ليس علم عمران المدن مقتصراً على مخطط للشوارع يحوي قطاعات المدينة فحسب، بل إنه ينطلق أساساً ويصب في مجتمع السكان وعلاقاتهم الإنسانية، والاقتصادية، والزمانية، والمكانية. وبما أن الحب (بتجلّياته المختلفة)، هو العمود الفقري للعلاقات بين الأفراد، لأنه يتحكم بالرابط الذي يشد العائلات (الحلقة الاجتماعية الأولى)، فلا بد أن ثمة علاقة بين الحب كعامل أنثروبولوجي أساسي، وتصميم المدينة العمراني وواقعها.
من منا يجرؤ على تعريف الحب، ويدّعي اختصاره بكتاب أو أكثر، إلّا إذا حاولنا ربطه بالمدن التي تحتويه وتفرض قواعدها على "لعبة السر والعلانية"؟ فمن الأكيد، أن الحب يأخذ مادته الخام من الأعراف والتعاليم الخاصة بكل مدينة، فينحت ببطء شكل المدن، وبعد ذلك تصير المدن ذاتها إطارات لا يمكن للحب أن يقفز خارجها إلا بتكاليف باهظة!
سؤال "ما هو الحب؟"، عصيٌّ على الإجابة، إلا إذا جزّأناه إلى المئات من الأسئلة الفرعية، وأنا هنا سأطرح بعض الأسئلة المختصة بالعائلة مع توصيف حالات مدنية عايشتها ودرستها في محاولة للإجابة.
كم منا يتذكر قبلةً على الشفتين حصلت بين أبيه وأمه أمام عينيه؟ ألم يتساءل أحد لماذا يبدو الأب والأم في البيت في أغلب الحالات كالإخوة؟ وإذا كانت مدننا في العصور الوسطى قلوباً حيةً تضخ الحب للعالم شعراً وموسيقى، كبغداد ودمشق وقرطبة وغرناطة، فأين نحن من هذا كله؟ ولماذا تبدو مجتمعاتنا الراهنة رماديةً باهتةً في الاحتفال بالحب؟ هل كان لدينا أدنى قدر من التربية العاطفية على أقل تقدير؟
في رحلة تبدأ من سوريا وتمر بلبنان وتستقر في ألمانيا، أسرد وأستذكر مظاهر الحب وأنماطه في قالب العمران.
بما أن الحب (بتجلّياته المختلفة)، هو العمود الفقري للعلاقات بين الأفراد، لأنه يتحكم بالرابط الذي يشد العائلات (الحلقة الاجتماعية الأولى)، فلا بد أن ثمة علاقة بين الحب كعامل أنثروبولوجي أساسي، وتصميم المدينة العمراني وواقعها
حب حلب
إذا أردنا اختصار الغرام الحلبي، فيمكننا القول إنه "كامل الدسم" بتركيباته اللفظية الشهية: "أبوسك"، و"لك يخليلي" مع صرير الأسنان... من أين جاء هذا كله؟
عالما حلب المتوازيان
الأحياء الحلبية التي كانت مصممةً في غالبيتها على الطراز الأيوبي بالممرات والأزقّة الدفاعية المنكسرة الضيقة، فرضت نوعاً من الروتين المدني اليومي العسكري المحصّن، والذي دعمته الأحكام الشرعية الصارمة، فجعلت التلاقي حتمياً ومكشوفاً وشديد المراقبة بين الشباب والصبايا.
إذا ما استثنينا قاطني المناطق الثرية في حلب وقاطناتها، بكل طوائفهم وأعراقهم، ففي أغلب قطاعات حلب ومناطقها تسود الصيغة المملوكية العثمانية "حرملك" و"سلملك"، فتقسم البشر إلى مجموعتين متوازيتين لا يمكن أن تلتقيا، فتسمع كل منهما عن الأخرى وتكوّن أحلاماً، إذ لا اختلاط بين أحلام الرجال والنساء أو أفكارهما أو أجسادهما.
رسمة: أحمد غالية
العرس الحلبي
الانفصال يشحذ الخيال والشغف والتهيؤات، فيصير جسر العبور بين عالمي الرجال والنساء نوعاً من الفانتازيا الشاهقة الممنوعة المطموع فيها، وكان هذان العالمان ينفصلان ويتصلان بشكل جزئي في أعراس حلب على سبيل المثال.
فأعراس النساء الحلبية كانت راقصةً ملوّنةً، كمهرجانات للبهرجة واستعراض الثياب العصرية التي لا يمكن للنساء ارتداؤها في الفضاء العام، للتعبير عن الصبا والجمال، ويتم فيها تجنيد "خطّابات" لصيد عروس مناسبة، و"خصبة"، لإخوة النساء الحاضرات وأبنائهن، كي يصير الحب ممسوكاً جيداً ضمن العائلة الواحدة. حتى الآن، في عصر التواصل الاجتماعي، تنتشر مجموعات الخطبة الفيسبوكية وتعمل عمل الأعراس سابقاً، بعد أن توزّع الحلبيون والحلبيات في أنحاء العالم كلها.
أما أعراس الرجال، فكانت مناسبات لاستعراض "الوقار" و"الرجولة"، ويقال لها اصطلاحاً "تلبيسة"، ويتم فيها استعراض رقصة "العربية" بالتمايل الرصين واستخدام المناديل في اليدين، كإيحاء بأن الرجل "فرايحي"، و"عقل وثقل وركازة"، حتى في المناسبات الموسيقية الصاخبة.
كم منا يتذكر قبلةً على الشفتين حصلت بين أبيه وأمه أمام عينيه؟ ألم يتساءل أحد لماذا يبدو الأب والأم في البيت في أغلب الحالات كالإخوة؟
التداخل الوحيد بين العرسين، يحصل حين يأتي العريس إلى عروسه في عرس النساء، فتتوقف أغلب مظاهر الطرب النسائي، ليشهد العريس جزءاً يسيراً مما يحصل قبل دخوله.
لا بد في هذا الشأن من ذكر كتاب "حالة شغف" للكاتب الحلبي، نهاد سيريس، والذي يمكن أن يقول الكثير عن عالم الحب والطرب النسائي في حلب.
كطفل ذكر، يكون مكانك بين المجتمعين، و ستسمح لك النسوة بأن تغشى بعضاً من عوالمهنّ بسبب حاجتك إلى أمك والتزامها بك، حتى تبلغ عمر السابعة، فيتم استبعادك من هذه العوالم إلى الأبد، لأنك صرت من المحتمل أن "تفهم ما يدور حولك في الأعراس وحمامات السوق و’الاستقبالات’، وما إلى ذلك، وتشي به إلى عالم الرجال".
تجدر الإشارة إلى أن حب الأغنياء للأغنياء كان مشروطاً في حلب ومنوطاً بشكل شبه تام بالبقاء داخل حدود الطائفة أو القومية، وإلا فالعنف قد يكون إحدى الطرق.
الحي الحلبي والقبلة الحلبية
الحب كان في أحسن الأحيان حبيساً في الأماكن العامة، وبافتراض أن الطرفين قد توافقا عاطفياً، وأرادا أن يتعانقا أو يمارسا الجنس في حالات نادرة، يبقى حاجز "أين سنفعلها؟" العائق الأكبر، إذ إن الناس يعرفون بعضهم في الحي الواحد، ويشون بسهولة عن ممارسي "الرذيلة" وممارساتها، ويلاحقونهم ويحاصرونهم.
كان الشباب والشابات في المدارس الثانوية التي كانت "غير مختلطة" في معظمها، يقتنصون وقت الدخول أو الخروج من المدرسة ليلتقوا بطرق غير مباشرة، ويتبادلوا النظرات والإيماءات وأرقام الهواتف والمواعيد والـ"تمشايات" في الأزقة الهادئة، من دون أن يجرؤوا على تعدّي خطوط المجتمع "الحمراء".
إلا أن حماسة الشباب لم تعجز عن سرقة بعض القبلات والمداعبات في مداخل البنايات، وفي "خلتات" حارات حلب القديمة و"زوابيقها"، والتي لطالما طبع عشاق حلب أجسادهم على حجارتها، ولم يكن صعباً على زائر قلعة حلب كشف "أزواج العصافير" وهي تتلفت يمنةً ويسرةً لتطمئن إلى أنها تستطيع تبادل القبل أو التلامس، في محاولة لإشباع الشوق والعطش إلى الآخر.
أما الجامعات والمعاهد فكانت مختلطةً، وعند أغلب الشباب والصبايا الفرصة الأولى لنظرة أكثر قرباً إلى الجنس الآخر.
حب دمشق
تقسيم دمشق عمرانياً وتاريخ تطورها أعقد بكثير من تقسيم حلب، ولكن في بعض الجوانب ينسحب عليها ما ينسحب على حلب في الصورة العامة، سواء في مجتمع الشام العربي أو الكردي، المسلم أو المسيحي، السنّي أو العلوي أو الدرزي.
لن أطيل الحديث عن القواسم المشتركة للحب بين دمشق وحلب.
ولكن ما يبعد دمشق عن حلب، أو عن أي مدينة سورية أخرى، كونها ميتروبولاً كبيراً، بحكم أنها العاصمة، يحتوي الكثير من "الغرباء والغريبات" المقيمين خارج حدود سيطرة أهاليهم، وهم أساس طلبة الجامعات وطالباتها، الذين كوّنوا "فقاعاتٍ جغرافيةً من الشغف"، مثل المدينة الجامعية والشعلان وجزء من ساروجة وباب شرقي والقصاع وجرمانا في الضواحي، والجديدة على أطراف المدينة العجوز، ما جعل من مناطق عدة فيها شرايين تضخ انعتاقاً وحريةً ومجاهرةً بالحب والقبل الفموية، حتى أن مبدأ المساكنة بدأ في الرواج، والطفوّ فوق السطح.
المساحات العامة، كالقشلة وباب شرقي وباب توما ومقاهيها الخلابة، كانت مسارح حب دافئة وحارّة في بعض الأحيان، لا تخلو من المغامرات والإثارة مع معدل خوف قليل نسبياً عن مدن سوريا الأخرى.
يمكن سرقة القبلات في حارات دمشق، وفي المناطق المتطرفة كمشروع دمر والضاحية، حتى أن قمة قاسيون كانت مسرحاً، حيث يمكن أن نرى بين الحين والآخر سياراتٍ مركونةً تهتز، وحتى أن المثليين والمثليات جنسياً من مجتمع دمشق وجدوا في هذه الفقاعات الحرة ملاذاً آمناً نسبياً يقبلهم ويعترف ببعض حقوقهم الأساسية.
الحب كان في أحسن الأحيان حبيساً في الأماكن العامة، وبافتراض أن الطرفين قد توافقا عاطفياً، وأرادا أن يتعانقا أو يمارسا الجنس في حالات نادرة، يبقى حاجز "أين سنفعلها؟" العائق الأكبر، إذ إن الناس يعرفون بعضهم في الحي الواحد، ويشون بسهولة عن ممارسي "الرذيلة" وممارساتها، ويلاحقونهم ويحاصرونهم
الغزل الدمشقي
على عكس حلب، كان الغزل الدمشقي انسيابياً وناعماً وحاسماً جداً، فيه الكثير من الاهتمام والتدليل الدمث من دون أسئلة، وفيه الكثير من الأمنيات المصيرية؛ "تشكل آسي"، و"تقبر عضامي"، دلالةً على تمنّي العمر الطويل للمحبوبة أو المحبوب، وكنايةً عن الإيثار والتضحية، فالشوام "حكوجيون" كما يقال عنهم، وألسنتهم تقطر عسلاً، ولعل طبيعة المدينة التي كانت مليئةً بالأنهار والحدائق قبل أن يجففها العصر الحالي عن بكرة أبيها، كانت قد سببت هذه الكياسة الموجودة لدى الشاميين والشاميات.
كان الحب في دمشق أكثر عبوراً للطوائف والأعراق منه في المدن السورية الأخرى.
حب بيروت
بيروت حصان المدن العربية الأسود في ما يتعلق بالحب. فقد كانت وما تزال على الرغم من أيامها الصعبة الحالية، برأيي، رائدةً فيه. تخطيطها العشوائي الحالي يتّسم بالتسامح مع العشاق كلما اقترب الحب من مركز المدينة، ولكنه، وبسبب استقطاب الحرب الأهلية المنصرمة، ينكفئ ليصير مرتبطاً بشكل أكبر بالعادات والتقاليد كلما ابتعدنا عن المركز إلى بيروت الغربية والشرقية والضاحية الجنوبية.
تفيض مقاهي بيروت في الحمراء والجميزة وبدارو والداون تاون وباراتها وشوارعها، بالعشاق من كافة الانتماءات الطائفية والعرقية في لبنان، حتى أن المراقب يستطيع رؤية الكثير من السياح العرب والمسلمين ينعمون مع شركائهم وشريكاتهم بسهولة الحب العلني، من دون رقيب اجتماعي في مدينة تضج بالأفكار والنظريات الاجتماعية الجديدة والمترجمة من الدول المتقدمة.
رأيت القليل من الرجال في مدننا السورية والعربية عموماً قد أقدموا على تبادل الحب بالعناق والتقبيل العلنيّين مع زوجاتهم، على الرغم من "شرعية" هذا الحب.
مدينة بحرية مليئة بالمتناقضات، وطقس معتدل لطيف أغلب أيام السنة، يغري بالحب ويباركه، لا سيما في المناطق الوسطية فيها، إذ إن الجميزة والحمرا على سبيل المثال كانتا عالمين متكاملين مفعمين بالأنشطة الثقافية والفنية والعشقية.
الثقافة والفن والعشق، الترويكا المثالية لبيروت التي تهديها للمقيمة والمقيم والوافدة والوافد.
أماكن كثيرة مثل "دار المصور" و"مزيان" و"زنجبيل" و"راديو بيروت" و"أم نزيه"، كانت أكثر من حانات أو مطاعم أو طاولات، وكانت منهلاً للاجتماعات الحميمة والمواعيد الواعدة، وتؤدي بالكثيرين إلى الوقوع في الحب.
لا أدري ما كانت عليه بيروت قبل أن أسكنها بعد هجرتي من سوريا، ولكني قرأت وسمعت وشاهدت مظاهر للحب في شارع الحمرا مثلاً في بيروت، في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، وسمعت الكثيرين من البيروتيين والبيروتيات يتغزلون بماضي المدينة ما قبل الحرب الأهلية، إذ يؤكدون أنها كانت أكثر انفتاحاً على الحب، والتيارات اليسارية والليبرالية كانت تضخ الحرارة في أجوائها، لتستحق عن جدارة لقب "باريس الشرق".
يمكن سرقة القبلات في حارات دمشق، وفي المناطق المتطرفة كمشروع دمر والضاحية، حتى أن قمة قاسيون كانت مسرحاً، حيث يمكن أن نرى بين الحين والآخر سياراتٍ مركونةً تهتز، وحتى أن المثليين والمثليات جنسياً من مجتمع دمشق وجدوا في هذه الفقاعات الحرة ملاذاً آمناً نسبياً يقبلهم ويعترف ببعض حقوقهم الأساسية
الحب السوري والعربي... القبلة العلنية المظلومة
رأيت القليل من الرجال في مدننا السورية والعربية عموماً قد أقدموا على تبادل الحب بالعناق والتقبيل العلنيّين مع زوجاتهم، على الرغم من "شرعية" هذا الحب، لأسباب لم أكن أفهمها في الماضي، وكنت أظن أنه نوع من الحياء العام الذي لا يصح أن يخدش، حتى أن أغلب الرجال كما كنت ألحظ يعافون تسمية زوجاتهم بـ"حبيبتي"، أمام أقرب الناس إليهم.
ولكني أزعم أني استطعت أن أُخرج أسئلتي من قالبها الساذج، وأن أعزو ذلك بيقين تام إلى الهرمية السلطوية الذكورية العائلية التي ترى أن التعبير الصريح عن الحب يُظهر رقة الأبوين وضعفهما، ويذهب بالهيبة والرعب. إنها طريقة التربية الأكثر شيوعاً، أمام الأولاد.
خارج نطاق العائلة وأمام المجتمع وفي الشارع، أعزو الكتمان والتحفظ واستهجان القبلة بين الأزواج إلى "هشاشة الذكورة" برأيي، والتي تخشى إظهار الشريكة كمحطّ للحب وفاعلة فيه، لئلا "يُطمع" ذلك فيها ذكور المجموعة، والدليل على ذلك أن الرجل النمطي كما رأيت، لا يتورع عن عناق "صاحبته" وتقبيلها أمام وسط يسمح له بذلك. أما مع امرأته، و حين يخرج التواصل من غرفة النوم إلى الحيز العام، فيتجنب أي فعل يتيح للمجموعة رؤية أفعال امرأته الحميمة، و"يهدم" صورتها كـ"أم الولاد"، للحفاظ عليها كـ"مثل أعلى للعفة"، بتجاهل تام لحاجاتها الجسدية والنفسية، في الاعتراف بها كشريكة مساوية في الإنسانية والهوى.
أخرج إلى أوروبا وقد طالعتني أغلب مدنها الرئيسية بأجوبة وأسئلة جديدة.
حب برلين
أخرج إلى أوروبا وقد طالعتني أغلب مدنها الرئيسية بأجوبة وأسئلة جديدة.
إذا كانت باريس وروما عاصمتي الموضة، وفرانكفورت عاصمة المال، في أوروبا، فإن برلين بلا شك هي عاصمة أنماط الحب ونظرياته وفلسفته في العالم، إذ إن جزءاً ضخماً قد يصل إلى نصف التراث الفلسفي العالمي الحديث في علم النفس العاطفي، انطلق من المنطقة الجغرافية المحيطة ببرلين في ألمانيا والنمسا أو تشيكيا، (شوبنهاور، وهانا أرندت، وكانط، وهايدجر، ونيتشه...)، وصبّ في جامعاتها العريقة كجامعة "هومبولت للعلوم الإنسانية"، وجامعة برلين الحرة، ناهيك عن القوالب الاجتماعية المتضادة والمتعددة التي تفاعلت مع بعضها بشدة وكوّنت فسيفساء قلّ نظيرها في العالم، وتكاد تتفوق على نيويورك في الكثير من مظاهر نبذ المظاهر.
أنماط الحب في برلين
المتجولة والمتجول في برلين، سيلاحظان "الابتذال الفني المقصود" لكل شيء: الملبس، والمسكن، ووسائل المواصلات.
حتى الحب كمفهوم كلاسيكي، تم الزهد فيه والقفز خارج صندوقه ليصير مجتمعاً كبيراً من النظريات العشقية التي تعنون: "التسامح مع أي شيء"، فوق كل شيء.
لا بد في البداية من الحديث عن "البوهيمية" في الحب التي أثّرت بشدة في المدينة، في مرحلة إمبراطورية بروسيا، وتطورت حتى وصلتنا برلين اليوم كما نراها.
"الحب البوهيمي" الذي هو نمط من العلاقات، نشأ في منطقة "بوهيميا" التشيكية، من مجموعات ذات مسحة غجرية، وعمد إلى كسر القوالب في أنماط غير تقليدية، وخاصةً بين الأشخاص ذوي (وذوات) الميول المشتركة، وكان مناهضاً للمؤسسات والإملاءات العقائدية أو المجتمعية. ودأبت المؤسسات الكنسية والاجتماعية على إطلاق صفة "بوهيمي" كشتيمة، ولكن حديثاً صارت نوعاً من الثناء على مستوى العالم مع تصاعد حركات "الهيبيز" في سبعينيات القرن الماضي.
ظل الحب البوهيمي ناشطاً ومشاكساً في دول شرق أوروبا كلها، ويمكن أن نراه في تجمعات وحركات ضمنية لها وزنها الاجتماعي، كحركة "ثقافة الجسد الحر" Freikörperkultur، في شرق ألمانيا التي تجد في برلين قاعدتها الأساسية.
نمط الحب الموازي الرائج في برلين، والمرتبط بالبوهيمية في بعض النقاط، هو النمط "الليبرالي التوافقي"، كما كتبت جريدة Die Zeit، في إحدى افتتاحياتها، الذي ينفصل عنها في عدائها للمؤسسات، وينادي بشكل رئيسي بتحرير العاطفة والميول من الضوابط الاجتماعية، ولكن آمن بدور المؤسسات في تحقيق ذلك فيها كثيرون. الليبرالية "العقلانية" الألمانية دعت إلى تحرير الجسد بشكل كامل من كل القيود الاجتماعية أو الدينية، وتوزيع الحب بالتساوي على الرجال والنساء، العابرين والعابرات جنسياً، والمثليين والمثليات، وغير المنصاعين/ ات للثنائيات الجندرية... وسنّ القوانين والأنظمة والمشاركة في الحياة السياسية، لتغيير ذلك، ولعلّ حزب الخضر "المشارك في الحكم"، وبعض أحزاب اليسار الصغيرة تمثيل مهم لهذا التوجه.
ولا بد من ذكر الحب الكاثوليكي التقليدي، الذي تراجع بشكل كبير في برلين في السنوات الخمسين الأخيرة، وصار معتنقوه يحرصون على الهرب إلى خارج برلين التي صارت تُعدّ مرهقةً.
شرق برلين وغربها، وعلى الرغم من إعادة توحيدهما قبل ثلاثين عاماً، إلّا أنهما لا يزالان يتمايزان بشكل عضوي في شكل الحب وتجلياته، فبرلين "الشرقية" التي تشبه "براغ" كثيراً في نمط عمارتها، تشبهها أيضاً في مقدار "بوهيمية" ساكنيها، إذ إن الشرق يحوي أكبر تجمعات حركة "ثقافة الجسد الحر" السكنية
شرق برلين وغربها، وعلى الرغم من إعادة توحيدهما قبل ثلاثين عاماً، إلّا أنهما لا يزالان يتمايزان بشكل عضوي في شكل الحب وتجلياته، فبرلين "الشرقية" التي تشبه "براغ" كثيراً في نمط عمارتها، تشبهها أيضاً في مقدار "بوهيمية" ساكنيها، إذ إن الشرق يحوي أكبر تجمعات حركة "ثقافة الجسد الحر" السكنية، ففي برلين الشرقية تتحصن أعرق نوادي برلين الليلية ذات السمعة العالمية "بيرغهاين"، ضمن نسيج عمراني من "الهيبيز" يلفه ويلتف به. وبيرغهاين رمز من رموز تحرير الجسد على مستوى العالم، وفيه يمكن للزوار التعبير عن كل طرائقهم في الحب وتجريد الجسد منذ التسعينيات.
بينما برلين الغربية لا زالت في معظمها تقتصر على الطابع الهادئ العائلي مع تداخلات شديدة مع الشرق، فلا نرى في الغرب احتفالات بالحب بالزخم البوهيمي والعقلاني ذاته، إلا ما تم افتتاحه حديثاً أو ما ينظَّم من مهرجانات.
ولكن، لا غنى عن حرارة حلب ودمشق ودفئهما وفانتازياهما بالنسبة لي، في كثير من التفاصيل، مع الأمل بأن تتحقق المساواة الحقيقية بين مكونات المجتمع من ناحية الشغف.
من حلب إلى برلين أطياف كثيرة عاصرتُ تفاصيلها، وكنت أجهد في ربطها بموروثي الشخصي ونضالاتي ونضالات أصدقائي وصديقاتي في سوريا، كانت ولا زالت ترتكز على الحصول على فسحتنا من الحرية واستقلالية القرار، وتضمن لنا عيش هذه الحياة القصيرة بكل أبعادها وتجريب ما من حقنا تجريبه.
ولكن، لا غنى عن حرارة حلب ودمشق ودفئهما وفانتازياهما بالنسبة لي، في كثير من التفاصيل، مع الأمل بأن تتحقق المساواة الحقيقية بين مكونات المجتمع من ناحية الشغف، إذ كانت أمنيتي قبل كل هذه الرحلة، ولم تتغير حتى الآن، أن نتحلى جميعاً بالتسامح الحقيقي ونسمح بأن تتزاوج كل هذه الأنماط في مكان واحد يعترف بوجود كل الناس، ويحترم خصوصية كل فرد من أقصى الأحادية الكلاسيكية إلى أقصى التعدد والتحرر والتجديد. فإن كنت تخاف من منظر عاشقين يتناجيان لأنك تعدّه انحلالاً، أو كان ينفّرك منظر شخص يصلّي لأنك لا تؤمن بالصلاة، فاعلم أن شيئاً ما في الإنسان داخلك تلزمه العناية والمراجعة، وربما الصيانة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.