم يختم حديثه بالدعاء المعهود 'روحي ربنا يسترك ويستر بناتنا'، فأتقزز من دعوته وأردّ بجملتي المكررة ومفادها أن يتركني وشأني".

تكمل نانسي حديثها: "شقّتي تتجاوز مساحتها الـ120 متراً في منطقة متوسطة، لا أستطيع أن أقابل حبيبي فيها، لأني أعرف أن الحارس سيفتعل معي مشكلةً ربما تنتهي بسجني، لذا أترك بيتي لأحصل على قبلة وعناق في 'الأسانسير' أو السيارة، أو في أي مساحات مظلمة لن يتجنّى فيها علينا أحد".

في مجتمعات تكره الحب تتبدل ذاكرة الأمكنة. تشير إيمان الذياب في مقالتها "عن الذاكرة والمكان"، إلى أن هوية الأمكنة ليست ثابتةً حيث يرتبط المكان بفكرة الاحتواء فهو الذي يحتوينا كبشر، ولهذا تتسم العلاقة بين الإنسان والمكان بكونها علاقةً وجوديةً عاطفيةً من ناحية، وتطوريةً متبادلةً من ناحية أخرى، فالمكان يؤمّن للإنسان القدرة على تلبية حاجات ضرورية للاستمرار في العيش، وهذه تساعده في اكتساب هويته الوجودية.

"شقّتي تتجاوز مساحتها الـ120 متراً في منطقة متوسطة، لا أستطيع أن أقابل حبيبي فيها، لأني أعرف أن الحارس سيفتعل معي مشكلةً ربما تنتهي بسجني، لذا أترك بيتي لأحصل على قبلة وعناق في 'الأسانسير' أو السيارة، أو في أي مساحات مظلمة لن يتجنّى فيها علينا أحد"

"تجربة الحميمية في أماكن غير منزلك الآمن تعلّمك أن الأماكن ليست لها هوية أو وظيفة ثابتة"؛ هذا ما يقوله زين (34 عاماً)، لرصيف22: "نحن من نعطي الأماكن هويتها ونلوّنها بألوان تجاربنا فيها، فيتحول السلّم مثلاً من مكان مرور إلى ذاكرة طبعنا على جدرانها الكثير من تجاربنا اللطيفة ومشاعرنا".

يستطرد زين: "إن ممارسةً حميميةً في مكان غير معتاد، كـ'الأسانسير' أو السلّم، عادةً ما تنجم عنها مشاعر مختلطة، حيث تمتزج متعة الحب مع قلق الترقب، ولذة المخاطرة مع الخوف من وجود رقيب غير متوقع، والخوف من المفاجآت مع الرغبة في إعلان المشاعر والتعبير عن الحب".

ويضيف: "الحميمية في أماكن كمثل هذه هي فعل مقاومة، مقاومة الرقابة التي يفرضها المجتمع على المحبّين، وهي فعل رفض الأبوية وكراهية الحب المتفشية في الشارع والمجتمع".

تتفق شيري (26 عاماً)، مع زين حول فكرة تبدّل هوية الأمكنة: "بخاف أنا وحبيبي نكون في البيت، دايماً بسمع عن الجيران إللي فجأه يكسروا الباب ويدخلوا... بقيت بحضنه على السلم أو في أي مكان متخبي وعمري ما تصورت أن الأماكن دي تكون براح لينا أكتر من البيت، برغم أنها مساحة عامة، لكن اتعلمنا نخطف الحضن والبوسة بسرعة".

هل طبقية الأمكنة حلّ لحركة أجسادنا؟

في المجتمعات المحافظة، تتقيد حركة أجسادنا فتصبح في "قمقم" لا نستطع فيه التمتع بأريحية، ونحاول التأقلم حتى نتعفن أو نكسر القمقم لنتنفس بحرية. يتعلم الفرد في خضم مواجهة خطر العقوبات المجتمعية واختراق الخصوصية أن يفاضل بين الأمكنة إن أراد الشعور بلذة الحميمية الكاملة فيتجه إلى المفاضلة بين المناطق والثقافات في المساحات الجغرافية في البلد الواحد حتى يشعر بأمان تام في أثناء انتزاعه حقه وطريقته في الحب والحركة، لذا نطرح رؤيةً أخرى مقابلةً لهوية الأمكنة وهي طبقية الأمكنة في التعامل مع المساحات الحرّة للأفراد.

تقول سميرة (32 عاماً)، التي تعمل مهندسة ديكور: "في ظل القمع الذي نعيشه في مجتمعاتنا العربية بصفة عامة، نلجأ إلى الحلول البديلة حتى نضمن جزءاً من الأمان الشخصي، مثلاً حين فكرت أنا وصديقي في اللقاء ظللنا أكثر من شهرين نبحث عن شقة في مكان راقٍ لنتمتع بحرية أكثر وأريحية ونتجنب تلصص السكان وحرّاس العمارات".

تضيف لرصيف22: "في المناطق الراقية محدش بيسألك رايح فين وجاي منين، مفيش تعدي على الخصوصية بالشكل الفج إللي بيحصل في المناطق الشعبية"، مشيرةً إلى أن الناس في مصر مختلفون بحسب توزعهم الجغرافي، وتحديداً في ما يخص علاقات الحب خارج إطار الزواج، لكن الفكرة تكمن في غلاء هذه المناطق، على حدّ قولها: "تخيلي تدفعي دم قلبك علشان تقدري تمارسي حقك الطبيعي، تتحركي وتحبي وتعيشي، ومش بتسببي أي ضرر للآخرين وده لأنك في مجتمع قرر يفرض سلطته الأبوية عليكِ كأنك طفلة".

يطرح خالد (36 عاماً)، الرؤية نفسها، وهي الميل إلى الخروج من سيطرة الكتل البشرية في المساحات الجغرافية الضيقة والميتة إلى مساحات جغرافية لا تتسم بهذا التداخل والامتزاج بين الناس، ما يعطيهم الحق المطلق في التعدي كأنهم حماة القيم والمجتمع وأوصياء على حياتنا وخياراتنا وأجسادنا.

في هذا السياق، يوضح الباحث في الشأن الاجتماعي عصام ناصر، أن حضور الرقابة المجتمعية على حركة الأفراد في المساحات العامة، وعلى سلوكياتهم في المساحات الخاصة، يتأثر بالمستوى الاجتماعي؛ فالجماعات والشرائح الاجتماعية كلما ارتفع مستواها المادي وزادت حظوظها من الثروة، قلّت قدرتها، وفي غالبية الأحيان رغبتها في ممارسة رقابة أبوية على حركة أجسادنا.

ويرى ناصر أن هناك سببين رئيسيين، الأول: أن الأفراد المتمتعين بوضع طبقي مستقر، يكتسبون جراء وضعهم الطبقي عدداً من الامتيازات، منها القدرة على الدفاع عن حرياتهم وحقوقهم الاجتماعية، وكلما زادت حظوظهم المادية وترقّوا في سلم الصعود الاجتماعي، تراكمت قدرتهم على الحفاظ على امتيازاتهم وحرياتهم، وتالياً ازدادت قدرتهم على الدفاع عن مكتسباتهم وحقوقهم، وقلّت قدرة الجماعة التي ينتمون إليها على فرض رقابة عليهم. أما السبب الثاني، فلا يوجد تقسيم طبقي راسخ ومستقر في مصر، إنما هناك حراك مستمر، يصعد جراءه أفراد في السلم الاجتماعي، ويفقد آخرون مواقعهم الطبقية؛ لذلك لم تتشكل في مصر أعراف مستقرة خاصةً بالطبقات الغنية، إنما هي خليط بين قيم تقليدية ورثها الصاعدون الجدد في السلم الطبقي، وقيم جديدة اكتسبوها بغرض التعبير عن تمايزهم الطبقي في محاولة لتكريس هذا التمايز على المستوى الرمزي، وعدم وجود أعراف وقيم مستقرة لدى الطبقات الغنية في مصر، يعني عدم وجود رقابة صارمة على أفراد هذه الشرائح.

يكمل الباحث عصام ناصر، حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "لو قارننا هذا الوضع بالمجتمعات الفقيرة والطبقة المتوسطة، خاصةً الشرائح الدنيا منها، وهي بطبيعتها محافظة، نجد أن هذه التجمعات أكثر رغبةً في فرض رقابة صارمة على الأفراد المنتمين إليها، وأكثر قدرةً على ذلك؛ وترجع قدرتها تلك إلى وجود تقاليد وأعراف راسخة، لأنها ذات حظوظ أقل في الصعود الاجتماعي، وتالياً استقرارها الطبقي منحها الوقت لتطوير تقاليد وأعراف مستقرة وذات طبيعة محافظة".

 "تخيلي تدفعي دم قلبك علشان تقدري تمارسي حقك الطبيعي، تتحركي وتحبي وتعيشي، ومش بتسببي أي ضرر للآخرين وده لأنك في مجتمع قرر يفرض سلطته الأبوية عليكِ كأنك طفلة"

ويضيف: "كما أن أفراد هذه الطبقة أقل فردانيةً وأكثر اعتماداً على شبكات الدعم الاجتماعي، وأكثر ارتباطاً بأسرهم ومجتمعاتهم الصغيرة ومن ثم أكثر خضوعاً لإملاءاتهم وتدخلاتهم في حياتهم الخاصة واختياراتهم الشخصية. لذلك نجد أن الرقابة الاجتماعية على حركة الأفراد وسلوكياتهم أكثر صرامةً وحضوراً في المدن القديمة والأحياء التاريخية بسبب استقرار سكان هذه المناطق لسنوات طويلة، راكموا خلالها أعرافاً وتقاليد ازدادت رسوخاً بمرور الوقت، على العكس من المدن الجديدة، حيث يتمتع أفرادها بحرية أكبر؛ لعدم وجود مجتمعات مستقرة، وبسبب منظومة الإيجار الجديد التي تسهم في توليد حركة إحلال وتجديد مستمرة بين السكان بصورة لا تسمح بمراكمة تقاليد مشتركة، أو علاقات اجتماعية تتسم بالقوة والرسوخ تسمح لهذه الاجتماعات بفرض رقابة صارمة على أفرادها".

باختصار، نحن كبشر نحب الحياة، وتحب أجسادنا الحركة والحرية، ولا مفر من قيود مجتمعاتنا سوى عبر التحايل والبحث الدائم عن البدائل، ولن نعرف كيف نشرح البديهيات وكيف نتكبد كل هذا العناء من أجل الحصول على حقوقنا الطبيعية، ولن يتورع العشاق عن خلق عالم موازٍ يمثل لهم التمرد وكسر القيود من أجل ممارسة أبسط حقوقهم في الحب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

خُلقنا لنعيش أحراراً

هل تحوّلت حياتنا من مساحةٍ نعيش فيها براحتنا، بعيداً عن أعين المتطفلين والمُنَصّبين أوصياء علينا، إلى قالبٍ اجتماعي يزجّ بنا في مسرحية العيش المُفبرك؟

يبدو أنّنا بحاجةٍ ماسّة إلى انقلاب عاطفي وفكري في مجتمعنا! حان الوقت ليعيش الناس بحريّةٍ أكبر، فكيف يمكننا مساعدتهم في رصيف22، في استكشاف طرائق جديدة للحياة تعكس حقيقتهم من دون قيود المجتمع؟

Website by WhiteBeard
Popup Image