"عند وصولي إلى أوروبا في العام 2015، كنت أشعر بالنفور والاستغراب والخجل عندما أرى شخصين يتبادلان قُبلاً حميمية في الشارع. كنت أحاول ألا أنظر إليهما، ولو نظرت فلأحاول أن أخبرهما دون كلام بأنني لا أحب ما تفعلانه، ولا أفهم لماذا تفعلان ذلك، فهذا معيب حقاً". هكذا بدأت لمى،27 عاماً، ضاحكة كلامها. آثرت لمى أن نستعمل اسماً مستعاراً لتتكلم بحرية دون تعرضها للانتقاد ممن يعرفونها.
ازدادت أعداد العرب الذين هاجروا إلى أوروبا في العقد الأخير، ليجدوا أنفسهم على مرأى من ثقافة مختلفة. وصار عليهم الاعتياد على مشاهد في الأماكن العامة لم تكن مألوفة، بل وجدوا أنفسهم مرغمين على نقد الكثير من العادات والتقاليد التي تربوا على الانصياع لها، فعند الانتقال للعيش في مكان غريب يتحرر المرء مما تربى عليه ليختار المناسب له.
جاءت لمى الفلسطينية السورية من قرية صغيرة في ريف دمشق، حيث بحسب كلامها، لا أحد يعبّر لشريكه عن حبه، جسدياً أو لفظياً، أمام أي شخص، سواء كان ذلك داخل البيت أو خارجه.
"لم أسمع في طفولتي أحداً يقول كلمة أحبك للآخر، بل كان التعبير عن الحب بطريقة أخرى كأن يقول أبي لأمي: "يسلم إيديكِ". لمى، فلسطينية سورية، تقيم في ألمانيا
تضيف: "لم أسمع في طفولتي أي شخص يقول كلمة أحبك للآخر، بل كان التعبير عن الحب بطريقة أخرى كأن يقول أبي لأمي: "يسلم إيديكِ"، بعد أن تعد طبخة لذيذة، أو أن يجلب لها أغراضاً تحتاجها، أو أن تعد أمي له وجبة يحبها مثلاً. بالتأكيد ليس من خلال قبلة أو عناق".
الحال لم يكن مختلفاً بالنسبة لأندرو، 35 عاماً، المقيم في مدينة هانوفر الألمانية منذ العام 2015، يقول: "نشأت في صعيد مصر، التي تعتبر بيئة محافظة جداً، لم أرَ في حياتي تقارباً جسدياً بين رجل وامرأة قبل وصولي ألمانيا سوى في الأفلام والمسلسلات. في نشأتي لم يكن من المستحب التعبير عن أي نوع من المشاعر. ومشاعر الحب مع الجنس الآخر كانت شبه مستحيلة، فهناك فصل شبه كامل بين الذكور والإناث حتى في الكنيسة".
حين وصل أندرو أوروبا، وكان يرى هذه المشاهد في الأماكن العامة بشكل متكرر كشيء عادي، شعر بالخجل نيابة عمن يقبلون بعضهم بعضاً، بحسب قوله.
يستفيض: "لعل أكثر مشهد لفت انتباهي ووجدتني أطيل النظر به مرغماً عند عهد وصولي كان في محطة القطار في مدينة بريمن الألمانية، فلقد رأيت شاباً وشابة محجبة ملامحهما عربية يتبادلان قبلاً في غاية الرومانسية والحميمية. اعترف بأن المشهد كان غريباً جداً بالنسبة لي، ربما بسبب ملامحهما العربية، لكنني لم أشعر بالاشمئزاز بل بالسعادة، لأنني وجدتني في مكان كل فرد فيه حر، يفعل ما يحلو له ما دام لا يؤذي غيره. تلك الفتاة كانت تشعر بالحرية والأمان كي تعيش وتفعل ما تريد دون أن يقول لها أحدهم هذا غلط أو عيب أو أنت غير محترمة أو سأطلب لك الشرطة، كما يحصل في بلادنا".
"أكثر ما لفت انتباهي كان في محطة القطار في مدينة بريمن الألمانية، فلقد رأيت شاباً وشابة محجبة يتبادلان قبلاً رومانسية". أندرو، مصري، مقيم في ألمانيا.
أما بالنسبة لبيتر، 39 عاماً، فإن مشاهدة رجل وامرأة يتبادلان القُبل في أماكن عامة لم يكن يثير استغرابه عند وصوله لألمانيا عام 2019، فهذه المشاهد تبدو عادية من المسلسلات والأفلام الأجنبية، ولكن المشاهد التي لم يكن قد اعتاد عليها رغم أنه يعرف بوجودها هي مشاهدة شخصين من الجنس ذاته يقبّل أحدهما الآخر، يقول: "رغم أنني كنت قد سمعت بأن هذا يحدث هنا، لم أكن قد رأيته من قبل، وكان مشهداً غريباً بالنسبة إلي حتى اعتدته".
تعتبر سمرا، 26 عاماً، السورية التي أتت إلى ألمانيا في العام 2015، التقبيل الرومنسي فعلاً له بعض الخصوصية، مكانه البيت لا الشارع. توضح: "حين أرى زوجاً يبالغان في تقبيل أحدهما الآخر في أماكن عامة، أسأل نفسي دوماً، أين خصوصيتهما؟ هل هما بحاجة فعلاً للتقبيل بهذا الشكل أمام الناس؟ ليس لديّ مشكلة معهما ولا أشعر بأنني أريد توجيه أي كلمة لهما، لكنني شخصياً لن أفعل مثلهما ولا أحب رؤية تلك المشاهد في الطريق". رغم أن سمرا وزوجها يتبادلان القُبل في الأماكن العامة لكنها قُبل سريعة، بحسب وصفها.
بعد سبع سنوات من الإقامة في ألمانيا اختلفت وجهة نظر لمى، وصارت تجد أن تبادل القبلات في الشارع أمر جميل، وأفضل من شجاراتهم. وليس لديها مشكلة هي وزوجها بشأن التقبيل في الأماكن العامة، وهي قبل "غير حميمية"، كما تصفها.
تردف مبتسمة: "أتذكر أول مرة قبلني بها زوجي في مكان عام. كان يجلس بجواري في الحافلة، لم أعرف ما الذي عليّ فعله، لم أبدِ أي ردة فعل، لم أستطع مشاركته التقبيل حتى، تسمرت في مكاني وكنت أشعر بالخجل والسعادة المفرطة في نفس الوقت".
"أتذكر أول مرة قبلني بها زوجي في مكان عام. كان يجلس بجواري في الحافلة، شعرتُ بالخجل والسعادة في نفس الوقت". لمى، فلسطينية سورية، تقيم في ألمانيا
وصلت أنسام، 31 عاماً، الفلسطينية مع زوجها إلى ألمانيا عام 2015، وهي لا تجد مشكلة بمعانقة زوجها عند السفر مثلاً في مكان عام، لكنها تعتبر القبلة شيئاً خاصاً لا تحب فعله في مكان كهذا.
وتضيف: "أجد صعوبة في التعبير عن مشاعري في الأماكن العامة، السلبية منها على وجه الخصوص، لا أحب النقاش في موضوع شخصي يزعجني في الحديقة العامة مثلاً، لأن تلك النقاشات تستحضر الغضب والعصبية، وأنا لا أحب الصراخ أمام الناس، رغم أن ليس هناك ما يمنعني، فالنقاشات الشخصية ستكون بالعربية بالتأكيد، ولن يفهمني من حولي، لكن فعل ذلك يشحنني بالكثير من الطاقة السلبية، لأنني أحب الحفاظ على خصوصيتي".
الصعوبات في التعبير عن المشاعر في الأماكن العامة، بحسب لمى، تكمن في طريقة تفكير البعض، فحين يرى هؤلاء أشخاصاً يتبادلون القبلات يعتبرون ذلك التصرف تعبيراً جنسياً، لا تعبيراً عن الحب أو السعادة أو القرب من الشريك مثلاً، لأن هؤلاء على حد تعبير لمى ما زالوا يقبعون في المرحلة ذاتها من التفكير ويرفضون التغيير.
تضيف: "كانوا يخبروننا في سوريا بأن من آداب الطريق أن تمشي الشابة أو السيدة متجهمة في الشارع، وألا تتلفت حولها كثيراً".
وأضافت أن السيدات المتزوجات حين كن يمشين مع أزواجهن في الشارع كان على المرأة أن تمشي بمحاذاة الرجل دون لمسه. وتوضح: "أعرف طريقة التفكير تلك ومن الطبيعي ألا أكون عفوية أو أن أتصرف بحرية مع زوجي حين يكون حولي أناس من هذه الخلفية، حتى لو كان هؤلاء أهلي أو أهل زوجي".
يوضح أندرو أنه وزوجته لا يشعران بأي نوع من الخجل في ذلك. لكنه يؤكد أن هذا يختلف حين يكونان في مصر أو لبنان.
ويؤكد: "يختلف تعبيري لزوجتي عن مشاعري إذا كان حولنا عرب، فلا أشعر بالحرية التامة وأضع حدوداً على كل تصرفاتي حتى بالكلام، وإنْ كان هؤلاء العرب أشخاصاً لا نعرفهم في المواصلات العامة مثلاً. أما بين الأجانب فأشعر بحرية أكثر بالكلام والأفعال لأنني أعرف أنهم لا يركزون على من حولهم، ولا أقول إن كل العرب يركزون على من حولهم، لكن ذلك موجود".
يعلق على ذلك بيتر: "مهما سافرنا وعشنا في بيئات مختلفة يستقر بداخلنا ذلك الخوف من نظرات الناس وحكم الناس علينا. لا أستطيع أن أنكر بأنني أعبر عن حبي لزوجتي بالقبلات والعناق أكثر حين أكون بين الأجانب".
يبدو أن ما يمنع معظم الأشخاص من التعبير عن مشاعرهم لأزواجهم وزوجاتهم في الأماكن عامة أو حتى داخل البيت أمام العائلات هو الناس والعادات والتقاليد التي كبروا عليها، لكن حين يجد بعض الأشخاص أنفسهم خارج نطاق تلك العادات والتقاليد، يصبح التعبير عن مشاعرهم أمراً مهماً وعفوياً لا يستحق كل تلك التعقيدات التي تبنيها بعض المجتمعات. لكن مع ذلك ما زالت العادات والتقاليد التي نتربى عليها حاضرة وتجعلنا نضع قيوداً بشكل غير واعٍ على تصرفاتنا وتعبيرنا عن الحب في الأماكن العامة أو حتى ضمن الأماكن الخاصة أمام أهل بيتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي